الصفحات

القيود ــ قصة قصيرة || آمال الشرابى

كانت تلهث خلف ألانقاض، إنتابتها فترات ضعف ووهن، نفضت عنها غبار الوهن واعطت نفسها شحنة قوة وطاقة داخلية مشتعلة، ابصرت بعد أن فقدت بصرها عشرون عاماً، عشرون عاماً هى ضريرة نسيت ملامح البشر، كان عندها ذاكرة قديمة تُخبئ بها بعض الاشخاص القدامى عند مراحل الطفولة التى فقدت بصرها عندها، هذا هو عمى احمد صاحب البقالة الذى كان يضحك فى وجهى ويعطينى قطعة حلوى كل يوم عندما اشترى منه بواحد جنية جبنة، وهذا عم رجب الذى كان يملأ جيوبى باللب والسودانى والحمص الذى اعشقة، هذة الست بهية الجالسة عند باب الشارع فى قرية جدى تعطينى يومياً القساء، وهناك عم صابر وزوجته يحملوننى بالتناوب ويشترون لى اللعب ويضحكون فى وجهى واجلس معهم على الحصيرة، وهناك كان يجلس جدى عند شجرة الزيتون وحولة النخل الكثيف اشاهد الاطفال الذين فى عمرى يلعبون ويجرون، وانا اشاهدعم فرحة ولكننى لا اشترك معهم فى اللعب، ابكى بكاءً مراً عندما يأتى ابى لكى يأخذنى.
الالم يقطع احشائى، ارحل معه، اهجر مكانى، اذهب الى بيتنا فى المدينة فى بيتنا تليفزيون، فى بيتنا بوتاجاز وثلاجة وفرن كهربائى، ولكنى أشعر بالتعاسة والفقد والوحدة، دموعى لا تجف، بركان من الدموع يملأ وسادتى، بركان من الالم يملأ فؤادى، بيت جدى ليس فيه كهرباء، هذة الشمعة فى جانب الحجرة تُعطينى الدفئ، تُعطينى الامان.
فقدت بصرى منذ هذا الوقت وتقطعت احشائى، ضاعت كل احلامى فى حادثة القطار مع بتر قدم جدى بُترت احلامى،مع موت جدتى وغيابى عن هؤلاء الاطفال الصغار ضاعت عيناى ولم ارى النور مع زوجة ابى التى ارهبتنى منهم وكأنهم داء سوف ينقل إلىَ العدوى، ليست عدوى الامراض فحسب بل عدوى اللغة والعادات والتقاليد.
مرت سنون فقدت فيها الكثير، فقدت حبى هناك، بعد أن فقدت طفولتى، وابى هذا الضعيف المستكين لا حول له ولا قوة، وانا اختبئ منها خلف الدولاب وتحت السرير، اختبئ من هذا الكرباج الذى تمسكة بيدها، وكرباج فى لسانها بطول هذا الحبل ، حبل مشنقة يلتف حولى.
هذة الحجرة إتخذتها صديقاً لى بعد ان ماتوا كل الاصدقاء، بعد أن مات كل شئ فى حياتى وداخلى، إتخذت حجرتى صديقاً احكى كل همومى ومشاكلى لحجرتى يومياً، تضمنى إليها بحنان الام، تمسح عنى دموعى وتبتسم لى، عذراً يا حجرتى لا استطيع رؤية الوانك، اتلمسك فلا ارى الا ظلام حولى، ظلام دامس يحلق حتى السماء، حتى قاع المحيطات لسابع ارض، اتحسسك فى الظلام الذى يملأ المكان ويملأ كيانى فلا اجد غيرتضاريسك البارزة، حسناً! فلا زلت احس بها.
مرت اعوام واعوام وانا لازلت لا ابصرإلا هذة المرأه المتسلطة، ينعقد لسانى امامها لا استطيع البوح، اغلقت علىَ الابواب، حرمتنى من الطعام والشراب، اغلقت الابواب والشبابيك، قامت بصنع اسلاك قوية شائكة خلف البلكونات.
قيودى من الحديد، كمامة على فمى، وعيناى لا ترى، صوتى لا يسمعه إنسان، لا اريد الطعام، اريد فقط أن افك قيودى، اريد فقط الخروج.
صرخت وصرخت، صوتى لا يخرج اسمعه فى داخلى، صداه يعود إلىَ، ولكننى سأحاول وأحاول.
صرخت بأعلى صوتها أنا إنسان ، أنا قوى، انا هنا، اعطنى القوة يا الله، وجدتنى فجأه ارى كل شئ، ارانى،لاول مرة ارى، كانت هناك سكين حاد بجانب المنضدة قطعت حبال القيد، مزقت كل الاسلاك، وتسلقت الجدران، لم اشعر بضعف بنيانى وجسدى الهزيل،السعادة تغمرنى بعودة بصرى إلىَ، وجدتى فوق الارض الدماء تنزف من قدمى ويدي، شعرى متناثر، العروق تبدو فى جسدى خضراء كثيرة، لا اشعر بألم، فالحرية هى الطعام والشراب، الحرية هى الفرحة والسعادة، رأيت حياتى من جديد.
بهذة الكلمات أفاقت منى من حلمها وهى تذاكر دروسها بعد نوبة سرحان عميقة، لتلتفت حولها الحمد لله انا لست مقيدة، ليس لى زوجة اب،انا هنا ولكننى كسولة بعض الشئ، تقيدنى اوهامى واحلامى وطموحاتى من غير فعل، لالا سوف اجاهد نفسى واقاوم هذا الضعف بداخلى،انا انسان لابد ان اكون اقوى من هذا الكائن الذى بداخلى وسأجتهد حتى اصل الى النجاح والتفوق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.