الصفحات

العامية في لغة الرواية ... ‎موقف الأدباء بين الرفض والتحفظ

ضم كتاب (شفيف النص) للدكتور عبد الفتاح محمد جانباً من الجوانب التي لامست شفافية النص تحت عنوان (لغة الرواية بين فصيح السرد وعامي الحوار).
كتبت رزان القرواني :ــ 
‎نعلم بأن الحوار الروائي يؤدي عدة وظائف لكن وظيفته الأساسية تتمثل في الكشف عن خصائص الشخصية وطبيعتها ومستواها،‏
‎وتوصل كتاب روائيون إلى لغة في الحوار قريبة من العامية تتمتع بشكل فصيح سميت باللغة الثالثة وتجد مثلاً عليها في روايات نجيب محفوظ ، لكن روائيين آخرين مالوا نحو استخدام اللهجة العامية في الحوار بين الشخصيات التي لم تنل حظاً من التعليم: فلاح – عامل- بواب... ألخ‏
‎لزيادة الإيهام بالواقعية ولتصوير البيئة والمناخ الذي تتحرك فيه الشخصيات.‏
‎يفتنُّ النقاد والدارسون في انتقاء مفردات وتراكيب يدللون فيها على أهمية اللغة في العمل الروائي، فلا خيال إلا باللغة ولا جمال إلا باللغة، ولا صلاة إلا باللغة ولاحب إلا باللغة، ولا حضارة إلا باللغة وربما أجملوا
القول فأعلنوا أن سوق الأدب لغة ومن دون لغة لا تنفق سوق الأدب ليس الحديث عن الفصيح والعامي في لغة الرواية بجديد، فبعد مرور ست وثمانين سنة ما تزال هذه القضية تطرح وعلى جانب من الحدة إلى جانب قضايا كثيرة تتصل بلغة الرواية، ربما الجديد في هذه القضية ظهور مواقف كثيرة متباينة وولادة نصوص روائية كثيرة وإنجاز عدد كبير من الدراسات النقدية التي تجعل من قضية لغة الرواية أكثر إشكالية يصعب معها الوصول إلى حسم ، أو ما يشبه الحسم، وأكثر ما يتناول الموقف العامي في لغة الرواية فنجد رفضاً للعامي، أو تحفظاً نحوه.‏
‎ولعل أبرز الذين يمثلون موقف الرفض للعامية الدكتور عبد الملك مرتاض الذي شن حملة شعواء على العامية وعلى مستعمليها، وعلى المقولات النقدية التي تسوغها ومن ضمنها تلك المقولة التي أطلقت في ستينات القرن الماضي التي كانت تواجه الروائيين ، ومفادها أن
دكتور عبد الفتاح محمد
الدكتور عبد الفتاح محمد 
للغة الرواية مستويين ، مستوى السرد ولغته فصيحة سليمة راقية ، ومستوى الحوار وتكون لغته متدنية وعامية، وهو يصف هذه المقولة بأنها مغلوطة وإن هدف أصحابها إلى تحقيق المقدار الأعلى من واقعية الفن، لذلك ينسى هؤلاء النقاد أن من الممكن جداً أن يكتب الروائي رواية شخصياتها صينية، فهل باسم واقعية الفن والأدب لا يكتب عن المجتمع الصيني إذا كتب إلا بلغة صينية من وجهة، وإلا بمستويين اثنين من اللغة من وجهة أخرى؟‏
‎وهو يعلن أنه عند قراءته رواية ما كان يتتبع الرواية في نصها السردي حتى إذا جاء الحوار عافه لعدم فهمه إياه ولاستبشاعه لعاميته الساقطة، ويمثل لهذا بما كتبه إحسان عبد القدوس ، ويوسف السباعي.‏
‎ويصرح الدكتور مرتاض في غير موضع أن العامية إيذاء للغة العربية وتسويد وجهها، وتلطيخ جلدها وإهانتها وهو يقرر بحزم: (لا نقبل العامية في كتابة الحوار).‏
‎وأما موقف المتحفظين فيمكن أن نمثل له بموقف إبراهيم عبد القادر المازني الذي قدم لروايته (إبراهيم الكاتب) التي صدرت عام 1931 م بمقدمة طويلة ورد فيها ما يدل على موقفه، يقول فيها:‏
‎وقد تحريت في الحوار أن أتقي العامية ما استطعت ما خلا مواضع قليلة رأيت أنَّ العربية تجيء فيها نابية قلقة، وقد حملني على ذلك أن العامية لغة الحوار عندما يستوي في ذلك المتعلم والأمي، وإن كانت لغة المتعلم بالعربية أشبه، وإليها أقرب فإذا تحرينا الواقع كان لا بد أن يكون كل حوار باللغة العامية مع تفاوت ضئيل تبعاً لمراكز المتكلمين وحظوظهم من التعليم أو الجهل، والحوار يشغل جانباً ليس بالقليل فكأن العامية ستتخذ أداة للكتابة وهي في رأي لا تصلح لهذا لكثرة ما ينقصها من عناصر التعبير ولحاجة الحوار الشديدة إلى الضبط والإحكام، والطبيعي إن لغة الكلام ترقى مع انتشار التعليم، وتقترب شيئاً فشيئاً من اللغة العربية، فاتخاذ العامية أداة للحوار عكس للآية، ثم إن العربية أداة ثابتة على كثرة ما يطرأ عليها من التطور، وهي تتسع وتلين وتزداد صقلاً على الأيام، والعامية لا ثبات لها، وهي تندمج في العربية بعد أن استقت منها وانفصلت عنها ثم إن محاكاة الواقع بالمعنى الحرفي لا معنى لها لأن الأدب فن وليس مجرد نقل ومحاكاة... ومن هنا آثرت الحوار أن يكون باللغة العربية حيثما بدا لي‏
‎أن إيثارها لا يستنكر السماع وقصرت العامية على مواقف قليلة رأيتها تكون فيها أقوى في التصوير، واضوأ في التعبير)).‏
‎وقد رأى بعض الدارسين أما المازني قد حل بهذا قضية الصراع بين الفصحى والعامية حلاً طيباً ما يزال يتبعه كثير من كتابنا، وذلك لأن المازني وازن قدر استطاعته بين حاجات الفن، وطبيعة اللغة لكن الغريب أن المازني يبدل من موقفه هذا في روايته (إبراهيم الثاني) التي صدرت عام 1943، ذلك أنه التزم الحوار الفصيح مما يكشف عن تغيير جوهري في أسلوب المؤلف، ويرجح بعضهم أن ذلك كان بتأثير فكرة القومية في الديار المصرية، وتأثر المفكرين بها.‏
‎أما موقف المكثرين من العامي في الحوار في لغة الرواية فنمثل له بموقف توفيق الحكيم الذي يختلف عن موقف معاصره المازني، فالحكيم (لم يتردد لحظة في استخدام اللهجة العامية في حواره التي يراها أكثر قدرة على تحقيق أغراضه، وتمشياً مع نظرته إلى اللغة كوسيلة للتعبير بصرف النظر عن أية قيم جمالية قد تصطدم مع هذا الهدف، وبالدافع نفسه أيضاً لم يتردد في استخدام بعض الألفاظ العامية في السرد حين تفرض
عليه الضرورة استخدامها.‏
‎وموقف هذا جرَّ هجوماً عنيفاً مما اضطر الحكيم إلى سحب روايته (عودة الروح) من السوق والغريب أن المازني الذي سبق له أن استخدم العامية في حواره أسهم إسهاماً فعالاً في تلك الحملة ناعياً غلطات الرواية، وضعف أسلوبها وركونها إلى العامية.‏
‎وأما موقف المؤيدين للعامية فيمكن أن نرصده عند نفر ممن سلكوا طريق الحداثة في النقد متأثرين بمدارس نقدية غربية، ومن هؤلاء الدكتور بوشوشة بن جمعة الذي يرى في المحلية خصوصية ثقافية وحضارية تمثل السبيل إلى العالمية، ويرى فيما كتبه البشير خريف روايات تتصف بالطابع الواقعي المغرق في المحلية ومن سمات هذه المحلية لغة خطابه الروائي التي هيمنت العامية على مقاطع الحوار فيها، واستعمال العامية عنده دليل الصدق الفني يقول: وبتلك اللغة تصبح العامية عند البشير خريف عنصراً من العناصر التي تمكنه من الصدق الفني في كتاباته الروائية، كما يرى فيها تخليصاً من القوالب الجاهزة، وامتلاكاً لطاقات جديدة ، يقول : ( وهي – يقصد العامية- إلى ذلك السبيل إلى التخلص من القوالب الجاهزة ، وإلى الابتكار بحكم ما تتوفر عليه من طاقات بلاغية وإيحائية مكثفة لا تقل قيمة عن تلك التي تتوفر عليها بالفصحى، وهو يرى أن استعمال العامية مع الفصحى مفاجأة لغوية تأتي بكثافة إعلامية جديدة فيها مضامين جمالية مجددة تخرج على القاعدة العامة، وتصبح ميلاً أو عدولاً.‏
‎والقول في هذه القضية ما انتهى ولن ينتهي ما دام الكون عامراً ببني البشر لأن هذا يمثل سعي الإنسان نحو الكمال في أمور إنسانية لا كمال فيها، وهل في طاقة الإنسان أن يصدر عن تصور كلي بنظام اللغة؟ ثم أليست اللغة الحية في حراك مستمر فالكلمات تتغير وتتجدد تموت وتبعث، يزول بعضها من الوجود ويولد بعضها، ويؤكد بعض اللغويين أن الكلمات تزول بسرعة ثابتة، ففي 800 سنة، يزول عشرون بالمئة من اللغة وفوق هذا فإن لغة الرواية والأدب عامة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتجربة المبدع، والمبدعون متفاوتون موهبة وثقافة وإحساساً وأسلوبا وغنى في اللغة أو فقراً فيها وكل هذا وغيره له أثره في الإبداع مما يزيد في إشكالية هذه القضية.‏
‎وعلى الرغم من هذا كله، ثمة نموذج منشود يبدو كضوء في آخر النفق أكثر ما يشار إليه باللغة الثالثة، أو الوسطى أو الميسرة أو المبسطة ويكاد يكون هذا توجهاً عاماً في أقوال دراسي لغة الرواية، ومع أن هذا النموذج المنشود لا يمكن أن يوجد بوصفة سحرية جاهزة فإن ثمة إشارات تلمح إليه منها:‏
‎1 -أن تكون لغة الرواية وسطى، لا هي فصحى عالية، ولا عامية ملحونة ولا سوقية هزيلة .‏
‎2 - أن تكون شعرية ما أمكن، موحية ما أمكن موجبة ما أمكن.‏
‎3 - أن تكون أنيقة رشيقة عبقة مختالة متفجرة متحفزة زئبقية...‏
‎4 - أن تراعي مستويات المتلقين كي تكون مفهومة لدى معظم القراء.‏
5 ‎ - أن تصطنع الجمل القصار ما أمكن.‏
‎- 6 ألا يطغى الحوار على السرد كي لا تتحول إلى مسرحية.‏
‎- 7 أن تلتزم الذكاء الاحترافي في تقديم الحوار بحيث يكون مقتضباً، قصيراً قليلاً.‏
‎8 - أن يسعى الروائي فيها إلى استثمار لغات الواقع ليشكل منها بين العناصر من المنظورين الشكلي والجمالي.‏
‎9 - السعي إلى إيجاد علاقات لغوية جديدة قد تكون تعبيراً عن توق إلى واقع جديد وربما من ههنا تأتي ثورية الأشكال والأساليب ، عندما تكون جديدة حقاً.‏
‎10 - أن تمتاز لغة الرواية بشيء من الحرية والانطلاق.‏

رزان القرواني




هناك تعليق واحد:

  1. الأديبة رزان القرواني لها القدرة على المتابعة ، وهي مشكورة على هذا العرض ، مع تمنياتي لها بدوام التوفيق لتحقيق مستقبل حافل بالجديد المفيد
    المؤلف أ. د. عبد الفتاح محمد

    ردحذف

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.