من بين الصمت تدافع الصوت عاليا: "بوستة" هاتفا باسم جيرانه الذين يسكنون في الدور العلوي في المنزل المكون من دورين.
يتوالى النداء.. يخفت.. يرتفع لينزوي شيئا فشيئا الصمت الذي كان يحيط به، هذا الصباح لم يسمع صرخات الأم في وجه ابنتها الصغيرة؛ التي كانت تزرع الشقة ذهابا إيابا وصوت بكاء البنت الذي دائما يبدد صمته. يمضى تجاه باب الشقة.. يريد.. يمضى. بين حيرة وتردد يفتح مناديا بالرغم من أنه قطع صلته بهم ولم يعد يربطه شيء بهم. يرتد لصوته صداه، يقذف إليه الموزع خطابا راجيا تسليمه إليهم. يدخل شقته.. يلقيه على أقرب أريكة, يسقط على اسم الراسل.
يده ترتعش وهي تضم الخطاب بين الأصابع، يمعن في اسم الراسل جيدا يأبى قدره أن يذوق طعم النسيان.
تذكر خطاباتها إليه.. كلمات مسطورة على ورق ملون, أحلام.. أحبك.. أعشقك.. إلى الأبد. رحلت لبلاد أخرى بعيدة بعد زواجها. يعلق كل يوم أحزانه بعد رحليها. يدفنها بين دفات الصدر.
يذكره بها دائما سكن أختها معه بنفس المنزل, تسميتها لابنتها باسم حبيبته, الحزن يسبل دروبه والقلب يحمل أتراحاً كثيرة والنفس كل يوم تشقى في غيابها. يقرر فتح الرسالة فقد اشتاق لحروف كلماتها, يلقى بها مستغفرا ومتعوذا، ولم يترك ركنا في أركان شقته لم تطأه قدماه.. ماثلة في مقلتيه حروف اسمها, أشياء كثيرة تزجره وتنهاه، وما الذي يضيره لو قرأها وأعادها من جديد لهيئتها الأولى.
يعالج لزوجة الخطاب.. يفضها. تسيطر عليه مسحة من قلق وتساؤلات عديدة والتي تحويه تلك الرسالة؟ أأسرار بين أختين؟! بالرسالة شيء يذكر عنه. تمر مقلتا العينين بسرعة على الديباجة والتحيات والسلامات.
أما بعد
أختي الغالية: في تلك البلاد لا أحد يزور أو يزار. يموت الإنسان دون أن يدرى به أحد من جيرانه. اللهم إلا إذا انبعثت تلك الرائحة؛ فتتأذى مشاعرهم. وقتها يتحركون وعندها تستقر في العين لحظات قليلة جدا من الحزن، ثم يعودون لحياتهم من جديد كأن شيئا لم يكن. تذكرين ونحن صغار شقتنا وشقق الجيران المفتوحة ندخل إحداهما.. نأكل.. نشرب.. نلعب. كان الدفء يحيط بكل القلوب. فارقت السعادة نفسي وعفتها منذ وطأت قدمي لتلك البلاد. عندما رحلت من بلدنا عندما حرمت منه. حروف كلمة ممحوة, تلك هي حروف اسمه. تتسمر الحروف الممحوة في المآقي.. تغيم الرؤية.. تتبعثر السطور.. تختلف الجمل والكلمات.
***
يأتي من بعيد صوت.. يغيب في نشوته..
ما بحبش حد إلا أنت ولا نفسي كمان يا حياتي
من بعد ما حبك غطى غطى على حبي لذاتي
وهي تأتي لزيارة أختها تمارس طقوسا لا تحيد عنها.. "بس.. بس", عيناه لأعلى, تشير له بالساعة, تحدد الموعد بأصابعها.
كان يصل قبل موعده بوقت طويل يجدها في انتظاره جالسة. تتشابك أصابعها, وسط الصخور والموج المتلاطم حولهما, ينسجان أحلامهما الصغيرة يبنيان بيوتا وقصورا, يحتضن كفها رسالة منه, تناوله الأخرى, ويمضيان عائدين. تمحو أصابعه دمعة انحدرت على خده, يعود لمزج أحرف الرسالة وتكوين الجمل من جديد.
أختي العزيزة/..
في ذلك البلد الكل ترس في آلة صماء.. تحكمها قوانين وأشياء كثيرة تلتهم من يغفل عنها أو يتوانى لحظة، روتين يومي لا تتغير أحداثه أبداً.
يصحو زوجي من نومه.. يتناول إفطاره واقفا.. يسرع لعمله. وأظل جالسة في انتظاره. يعود أخر اليوم وقد نسج خيوطا للنوم، وأعد نفسه لذلك دقائق قليلة وصوت دوي أنفاسه يبدد صمت الليل الطويل.
كل شيء يتجمد.. غبش جليدي على زجاج النوافذ التي يطل منها ضوء باهت في وسط الصقيع, الشمس والنجوم اختفيا ولا يبقى إلا ضوء الطريق والشعاع المتسرب من خلال الستائر.
شيء يجبرني على الرجوع. أحلم بتخطي تلك الأسوار، تحطيمها، حتى لا أعود إليها ألعن في كل يوم الغربة التي جعلتني لم أر أمي في لحظاتها الأخيرة. ملعونة تلك التي سرقت مني الأحلام.
(....) أتخيله يرقد بجواري. توقظه قبلاتي على وجهه, أنهل من حبه ولا أفيق إلا على صدى ابتسامة باهتة من زوجي.
هل عرف غيري؟ كيف هو؟.. أتزوج؟ مازلت احتفظ برسائله. أسمعك تقولين كيف وقد مزقتها بيديك.
لم أتخلص منها.. أعدت لصقها من جديد، وطُمست معظم حروف كلماتها لا يهم فأنى أحفظها عن ظهر قلب.
تهفو الروح إليه. أشتاق لأنامله حين كان يداعب خصلات شعري، واستوقفني مرة أثناء صعودي لك ولم أدر بالدنيا حين لامست شفتاه شفاهي، وانتفض جسدي وارتعش.
أختاه:
سئمت كل شيء ولم يعد هناك سوى الرجوع، ولم يعد يربطني بالغربة شيء وتحطمت بيني وبين زوجي كل الأشياء.
أختك (.....)
يمعن جيدا في قراءة ما يخصه في الرسالة وما تتحدث عنه حروف كلماتها، أعاد قراءتها مرات ومرات، وفي كل مرة تتفاوت بالقلب مشاعر كثيرة، وما كان يؤرقه ويشغل تفكيره هو كيف يعيد الخطاب إلى هيئته الأولى.
عصام سعد حمودة
الاسكندرية
يتوالى النداء.. يخفت.. يرتفع لينزوي شيئا فشيئا الصمت الذي كان يحيط به، هذا الصباح لم يسمع صرخات الأم في وجه ابنتها الصغيرة؛ التي كانت تزرع الشقة ذهابا إيابا وصوت بكاء البنت الذي دائما يبدد صمته. يمضى تجاه باب الشقة.. يريد.. يمضى. بين حيرة وتردد يفتح مناديا بالرغم من أنه قطع صلته بهم ولم يعد يربطه شيء بهم. يرتد لصوته صداه، يقذف إليه الموزع خطابا راجيا تسليمه إليهم. يدخل شقته.. يلقيه على أقرب أريكة, يسقط على اسم الراسل.
يده ترتعش وهي تضم الخطاب بين الأصابع، يمعن في اسم الراسل جيدا يأبى قدره أن يذوق طعم النسيان.
تذكر خطاباتها إليه.. كلمات مسطورة على ورق ملون, أحلام.. أحبك.. أعشقك.. إلى الأبد. رحلت لبلاد أخرى بعيدة بعد زواجها. يعلق كل يوم أحزانه بعد رحليها. يدفنها بين دفات الصدر.
يذكره بها دائما سكن أختها معه بنفس المنزل, تسميتها لابنتها باسم حبيبته, الحزن يسبل دروبه والقلب يحمل أتراحاً كثيرة والنفس كل يوم تشقى في غيابها. يقرر فتح الرسالة فقد اشتاق لحروف كلماتها, يلقى بها مستغفرا ومتعوذا، ولم يترك ركنا في أركان شقته لم تطأه قدماه.. ماثلة في مقلتيه حروف اسمها, أشياء كثيرة تزجره وتنهاه، وما الذي يضيره لو قرأها وأعادها من جديد لهيئتها الأولى.
يعالج لزوجة الخطاب.. يفضها. تسيطر عليه مسحة من قلق وتساؤلات عديدة والتي تحويه تلك الرسالة؟ أأسرار بين أختين؟! بالرسالة شيء يذكر عنه. تمر مقلتا العينين بسرعة على الديباجة والتحيات والسلامات.
أما بعد
أختي الغالية: في تلك البلاد لا أحد يزور أو يزار. يموت الإنسان دون أن يدرى به أحد من جيرانه. اللهم إلا إذا انبعثت تلك الرائحة؛ فتتأذى مشاعرهم. وقتها يتحركون وعندها تستقر في العين لحظات قليلة جدا من الحزن، ثم يعودون لحياتهم من جديد كأن شيئا لم يكن. تذكرين ونحن صغار شقتنا وشقق الجيران المفتوحة ندخل إحداهما.. نأكل.. نشرب.. نلعب. كان الدفء يحيط بكل القلوب. فارقت السعادة نفسي وعفتها منذ وطأت قدمي لتلك البلاد. عندما رحلت من بلدنا عندما حرمت منه. حروف كلمة ممحوة, تلك هي حروف اسمه. تتسمر الحروف الممحوة في المآقي.. تغيم الرؤية.. تتبعثر السطور.. تختلف الجمل والكلمات.
***
يأتي من بعيد صوت.. يغيب في نشوته..
ما بحبش حد إلا أنت ولا نفسي كمان يا حياتي
من بعد ما حبك غطى غطى على حبي لذاتي
وهي تأتي لزيارة أختها تمارس طقوسا لا تحيد عنها.. "بس.. بس", عيناه لأعلى, تشير له بالساعة, تحدد الموعد بأصابعها.
كان يصل قبل موعده بوقت طويل يجدها في انتظاره جالسة. تتشابك أصابعها, وسط الصخور والموج المتلاطم حولهما, ينسجان أحلامهما الصغيرة يبنيان بيوتا وقصورا, يحتضن كفها رسالة منه, تناوله الأخرى, ويمضيان عائدين. تمحو أصابعه دمعة انحدرت على خده, يعود لمزج أحرف الرسالة وتكوين الجمل من جديد.
أختي العزيزة/..
في ذلك البلد الكل ترس في آلة صماء.. تحكمها قوانين وأشياء كثيرة تلتهم من يغفل عنها أو يتوانى لحظة، روتين يومي لا تتغير أحداثه أبداً.
يصحو زوجي من نومه.. يتناول إفطاره واقفا.. يسرع لعمله. وأظل جالسة في انتظاره. يعود أخر اليوم وقد نسج خيوطا للنوم، وأعد نفسه لذلك دقائق قليلة وصوت دوي أنفاسه يبدد صمت الليل الطويل.
كل شيء يتجمد.. غبش جليدي على زجاج النوافذ التي يطل منها ضوء باهت في وسط الصقيع, الشمس والنجوم اختفيا ولا يبقى إلا ضوء الطريق والشعاع المتسرب من خلال الستائر.
شيء يجبرني على الرجوع. أحلم بتخطي تلك الأسوار، تحطيمها، حتى لا أعود إليها ألعن في كل يوم الغربة التي جعلتني لم أر أمي في لحظاتها الأخيرة. ملعونة تلك التي سرقت مني الأحلام.
(....) أتخيله يرقد بجواري. توقظه قبلاتي على وجهه, أنهل من حبه ولا أفيق إلا على صدى ابتسامة باهتة من زوجي.
هل عرف غيري؟ كيف هو؟.. أتزوج؟ مازلت احتفظ برسائله. أسمعك تقولين كيف وقد مزقتها بيديك.
لم أتخلص منها.. أعدت لصقها من جديد، وطُمست معظم حروف كلماتها لا يهم فأنى أحفظها عن ظهر قلب.
تهفو الروح إليه. أشتاق لأنامله حين كان يداعب خصلات شعري، واستوقفني مرة أثناء صعودي لك ولم أدر بالدنيا حين لامست شفتاه شفاهي، وانتفض جسدي وارتعش.
أختاه:
سئمت كل شيء ولم يعد هناك سوى الرجوع، ولم يعد يربطني بالغربة شيء وتحطمت بيني وبين زوجي كل الأشياء.
أختك (.....)
يمعن جيدا في قراءة ما يخصه في الرسالة وما تتحدث عنه حروف كلماتها، أعاد قراءتها مرات ومرات، وفي كل مرة تتفاوت بالقلب مشاعر كثيرة، وما كان يؤرقه ويشغل تفكيره هو كيف يعيد الخطاب إلى هيئته الأولى.
عصام سعد حمودة
الاسكندرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.