* محمد المطارقي
منطقة غير مأهولة.. قليل هم الذين ارتادوها، وحاولوا الغوص فيها.. ليستخرجوا لنا عالم شديد الخصوصية بشخوصه وأحداثه وصراعاته، هى لاشك أعمال مهمة للغاية، كاشفة للمجتمع بكافة مستوياته. تدفعنا لإعادة النظر مرة أخرى إلى هذا العالم المهمل مع سبق الإصرار، المنسى بقصدية.. المخبوء خلف واقعنا المتردى. المتصارع،هى شخصيات تعيش بيننا، لكننا لا نراها.. فهى أقل من أن ننتبه لوجودها.. هى فى نظرنا شخصيات من الطبقة الثالثة أو الرابعة إنها شخصيات على هامش الظل، ننظر اليها بعين السخرية والازدراء.. أو بعين الشفقة .. ثم تلفها عوامل الإهمال والنسيان، فهى أقل شأنا من أن نعبأ بوجودها، فثمة ما هو أهم. هذا قدرهم، ولهم رب اسمه الكريم.. وهنا يأتى دور الأدب والفن، ليدفعنا الى إعادة
النظر إليهم مرة أخرى، بصورة مغايرة ، ليس لمجرد قبولهم كأفراد فى المجتمع لهم كافة الحقوق الواجبة ، ولكن ـ وهذا من مهام الأدب والإبداع ـ أن يكشف اللثام عن أعيننا لنكتشف هذه الشخصيات البائسة ، فى صورتها الحقيقية، ونتأملها بعمق، فنحسن تعاملنا معها، ونمنحها كل الحقوق المشروعة فى العيش بيننا كجزء أصيل داخل بنيان هذا المجتمع. إنهم ذوى الاحتياجات الخاصة.
*
وفى رواية ” قلوب العصافير ” الصادرة عن دار ((زهور المعرفة والبركة)) وهى رواية تم ادراجها ضمن القائمة الوزارية لمكتبات وزارة التربية والتعليم بجمهورية مصر العربية. يطالعنا الأديب عبد الباسط البطل بعمل مهم. تدور أحداثه فى قرية “شبرا ملكان” إحدى قرى محافظة الغربية ، التابعة لمركز ومدينة المحلة الكبرى. مسقط رأس الكاتب ومحل إقامته.
هى رواية تربوية كما أشار الكاتب على رأس الغلاف.. وفى تقديرى أنها موجهة ببساطة شديدة إلى الأسرة.. هى إذن رسالة حاول المؤلف أن يقدمها فى قالب فنى ، وبشكل بسيط ليستوعبها القارىء العادى، ويصبح فى مقدوره التعامل مع مثل هذه الحالات من ذوى الاحتياجات الخاصة. فهو ـ أى القارىء ـ ليس أقل من شخصية “الحاج على” ذلك الفلاح البسيط .. أو عبد الرحمن موظف الشئون الاجتماعية.. أو الأستاذ مختار المدرس الابتدائي.. أو منار المعلمة بالمدرسة الفكرية و التى تقوم بتحضير دراسات الماجستير عن أطفال ذوى الاحتياجات الخاصة..
إنها شخصيات جميعها تمتاز بقدرتها الفائقة على إدهاشنا ، حين يستخدمون الأسلوب الأمثل للتعامل مع حالة البطل “محمد” الشخصية المحورية للرواية، والذى يعانى من متلازمة داون.. وهى شخصيات مكملة لبعضها، كل منهم يعرف دوره المنوط به، فالجد “الحاج على” يستخدم لغة الحكى كأداة فاعلة لتنشيط خيال محمد، وبث الثقة فى نفسه.. والجد هنا واع بما يصنع، والحكاية لها مفعول السحر فى تكوين شخصية الطفل، فما بالك بذوى الاحتياجات الخاصة.. إنه أكثر احتياجا لهذا اللون من التربية.. وهذا ما نجح فيه الجد الى حد بعيد.. فالجد يجعل من محمد نفسه بطلا لحكاياته التى يحكيها له. والحكايات ليست أداة الجد الوحيدة فقط وإنما ثمة أدوات أخرى لا تقل أهمية عن الحكاية نفسها .. بل قد تفوقها أحيانا.. فحالة العاطفة الجياشة ، والحنان الزائد الذى يستشعره الصغير محمد تساعد فى حالة إشباعه النفسى، الجد يستخدم كذلك أسلوب التربية باللعب، حين يصطحب محمد إلى الحقل، ويصنع له أرجوحة على الشجرة..واللعب بالنحل ( وهى نوع من الألعاب معروفة فى القرى والأحياء الشعبية ) والجد يحرص كذلك على دمج حفيده فى المجتمع من خلال الأطفال الذين هم فى مثل سنه، يدعوهم للعب معه، ليعتاد الصغير على التعامل مع المجتمع الخارجى.. أو تزكية روح المنافسة والحرص على التعلم بشغف حين تقدم الجد بأوراقه إلى مدرسة محو الأمية برفقة حفيده. الجد بذكائه الفطرى، وخبرته الحياتية استطاع أن يلقن الصغير دروسا ستظل ملازمة له طوال حياته.
ثم تستكمل شخصية أخرى مشوار الجد باصطحاب الطفل البطل إلى عالم أكثر رحابة ، وشخصيات أخرى خارج نطاق القرية.. إنه عبد الرحمن الشاب المثقف، الذى يمارس مهنة الكتابة ويمتلك مكتبة كبيرة داخل بيته.. فهو بجانب عمله كموظف بالشئون الاجتماعية يمارس عملا إضافيا كتاجر ، يشترى بضائع من مدينة المحلة الكبرى، التى تشتهر بها كالملابس القطنية والفوط والبشاكير وأطقم الأسرة والمفارش وغيرها ليذهب بها إلى بلاد أخرى.. وهنا يخرج الطفل الصغير من عالمه المحدود برفقة خاله ليتعرف على عالم أكثر رحابة، ليتم تلقينه دروسا أخرى تضاف إلى رصيده الذى قدمه الجد. مع التأكيد على الجانب العاطفى، والحنان الذى يحيطه به الخال أو كما يناديه الصغير “أبى عبد الرحمن”..
ثم تأتى شخصية “منار” المعلمة التى تقوم بإعداد دراسة ماجستير عن الأطفال المصابون بمتلازمة داون، فتجد ضالتها فى شخصية الصغير محمد، فتعمل قصارى جهدها، وتستخدم طرقا أخرى إضافية للشخصيات التى سبقتها ، لتصل بالصغير إلى ذروة النجاح.. ليحصل على الشهادة الثانوية الصناعية ، ويستعد لدخول الجامعة، فضلا عن مشروعه التجارى الناجح بمشاركة صديقه عمار.
والكاتب نجح بالفعل فى اجتذابنا نحو أحداث الرواية ، و رسم شخصياتها بعناية شديدة، فكان لكل شخصية ملامحها المحددة، المتفردة ، لتتلاقى جميعها على هدف مشترك وهو الإيمان بأحقية محمد فى أن يعيش فى المجتمع كإنسان .. والتأكيد على أن هؤلاء الذين يعانون من مثل هذه الحالة هم أحوج ما يكونوا لمن يشعر بهم ويشعرهم بذاتهم، ويبث فيهم روح الثقة ، المصحوبة بالحب و الحنان.
الرواية مفعمة بالروح الجياشة، والغوص داخل أعماق الشخصيات، وبالأخص شخصيات الجدعلى .. والخال عبد الرحمن .. وشخصية محمد
ولقد أحسن الكاتب بالتقاطه للعصافير، واستخدامها كمفردات للحكايات.. أو إلصاقها بذكاء بهؤلاء الصغار من ذوى الاحتياجات الخاصة.. فالعصافير مرادف للبراءة، والرقة، والبساطة.. والتلقائية.. والحرية..
منطقة غير مأهولة.. قليل هم الذين ارتادوها، وحاولوا الغوص فيها.. ليستخرجوا لنا عالم شديد الخصوصية بشخوصه وأحداثه وصراعاته، هى لاشك أعمال مهمة للغاية، كاشفة للمجتمع بكافة مستوياته. تدفعنا لإعادة النظر مرة أخرى إلى هذا العالم المهمل مع سبق الإصرار، المنسى بقصدية.. المخبوء خلف واقعنا المتردى. المتصارع،هى شخصيات تعيش بيننا، لكننا لا نراها.. فهى أقل من أن ننتبه لوجودها.. هى فى نظرنا شخصيات من الطبقة الثالثة أو الرابعة إنها شخصيات على هامش الظل، ننظر اليها بعين السخرية والازدراء.. أو بعين الشفقة .. ثم تلفها عوامل الإهمال والنسيان، فهى أقل شأنا من أن نعبأ بوجودها، فثمة ما هو أهم. هذا قدرهم، ولهم رب اسمه الكريم.. وهنا يأتى دور الأدب والفن، ليدفعنا الى إعادة
النظر إليهم مرة أخرى، بصورة مغايرة ، ليس لمجرد قبولهم كأفراد فى المجتمع لهم كافة الحقوق الواجبة ، ولكن ـ وهذا من مهام الأدب والإبداع ـ أن يكشف اللثام عن أعيننا لنكتشف هذه الشخصيات البائسة ، فى صورتها الحقيقية، ونتأملها بعمق، فنحسن تعاملنا معها، ونمنحها كل الحقوق المشروعة فى العيش بيننا كجزء أصيل داخل بنيان هذا المجتمع. إنهم ذوى الاحتياجات الخاصة.
*
وفى رواية ” قلوب العصافير ” الصادرة عن دار ((زهور المعرفة والبركة)) وهى رواية تم ادراجها ضمن القائمة الوزارية لمكتبات وزارة التربية والتعليم بجمهورية مصر العربية. يطالعنا الأديب عبد الباسط البطل بعمل مهم. تدور أحداثه فى قرية “شبرا ملكان” إحدى قرى محافظة الغربية ، التابعة لمركز ومدينة المحلة الكبرى. مسقط رأس الكاتب ومحل إقامته.
هى رواية تربوية كما أشار الكاتب على رأس الغلاف.. وفى تقديرى أنها موجهة ببساطة شديدة إلى الأسرة.. هى إذن رسالة حاول المؤلف أن يقدمها فى قالب فنى ، وبشكل بسيط ليستوعبها القارىء العادى، ويصبح فى مقدوره التعامل مع مثل هذه الحالات من ذوى الاحتياجات الخاصة. فهو ـ أى القارىء ـ ليس أقل من شخصية “الحاج على” ذلك الفلاح البسيط .. أو عبد الرحمن موظف الشئون الاجتماعية.. أو الأستاذ مختار المدرس الابتدائي.. أو منار المعلمة بالمدرسة الفكرية و التى تقوم بتحضير دراسات الماجستير عن أطفال ذوى الاحتياجات الخاصة..
إنها شخصيات جميعها تمتاز بقدرتها الفائقة على إدهاشنا ، حين يستخدمون الأسلوب الأمثل للتعامل مع حالة البطل “محمد” الشخصية المحورية للرواية، والذى يعانى من متلازمة داون.. وهى شخصيات مكملة لبعضها، كل منهم يعرف دوره المنوط به، فالجد “الحاج على” يستخدم لغة الحكى كأداة فاعلة لتنشيط خيال محمد، وبث الثقة فى نفسه.. والجد هنا واع بما يصنع، والحكاية لها مفعول السحر فى تكوين شخصية الطفل، فما بالك بذوى الاحتياجات الخاصة.. إنه أكثر احتياجا لهذا اللون من التربية.. وهذا ما نجح فيه الجد الى حد بعيد.. فالجد يجعل من محمد نفسه بطلا لحكاياته التى يحكيها له. والحكايات ليست أداة الجد الوحيدة فقط وإنما ثمة أدوات أخرى لا تقل أهمية عن الحكاية نفسها .. بل قد تفوقها أحيانا.. فحالة العاطفة الجياشة ، والحنان الزائد الذى يستشعره الصغير محمد تساعد فى حالة إشباعه النفسى، الجد يستخدم كذلك أسلوب التربية باللعب، حين يصطحب محمد إلى الحقل، ويصنع له أرجوحة على الشجرة..واللعب بالنحل ( وهى نوع من الألعاب معروفة فى القرى والأحياء الشعبية ) والجد يحرص كذلك على دمج حفيده فى المجتمع من خلال الأطفال الذين هم فى مثل سنه، يدعوهم للعب معه، ليعتاد الصغير على التعامل مع المجتمع الخارجى.. أو تزكية روح المنافسة والحرص على التعلم بشغف حين تقدم الجد بأوراقه إلى مدرسة محو الأمية برفقة حفيده. الجد بذكائه الفطرى، وخبرته الحياتية استطاع أن يلقن الصغير دروسا ستظل ملازمة له طوال حياته.
ثم تستكمل شخصية أخرى مشوار الجد باصطحاب الطفل البطل إلى عالم أكثر رحابة ، وشخصيات أخرى خارج نطاق القرية.. إنه عبد الرحمن الشاب المثقف، الذى يمارس مهنة الكتابة ويمتلك مكتبة كبيرة داخل بيته.. فهو بجانب عمله كموظف بالشئون الاجتماعية يمارس عملا إضافيا كتاجر ، يشترى بضائع من مدينة المحلة الكبرى، التى تشتهر بها كالملابس القطنية والفوط والبشاكير وأطقم الأسرة والمفارش وغيرها ليذهب بها إلى بلاد أخرى.. وهنا يخرج الطفل الصغير من عالمه المحدود برفقة خاله ليتعرف على عالم أكثر رحابة، ليتم تلقينه دروسا أخرى تضاف إلى رصيده الذى قدمه الجد. مع التأكيد على الجانب العاطفى، والحنان الذى يحيطه به الخال أو كما يناديه الصغير “أبى عبد الرحمن”..
ثم تأتى شخصية “منار” المعلمة التى تقوم بإعداد دراسة ماجستير عن الأطفال المصابون بمتلازمة داون، فتجد ضالتها فى شخصية الصغير محمد، فتعمل قصارى جهدها، وتستخدم طرقا أخرى إضافية للشخصيات التى سبقتها ، لتصل بالصغير إلى ذروة النجاح.. ليحصل على الشهادة الثانوية الصناعية ، ويستعد لدخول الجامعة، فضلا عن مشروعه التجارى الناجح بمشاركة صديقه عمار.
والكاتب نجح بالفعل فى اجتذابنا نحو أحداث الرواية ، و رسم شخصياتها بعناية شديدة، فكان لكل شخصية ملامحها المحددة، المتفردة ، لتتلاقى جميعها على هدف مشترك وهو الإيمان بأحقية محمد فى أن يعيش فى المجتمع كإنسان .. والتأكيد على أن هؤلاء الذين يعانون من مثل هذه الحالة هم أحوج ما يكونوا لمن يشعر بهم ويشعرهم بذاتهم، ويبث فيهم روح الثقة ، المصحوبة بالحب و الحنان.
الرواية مفعمة بالروح الجياشة، والغوص داخل أعماق الشخصيات، وبالأخص شخصيات الجدعلى .. والخال عبد الرحمن .. وشخصية محمد
ولقد أحسن الكاتب بالتقاطه للعصافير، واستخدامها كمفردات للحكايات.. أو إلصاقها بذكاء بهؤلاء الصغار من ذوى الاحتياجات الخاصة.. فالعصافير مرادف للبراءة، والرقة، والبساطة.. والتلقائية.. والحرية..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.