الصفحات

العقل العربي الإسلامي: هل استقال أم تمت إقالته؟ 1 و 2 و 3

 بقلم : حسين جبار

*أولا

إذا كانت المعارك، على أرضية الواقع، تقاس بعدد وعدة الجيوش المتقاتلة، وأيضا بما تخلفه وراءها من ضحايا؛ فإن المعارك الفكرية، التي تدور على أرضية العقل، إنما تقاس بمدى مقاربة الحلول المقدمة من كل طرف لفهم واقع معين، وكذلك بمدى نجاعة تلك الحلول في تفكيك وتجاوز إشكاليات ذلك الواقع. والعقل العربي الإسلامي، ومنذ أن أيقظته أصوات مدافع نابليون من نومته الطويلة، وهو يخوض معارك فكرية عنيفة يحاول كل
طرف فيها تقديم تعليل لتأخر الواقع العربي الإسلامي وحلاً لتجاوز هذا التأخر. وليست أول المعارك الفكرية ولا آخرها، وإن تكن أطولها مدة!، هي تلك التي كان طرفاها: المفكر المغربي محمد عابد الجابري، والمفكر السوري جورج طرابيشي. والحال أن أول “مبشر” لمشروع الجابري لم يكن أحداً سوى طرابيشي نفسه! فليس غيره، بشهادته هو، من كتب مادحاً مشروع الجابري: ((إن الذهن بعد مطالعة تكوين العقل العربي[=الجزء الأول من نقد العقل العربي] لا يبقى كما كان قبلها. فنحن أمام أطروحة تغير، وليس مجرد أطروحة تُثَقِف))[١]. وذلك قبل أن يكتشف طرابيشي مالا يتردد في أن يصفه بـ”التزييف”، الذي يحدثه الجابري في الشواهد التي يقتبسها. الأمر الذي دعاه لإعادة قراءة كتاب الجابري بعيون أخرى ليكتشف أن هذا المشروع يمثل، بالتعبير الذي يقبسه طرابيشي من غاستون باشلار، “عقبة إبستمولوجية”، أي عقبة معرفية. ((فالجابري قد نجح -لنعترف له بذلك- في إغلاق العديد من أبواب التأويل والإجتهاد. وما لم يُعد فتح ما أغلقه، فإن الدراسات التراثية لن تحرز بعد الآن تقدما، ولا كذلك عملية تفكير العقل العربي بنفسه انطلاقا من تراثه ومن توسطه التاريخي ما بين العقلين اليوناني القديم والأوروبي الحديث))[٢].
من النقاط التي يسجلها طرابيشي على مشروع الجابري هي أن هذا الأخير بنى تحليله للعقل العربي ((على أساس تشطيره وتجزئته، لا على أساس إعادة بناء وحدته (…) وتعاطى معه من موقع سجالي، لا من موقع نقدي. فانطلاقا من تشطيره الثلاثي التفريع للعقل العربي الإسلامي [عقل برهاني، بياني، وعرفاني] أقام بين تجليات هذا العقل مقارنة تفاضلية لا تكافؤية.
فإذا تصورنا تأريخ هذا العقل على أنه نوع من حرب أهلية دائمة، فقد دخل[=الجابري] في هذه الحرب طرفا لينتصر لطرف دون الطرف الآخر.
فقد انتصر ابستمولوجيا للعقل البرهاني على العقل البياني بقدر ما انتصر للعقل البياني على العقل العرفاني.
وانتصر أيديولوجيا للعقل “السني” على العقل “الشيعي”.
وانتصر جغرافيا لعقل المغرب على عقل -أو بالأحرى “لا عقل”- المشرق))[٣].
والنقطة المهمة الأخرى التي يسجلها طرابيشي على الجابري هو أن الأخير لا ينتقد العقل العربي إلا لكي يقول بأن هذا العقل تمت إقالته على يد العقل المستقيل المشرقي الغنوصي والهرمسي والعرفاني: تركة ديانات الشرق القديم. تلك الديانات التي لم تجد ورثة لتركتها بعد صعود المسيحية واكتساحها لمعظم أراضي الشرق كما الغرب، وبعد صعود الإسلام وفتوحاته؛ فدخلت هذه الموروثات متنكرة إلى داخل الإسلام لتهدمه! وممن يتهمهم الجابري بتبني “العقل المستقيل” الهرمسي: الكيميائي الكبير جابر بن حيان، وأكبر طبيب في الإسلام، بتعبير الجابري نفسه، أبي بكر بن زكريا الرازي. ومن الفرق يتهم “الغلاة” و”الروافض” و”الجهمية”. والشيعة هم أول من تهرمس! والمتصوفة أيضا، والإسماعيلية بإطلاقهم، وإخوان الصفا[٤]. ومن الفلاسفة “المشرقيين” يكاد ابن سينا يتحمل وزر جريمة “العقل المستقيل” وحده. فالشيخ الرئس ابن سينا، تحت عدسة الجابري، هو ((المدشن الفعلي لمرحلة أخرى في تطور الفكر الفلسفي في الإسلام، مرحلة التراجع و الإنحطاط))[٥]. نعم لقد مثل ابن سينا الإزدهار، و لكنه فقط ((الإزدهار الكمي للثقافة العربية الإسلامية بضخامة مؤلفاته و وضوح تفكيره و سلامة أسلوبه، و أيضا بكثرة ادعاءاته و لكنه مثل إلى جانب ذلك، الوجه الآخر لنفس الثقافة، فكان رغم كل ما أضفى على نفسه، و ما أُضفي عليه من ابهةٍ و جلالٍ، المدشن الفعلي لمرحلة الجمود و الإنحطاط … [و هو] ذلك الرجل الذي كرس و عمل على تكريس لا عقلانية صميمة في الفكر العربي الإسلامي تحت غطاء “عقلانية” موهومة))[٦]. فالجابري يقود ضد ابن سينا ((حملة تشهيرية))، على حد تعبير طرابيشي، بل إن هذا الأخير لا يتردد بأن يصف هذه الحملة بأنها ((ذات طابع هذائي))![٧]. ونحن هنا بطبيعة الحال لا نستطيع أن نسرد ردود طرابيشي ودفاعاته عن كل متهم، وقد كان أفرد لبعض المتهمين (خصوصا ابن سينا واخوان الصفا) فصولا بحيالها للدفاع عنهم، إضافة إلى الردود السارية في مجلدات نقد النقد الأربعة. فالذي نريد الوقوف عليه هنا هو، إن صح التعبير، ما بعد نقد النقد، أي التفسير الذي يقدمه طرابيشي للجمود أو الإنحطاط، أو أي تعبير شئت!، الذي أصاب العقل العربي الإسلامي.
في البدء لابد من توضيح نقطة مهمة وهي موضعة نقد النقد، الذي قضى فيه طرابيشي ما يزيد على ربع قرن، في موضعه الصحيح، وكذلك فهم الإشكاليات التي أراد تفكيك ملابساتها والظلال التي تلقيها على نظر الناظر للتراث، وقد ذكرنا طرفاً من هذه الإشكاليات أعلاه. فنقد النقد ليس هو إطلاقاً مشروع لنفي تأثير العامل الخارجي بالمطلق. فليس ثمة باحث له أدنى معرفة بالمجتمعات وتأثيراتها المتبادلة على بعضها، وبالثقافات وبتلاقحاتها، نقول ليس لهكذا باحث أن يفترض نهوض مجتمع أو ثقافة من ذاته ودون أي تأثير خارجي، ولا كذلك لسقوط مجتمع أو ثقافة دون أن تتظافر على هذا السقوط عوامل داخلية وخارجية معا. فالمجتمعات ليست كيانات منغلقة على ذاتها تغذي نفسها بنفسها حتى إذا نفد مخزونها احتضرت ثم ماتت! كلا، بل هي كيانات متداخلة ومتشابكة ومتبادلة للتأثير والتأثر. أقول هذا الكلام لأني وجدت من يجعل الجابري وطرابيشي، وبالتالي مشروعيهما، وجهان لعملة واحدة! وذلك لا لسبب إلا لأن طرابيشي أدخل، من ضمن ما أدخل، في تفسير تدهور العقل العربي الإسلامي تأثير العامل الخارجي-كما سنوضح حالاً-. وهذا حكم مجحف بقدر ما هو سطحي.
فليس تحميل العامل الخارجي وحده، ووحده فقط، تبعة انحطاط العقل العربي الإسلامي، نظير ما يفعل الجابري، نقول ليس هذا التفسير بحامل لمصداقية وواقعية التفسير الذي يجعل من التأثير الخارجي أحد عوامل الإنحطاط وليس العامل الوحيد والأوحد. ونحن لا نماري في تلك الحملة التي يحملها طرابيشي على الجابري لأنه يفسر إنحطاط العقل العربي الإسلامي من خارجه. ولكن لم تكن تلك الحملة لأنه أدخل العامل الخارجي بل، وأساساً، لأنه أبعد العامل الداخلي من دائرة المراجعة: ((ذلك أن صاحب مشروع نقد العقل العربي[=الجابري] ما كان وجد من تعليل لظاهرة استقالة العقل في الإسلام سوى الغزو الخارجي -على منوال حصان طروادة- من قِبَل جحافل اللامعقول من هرمسية وغنوصية وعرفان “مشرقي” وسائر تيارات “الموروث القديم” التي كانت تشكل بمجموعها “الآخر” بالنسبة إلى الإسلام، والتي اكتسحت تدريجياً، وتسلُلاً، ساحة العقل العربي الإسلامي حتى أخرجته عن مداره وأدخلته في ليل الإنحطاط الطويل. وبالمقابل، امتنع الجابري امتناعاً شبه تام عن تفكيك آليات أفول هذا العقل واستقالته من داخله))[٨]. وبالمقابل، وحتى نموضع، كما قلنا، نقد النقد في موضعه الصحيح ينبغي أن نرى الفرض الأساسي الذي ينطلق منه طرابيشي في محاولة نقده هو للعقل العربي الإسلامي(ولا نقول العقل العربي فقط!). وجواب طرابيشي هو ((أن الفرض الذي ننطلق منه وونتهي إليه هو أنه، في حضارات النص المقدس التي تقدم الحضارة العربية الإسلامية نموذجها الأكثر نموذجية، قد يكون العقل أول ما يتقدم كما أول ما يتأخر. وطبقا لتقدمه أو تأخره، تتقدم أو تتأخر الحضارة الحاضنة له))[٩]. ومن المعلوم أن هذه الحضارة العربية الإسلامية المتحورة حول قرآنها شهدت لحظة بزوغ وانطلاق يعز مثيلها بين الحضارات، في سرعتها، وفي مداها، وفي غناها كذلك. ولكنها نفسها شهدت أيضاً لحظة الدخول في غياهب ليل تأخرها المرير، الذي إنما نكتب ما نكتبه الآن بسببه!
من هنا إذن، وإنطلاقاً من هذا الفرض ينطلق طرابيشي ليمخر عباب تراث الحضارة العربية الإسلامية-وهو تراث غني بحق- لكي يرى ويتفحص عن كثب الأسباب التي أدت بهذه الحضارة لتتراجع بعد تقدمها، ولتتكور على نفسها بعد انفتاحها، ولتغلق مساماتها بعد تفتحها. وهو ما سنقف عليه في مقالات متممة لهذا المقال الذي اتخذ صيغة المقدمة.
ـــــــــــــــ الاحالات ـــــــــ 1 ــــــــــ
[١]. جورج طرابيشي: نظرية العقل، دار الساقي، الطبعة الأولى ١٩٩٦، ص٨.
[٢]. نفسه، ص٨.
[٣]. نفسه، ص٢٣-٢٤.
[٤]. محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة العاشرة ٢٠٠٩، ص٩٩-٢٠٣.
[٥]. د. محمد عابد الجابري: نحن و التراث، الطبعة السادسة، ١٩٩٣م، المركز الثقافي العربي، ص١٤٨.
[٦]. نفسه، ص١٠٠.
[٧]. جورج طرابيشي: وحدة العقل العربي الإسلامي، دار الساقي، الطبعة الأولى ٢٠٠٢، ص١١.
[٨]. جورج طرابيشي: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث النشأة المستأنفة، دار الساقي بالإشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى ٢٠١٠، ص٦٣٥.
[٩]. نفسه، ص٦٣١.

*
ثانيا

كنا قد أشرنا في مقالنا الأول إلى النقاط التي سجلها طرابيشي على مشروع الجابري، وكذلك أشرنا إلى الفرض الذي ينطلق منه طرابيشي في فهمه لسيرورة انغلاق الحضارة العربية الإسلامية على نفسها.
في البدء كان الرسول.
هناك فرض آخر لطرابيشي لا يقل أهمية عن سابقه، بل يزيد عليه خطورة، وهو أنه قد حدث في وقت مبكر من عمر الحضارة العربية الإسلامية، إنتقال أو انزياح من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. من أجل ذلك يذهب طرابيشي نحو القرآن ليرى تفاصيل الصورة التي رسمها للنبي محمد(ص). وبعد استقراء موسع يقوم بها طرابيشي لآيات القرآن يخرج منه بنقاط منها:

١- اللافاعلية النبوية. حيث ((أن الرسول هو بكل ما في الكلمة من معنى رسول، وككل رسول فإنه ليس له من مهمة غير تبليغ الرسالة، من دون أن يكون له حق التصرف أو حتى التأويل. (…) وبصفته رسولاً فليس له من جهة نفسه أن يكون شارعاً، كما ليس له من جهة مرسله إلا أن يكون مشرَّعا له))[١]. فالرسول ((هو على الدوام إما مأمور بـ أو منهي عن)). ولا يتردد طرابيشي باستخدام تعبير ((اللافاعلية النبوية)) بل ((العطالة الذاتية للوظيفة النبوية)). وذلك ((في كل ما يتعلق بمسائل الاهتداء والضلال، النجاة والهلاك، وتقصر ذلك كله على الوظيفة الإلهية لتحصر الوظيفة الرسولية بالبلاغ وحده))[٢]. بل وهو مأمور كذلك بأن يقول أنه مأمور:”قل إنما أمرت…”، “قل إني أمرت…”. فالجدلية القرآنية المركزية هي ((جدلية الفاعلية الإلهية والمفعولية الرسولية))[٣].

٢- النصاب البشري للرسول. ((فالرسول بشر لا يميزه عن سائر البشر إلا كونه يوحى إليه. وكما يكون قبل أن يوحى إليه بشراً كذلك يبقى بعد أن يوحى إليه بشراً. (…) فما دام في نصاب البشرية يبقى الخيار مفتوحا له كما لنسائه وكما لسائر البشر. ولكن مع نزول الوحي يغلق باب الخيار أمامه وأمام الآخرين (…) [هذا التمييز] بين البشر الذي يتكلم من عنده والبشر الذي يتكلم من عند الله (…) هو أس الأسس في لاهوت الوحي في الإسلام))[٤].

٣- وعي أهل العصر النبوي بهذه الجدلية نقصد ((جدلية الرسول المأمور من الله وحياً والرسول الآمر من ذات نفسه بشرياً، (…) وتعاملهم مع الرسول على أساسها))[٥].

٤- مأمورية الرسول بمشاورة أصحابه.

أما الآيات التي تأمر الناس بإطاعة الرسول فهي، برأي طرابيشي دوما، ((لا تأمرهم بإطاعته إلا بقدر ما تقرنها بطاعة الله … وحتى عندما يأمر الرسول الناس بإطاعته فإنه بأمره هذا مأمور … وحتى عندما يطيع الناس الرسولَ، فإنهم لا يطيعونه إلا بإذن من الله … وعلى أي حال فإن أمر الناس بإطاعة الرسول لا تعني تخويله سلطة شرعية … بل تعني إطاعته في ما يدعوهم إليه من الإيمان بما أنزل إليه ربه، أي التصديق بالرسالة التي حُمِّلها للناس))[٦]. ثم يميز طرابيشي بين الأمر بإطاعة الرسول الموجه للمشركين، أو اللامؤمنين، والأمر بإطاعة الرسول الموجه للمؤمنين. فالمقصود بإطاعة الرسول بالنسبة للمشركين هو ((تصديقه في رسالته المرسل بها)). بينما بالنسبة للمؤمنين هو إطاعته ((في الأمور العملية، أو الدنيوية بتعبير أدق، من قبيل الحرب أو قسمة الغنائم))[٧]. والغائب الأكبر في القرآن هو -ويا للمفارقة!-((تعبير سنة الرسول الذي سيحضر بالمقابل في كتب السيرة والتفسير والفقه والحديث حضوراً طاغيا))[٨].

من القرآن إلى الحديث.

كنا أثبتنا في البدء الفرض الأساسي الذي يبدء منه طرابيشي وينتهي عنده، ذلك الفرض المختص بالأمم ذات المحورية الكتابية. والحال أنه في الأمة الإسلامية فإننا أمام حالة خاصة كما يرى طرابيشي. فالمحورية هنا لم تستمر قرآنية فقط بل، وربما أساساً، أصبحت محورية حديثية(سنية). هذه السنة التي ستعمد لاحقا باعتباها حاكمة على القرآن!

وهذا التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث إنما انطلقت شرارته مع توسع الفتوحات الإسلامية ودخول الداخلين إليه: ((فالإسلام الذي خرج في طور أول إلى الفتوحات حاملاً الرسالة القرآنية ارتد بعد الفتوحات، وفي طوره الثاني، نحو نفسه محملا بما سيتم تكريسه تحت اسم السنة النبوية))[٩]. وقد كان لهذا التحول أسبابه:

١- دخول البلدان المفتوحة إلى الإسلام: ((فالإسلام الذي حمل إلى أعاجم البلدان المفتوحة، وفي مقدمتهم الفرس، كان إسلام قرآن لا يد لهم فيه، وما أنزل أصلا برسمهم. وبالمقابل، إن الإسلام الذي أعادوا تصديره إلى فاتحهم كان إسلام سنة كانت لهم اليد الطولى في إنتاجه)).

٢- محدودية الأحكام القرآنية مما يجعلها غير قادرة لأن ((تفي بمتطلبات التشريع القانوني جميعها في مواجهة المستجدات من النوازل)).

٣- إلتقاء مصالح الأتوقراطية العربية ومصالح النخب والشرائع المثقفة في تسييد السنة. فمن خلال تعميدها كمصدر إلهي مثل القرآن تماما ((تنتفي الحدود، أو تكاد، بين النخب المحكومة والنخب الحاكمة لتتحول العلاقة بين الطرفين إلى شراكة، إن لم يكن بالإسم فعلى صعيد الأمر الواقع)).

ولكن بالرغم من أن هذا التكتيك قد خدم الإمبراطورية الإسلامية، بجعلها قادرة على التولد ذاتيا، إلا أن نسبة التشريع إلى مصدر إلهي قد قضى على الإسلام بأن ((يكون إسلاما لا تأريخياً))[١٠].

بين المركز والهامش.

قد يصح أن نعبر عن حركة الحضارة ذات المحورية الكتابية بأنها إما حركة انفتاحية تتوسع طرداً من نقطة تمركزها وإما حركة إنكماشية ارتدادية باتجاه المركز. وقد تحركت الحضارة الإسلامية بالإتجاهين. ففي الطور الأول، طور الإنفتاح، يكون هناك هامش من الحرية يمكن للعقل أن يتحرك فيه، وإن ارتطم رأس العقل بسقف النص. في هذا الهامش كان يتحرك مالك بن أنس. فقد استطاع أن يجتهد ((مع كل ما يقتضيه الإجتهاد من اشتغال نسبي للعقل حتى ولو كان النص بما هو كذلك هو القيد الإبستمولوجي الذي يقيد نفسه به قبليا))[١١]. فطرابيشي يرى بأنه ((إذا كان لزعامة مدرسة الرأي أن تنسب إلى أحد فإنما إلى مالك بن أنس، وإن ليس حصراً ففي الدرجة الأولى))[١٢].

وهذا على عكس الرأي الشائع الذي يعطي زعامة مدرسة أهل الرأي لأبي حنيفة، ويعطي لمالك زعامة مدرسة أهل الحديث. فمالك لم يكن ((عبداً لنص فقط -وهذا أمر محتوم في حضارة متمركزة على[كذا، والأصح حول] نصها- بل كان أيضاً مؤسِّساً لنص، وإن كان النصاب الإبستمولوجي لهذا النص أن يكون بمثابة نصٍ ثانٍ على نص أول. … ذلك أن مالكاً عاش وقال أقواله. …في حقبة كانت فيها الحضارة الإسلامية لا تزال في مرحلة من تفتح الدوائر حول مركزها))[١٣].

ولكن هذه الحال لن تستمر والانعتاق النسبي لمالك من قبضة السند يجب أن يعالج ارتدادياً فالثغرات ((لهي مما لا يطاق في حضارة دائرية متمركزة على نفسها))[١٤]. هكذا تم بذل جهد جهيد من قبل جامعي الحديث ومصنفي السنن من أجل وصل مراسيل مالك. ويذهب طرابيشي قدماً ليقلب نظرية السند رأساً على عقب. ((فإتقان آلية الإسناد في القرن الثالث الهجري فصاعداً لم تكن وظيفته الحقيقية ضمان عدم الكذب على الرسول…بل على النقيض إتاحة الفرصة للمزيد من الكذب على الرسول وللتمادي في الوضع على لسانه تحت حماية سلسلة المضامين))[١٥]. ولكن مفارقة مالك بن انس هي أنه هو نفسه قد ساهم في إغلاق الهامش الذي كان يتحرك فيه. فهو كان ((من السباقين إلى تكريس سنة الماضين وتأسيسها في سلفية ملزمة لكل من أتى أو يمكن أن يأتي بعدهم))[١٦].

تكريس السنة.

يلعب الشافعي، في خارطة القراءة الطرابيشية، الدور الأخطر وهو تكريس السنة. فهو ((مؤسس نظرية المعرفة في الإسلام)) والإنقلاب التأليهي [=تأليه السنة] الذي قام به في الإسلام ((لا يجد ما يناظره في تأريخ الأديان سوى الإنقلاب الذي شهدته المسيحية في القرن الرابع الميلادي عندما جرى…تنصيب المسيح إلهاً ابناً مشاركاً في الجوهر للإله الأب)). بل إن دوره الإنقلابي في مجال أصول الشريعة ليس بأقل ((من ذاك الذي اضطلع به معاوية في مجال تأريخ السياسة بتأسيسه الخلافة الأموية أو أبو العباس بتأسيسه الخلافة العباسية))[١٧]. ذلك أن “مشروع” الشافعي يقوم على تكريس السنة شريكةً في المصدر كما في الجوهر للقرآن. فهي “كتاب غير متلو” والقرآن هو “كتاب متلو”. ومن أجل هذا الهدف لن يتردد الشافعي في محاولة نفي الشرط البشري للرسول ((فعنده أن الرسول هو في حالة وحي دائم، وكلما نطق وكيفما نطق فإنما ينطق عن وحي)) ولن يتردد كذلك، كما قيل على لسانه، في جعل السنة حاكمة على القرآن.[١٨]. وفي تأسيس حجية خبر الواحد. وتشغيل آلية الناسخ والمنسوخ. التي يرى طرابيشي أنها ((عفريت التلاعب بالنص القرآني. إذ ليس القائل الإلهي لهذا النص هو من يحدد ما هو الناسخ وما هو المنسوخ من الآيات، بل هو المؤوِّل البشري لهذا النص))[١٩]. وخطورة هذه الإلية تكمن في كونها لم تقتصر على نسخ القرآن بالقرآن بل تعدت إلى نسخ القرآن بالسنة، بعد أن تم رفع نصابها إلى مستوى القرآن نفسه. ويصل الأمر إلى مرحلة بهلوانية بالقول بإمكانية نسخ السنة بالسنة!

أما عن وسطية الشافعي (بين العقل والنقل) فإن طرابيشي يردها ولا يرى لها من نصيب من الواقعية سوى ما كان قد قرره أحمد أمين بخصوصها. ذلك أن ((طائر الشافعي مقصوص الجناح، وعلى نحو غير قابل لمعاودة النبت)) فجناح العقل ((قد استؤصل من جذوره)) بينما جناح النقل ((قد غُذِّي وأعطي من شروط النماء ما يعود يكفيه للطيران بمفرده)). والأمور لن تعود بعد الشافعي كما كانت قبله ((ففريق أهل الرأي سينسحب من المعترك بصورة نهائية…وفريق أهل السنة سيحتل الساح بتمامه، وسيبلغ من طغيانه أنه لن تعود به حاجة حتى للإنضواء في التسمية تحت لواء أصل الأصول الذي هو القرآن: فهو سيعرف مذ ذاك فصاعداً باسم “أهل السنة والجماعة”، أو بمزيد من الحصرية “أهل الحديث”))[٢٠]. وباختصار فإن انقلاب الشافعي تمثل في كونه ((قد حبا أي “ثقة” يعنُّ له أن يختلق حديثا بسلطة تشريعية تضاهي تلك التي للنص المقدس…وجمد سلطة التشريع في هذه الحضارة وعلق تطورها إلى الأبد: فما اختلقه “الثقة” -ربما لتلبية حاجات عصره من تطوير التشريع- صار ملزماً لما بعد عصره، ولما بعد بعد عصره عصره إلى أبد الآبدين))[٢١].

ـــــــــ الاحالات ــــــ 2 ـــــــــ
[١]. جورج طرابيشي: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث النشأة المستأنفة، دار الساقي بالإشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى ٢٠١٠، ص٨٤.
[٢]. نفسه، ص٤٠-٤١.
[٣]. نفسه، ص٤٩.
[٤]. نفسه، ص٥٣-٥٤.
[٥]. نفسه، ص٥٩.
[٦]. نفسه، ص٧٠.
[٧]. نفسه، ص٧١.
[٨]. نفسه، ص٨٥.
[٩]. نفسه، ص١٠١.
[١٠].نفسه، ص١٠٣-١٠٧.
[١١]. نفسه، ص١٢٤.
[١٢]. نفسه، ص١٢٥.
[١٣]. نفسه، ص١٤٠.
[١٤]. نفسه، ص١٤٩.
[١٥]. نفسه، ص١٤٣.
[١٦]. نفسه، ص١٧١.
[١٧]. نفسه، ص١٩٥.
[١٨]. نفسه، ص١٩٣-١٩٤.
[١٩]. نفسه، ص٢٠٨.
[٢٠]. نفسه، ص٢٦٤.
[٢١]. نفسه، ص٢٧٢.

*ثالثا

تسنين العقيدة القويمة وانتصار أهل الحديث.
في سياق تحليله لأسباب موت الفلسفة في الحضارة الإسلامية، يرى طرابيشي أن السبب الأول هو “تسنين العقيدة القويمة”. وهو يموضع هذا التسنين بحيث تعود ((بداياته الأولى إلى أحمد بن حنبل(٢٤١-٢٩٠) أو بالأحرى إلى الحركة التي قادها أهل الحديث وشريحة متعاظمة من الفقهاء تحت اسمه، والتي بلغت ذروتها مع ابن تيمية(٦٦١-٧٢٨)))[١]. وهذه الخطوة لم تكن لاهوتية فقط وإنما سياسة كذلك من خلال ما يسميه طرابيشي بـ”الإنقلاب المتوكلي”-نسبة للخليفة العباسي المتوكل على الله(٢٣٢-٢٤٧)-. فمن خلال جدلية السلطة السياسية/الدينية يرى طرابيشي بأن ((استتباع السلطة الدينية للسلطة السياسية في عهد المأمون والمعتصم والواثق أطلق شرارة إصلاح ديني قاده المعتزلة الذين قالوا بوجوب توافق العقل والنقل واستبعاد كل ما يتعارض من النص مع العقل، أو في أدنى الأحوال، إعادة تأويله. أما تسليم سلطة الدين لأهل الحديث في ظل الإنقلاب المتوكلي فقد وأد تلك المحاولة الإصلاحية وقطع الطريق أمام كل احتمال لتجددها))[٢]. وقد أخذ هذا الإنقلاب المتوكلي أبعاداً ثلاثة:

أولاً، ((إن المتوكل، بإغلاقه ملف خلق القرآن وبمنعه من الكلام فيه -ومن الكلام أصلاً- قد فتح الباب على مصراعيه أمام تسييد السنة)). من هنا فالملاحَظ أنه ((ابتداءً من عصر المتوكل، وعلى مدى العصور الوسطى وصولاً إلى عصر النهضة -ربما باستثناء الفاصل البويهي- سجلت الإشكالية القرآنية انكماشاً، بل انحساراً كبيراً، لصالح الإشكالية الحديثية)). بمعنى أنه حصل انزياح بالمركز من القرآن إلى الحديث.

ثانيا، ((إن الإنقلاب المتوكلي الذي تجلبب ببعدين طائفي وطوائفي معا، من خلال معاداة الشيعة من داخل الإسلام والنصارى من خارجه، قد أرسى جذوراً سوسيولوجية -فضلاً عن الإيديولوجية- غير قابلة للإجتثاث ولا للتجاوز لصيرورة التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث)). والمقصود هنا طبعا بالجذور السوسيولوجية [أي الإجتماعية] هو جذور الطائفية التي تزخر بها كتاب الحديث من خلال تحشيد كل طائفة أكبر عدد ممكن من الأحاديث التي تكفر بقية الطوائف وتخرجها من دائرة الإسلام.

ثالثا، ((إن انقلاب المتوكل على السياسة التي اختطها من قبله المأمون والمعتصم والواثق هو في حقيقته انقلاب في المرجعية والعلاقة بين السلطان والرعية في ما يتعلق بالسلطة الدينية))[٣].

أما الدور الذي قام به أحمد بن حنبل فهو أخطر بكثير من دور المتوكل، فطرابيشي يعتبره ((هو بحق المؤسس الثاني[بعد الشافعي] للسنة، وربما كقرآن قبل القرآن))[٤]. وهو أيضاً ((المسؤول الثاني بعد الشافعي عن التضخم المتسارع للمدونة الحديثية، بما في ذلك تضخم مسنده هو نفسه))[٥]. وهو أيضاً مرة أخرى ((مؤسس لمدرسة جديدة هي مدرسة الفكر الجماعي والإجماعي))[٦].

وقد تميزت مدرسة ابن حنبل هذه بعدة ميزات:

الأولى، أنها ((بدت أكثر “سنية”، أي أكثر تمسكاً من غيرها بالعقيدة القويمة، بحكم من أنها كانت في المقام الأول مدرسة حديث)).

الثانية، أنها ((مدرسة فقه وكلام معاً)).

الثالثة، وهي ميزة سوسيولوجية، فبينما كانت المدارس الفقهية الأخرى والمدارس الكلامية وقفاً على “الإختصاصيين” وعلى النخبة المثقفة. فإن الحنبلية كانت تستند ((إلى الجمهور العريض، أو إلى العامة… وعلى هذا النحو امتلكت طاقة تعبوية ما أتيحت لأية فرقة سنية أخرى)).

الرابعة، ((الطبيعة التبسيطية لجهازها العقائدي … وطابعه الشمولي … [الأمر الذي مكنها] لأن تضطلع في ذلك العصر بدور الأيديولوجيا التوتاليتارية))[٧].

وقد بلغ تسنين العقيدة القويمة ذروته في صياغة ما يعرف بـ”الإعتقاد القادري-القائمي”. (نسبة الى القادر بالله وابنه القائم بأمر الله). وقد تضمن هذا الإعتقاد، في أهم ما تضمنه، تكفير المعتزلة وإباحة دم القائلين بخلق القرآن[٨].

((إن تغييب القرآن وتغييب التعددية في الإيديولوجية المنتصرة هو المسؤول الأول عن أفول العقلانية العربية الإسلامية، وعما قاد إليه هذا الأفول من انغلاق ذهني وحضاري أنهى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية ليدخلها في ليل الإنحطاط الطويل. … وما لم يُعَد تفتيح ما أغلقته الإيديولوجيا الحديثية من مسامِّ العقل، وفي مقدمته العقل الديني بما هو كذلك، فسيبقى الأمل في كسب … “رهان تجديد النهضة” معدوما، وستبقى الاحتمالات جميعها قائمة للارتداد نحو … “قرون وسطى جديدة))[٩]. أتساءل: وهل هناك ما هو أدل على حدوث هذا الإرتداد فعلا مما تعيشه بلداننا العربية الإسلامية اليوم من حروب فيما بينها وفي داخل كل واحدة منها؟!

المعجزة.

لا نستطيع أن نختم جولتنا في مشروع طرابيشي دون أن نشير إلى “المعجزة” الذي كان أفرد لها كتاباً بحياله. والتي تدخل أيضاً في صلب التحول من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث. فالنبي محمد(ص) وعلى عكس أخوته من الإنبياء السابقين عليه هو نبي بلا معجزة. فرغم مطالبات المشركين له بأن يأتيهم بمعجزة، وكذلك مطالبة الكتابيين من يهود ونصارى له بها، بل ورغم مطالبته هو نفسه (محمد ص) للمعجزة؛ فإن الجواب من الله كان دوماً هو الرفض لهذا الطلب مع تعليلات متنوعة لهذا الرفض. بينما اعتبر القرآن هو المعجزة بحد ذاته. وتحدى الكافرين به [بالقرآن] أن يأتوا بمثله أو حتى بآية مثله. ((فقد بقي القرآن على امتداد أربعة عشر قرناً هجرياً فريد نوعه، لا محاكي له ولا مضارع معترفاً به، وتم تكريسه بوصفه المعجزة الباقية على مدى الزمن لرسول ما أوتي معجزة غيره))[١٠]. ولكن، وكما رأينا كيف تم تحويل الرسول من مشرَّع له إلى مشَرِّع، تم تحويل النبي الذي بلا معجزة-إذا استثنينا الكلام عن كون القرآن معجزة- إلى نبي تعددت معجزاته حتى بلغت الثلاثة آلاف معجزة!

وقد اتخذت معجزات النبي في كتب الحديث مساراً تصاعدياً تضخمياً كما هو متوقع. ففي سيرة ابن هشام نجد عشر معجزات للنبي. وبعد قرنين من ابن هشام أصبح العدد أربعين لدى أبي الحسن الماوردي.

ومع البيهقي توسعت، ليس دائرة المعاجز فحسب بل ودائرة أصحابها كذلك. فهو لا يعزو المعجزات للنبي فقط ((بل إلى بعض صحابته، … [من قبيل] إضاءة أصابع بعض الصحابة أو إضاءة العصي بين أيديهم لتنير الطريق في ظلماء الليالي. … [وكذلك معجزات من] تكلم بعد الموت بدون أن يكون لبطل أشباه هذه المعجزات من سلاح آخر لتحدي قوانين الحياة والموت سوى “الصحبة”))[١١]. ثم تضاعف عدد المعجزات أضعافاً كثيرة ليصل إلى نحو من مئة وعشرين لدى القاضي عياض. والمثير أن بعض المعاجز لها هدف سياسي فج خصوصاً تلك التي تكون لمن يعودون للحياة بعد الموت، فهؤلاء، كما يعلق طرابيشي متهكماً، ((لا يتكلمون، عندما يتكلمون، إلا في السياسة))![١٢]. وكذلك الحال في باب نبوءات النبي. ((فما من نبوءة إلا وهي تتغيا الرفع أو الحط من شأن شخصية سياسية بعينها، أو التكريس الإيجابي أو السلبي لحدث سياسي بعينه))[١٣]. ثم يأتي بعد ذلك الحلبي ليقول أن النبي، على قول بعضهم، قد أعطي ثلاثة آلاف معجزة!

أما في الجانب الشيعي فإن معجزة النبي لا تظهر إلا ويظهر فيها الإمام علي، أو أحد أهل بيته. وقد تميزت هذه المعجزات بتضخم الخيال كبديل تعويضي عن انكماش الواقع. كما أن الطابع السياسي ((سواء ما اتصل بالمنافسة مع أبي بكر وعمر وعثمان أو بالصراع مع معاوية، يغلب على عدد من نحو الأربعين معجزة المنسوبة إلى علي))[١٤]. وإذا كانت المعاجز السنية لم تتجاوز دائرة النبي إلا بشكل محدود ونادر؛ فإن دائرة المعاجز الشيعية قد اتسعت لتشمل كل سلسلة الأئمة. ((فتحت وطأة الشعور باختلال دائم وغير قابل للتعديل في ميزان القوى، ما كان لمنطق آخر أن يصمد غير منطق المعجزة. فالمعجزة هي سلاح من سلاح له)) كما أن المعجزة بالنسبة للشيعة مثلت دافع للإستمرارية. فالإسلام الشيعي ((ما كان له أن يستمر لولا رهانه على المعجزة التي من شأنها أن تقلب ميزان القوى وأن تخترق الجدار الفولاذي لواقع غير قابل للإختراق)) كما أن ((الحاجة إلى التوظيف السياسي لمنطق المعجزة كانت أشد إلحاحاً بكثير في الإسلام الشيعي منها في الإسلام السني))[١٥].

في محاولته لتفسير ظاهرة تضخم المعجزة، يرى طرابيشي أن شعوب البلدان المفتوحة[ويجب الإلتفات إلى أن الفتوحات حدثت في وقت مبكر من الإسلام الأمر الذي يعني تمازج تلك الثقافات جميعها داخل دائرة الإسلام منذ البدايات] ما كان لها أن تقبل بنبي لا معجزة له سوى القرآن. والحال أن معجزة القرآن هي معجزة عقلية و((ما كان لها من فاعلية إقناعية إلا بالنسبة إلى أهل اللغة التي نزل بها القرآن،… والحال أن شعوب البلدان المفتوحة ما كان لها أن “تعقل”، لأنها كانت تجهل العربية جهلاً تاماً)). هذا عن حاجز اللغة بوجه المعجزة القرآنية، أما الحاجز الآخر فهو البنية الدينية السائدة من قبل في البلدان المفتوحة. فتلك الشعوب كان لها أنبياؤها، وكان لأنبيائهم معجزاتهم. ((من هنا تحديداً كان لابد أن تتقدم المعجزة النبوية في الوعي الديني السائد، ولدى شعوب أعجمية اللسان، على الواقعة القرآنية، لأن المعجزة لا تحتاج “قراءة”، على عكس الواقعة القرآنية. … فإن نصارى الشام والعراق ما كان لهم أن يستوعبوا، من خلال بنيتهم الذهنية بالذات، ديناً أو نبياً بلا معجزة)). ((وبمعنى من المعاني يمكن القول إن تلك الشعوب هي التي فرضت بنيتها الدينية القديمة على الدين الجديد، وليس الإسلام هو الذي فرض عليها بنيته الأولى القابلة للوصف بأنها رسالية))[١٦].

وعَود على الفرض الأساسي الذي كان وضعه طرابيشي فإن ((العقل لم يحظَ قط، وما كان له أن يحظى أصلاً، بنصاب المشرِّع … حتى لدى المعتزلة أو الفلاسفة الذين مثلوا السقف الأعلى للعقل في الإسلام. بل ما كان له أن يحظى بمثل ذلك النصاب في أي ثقافة متمحورة حول نص مقدس ونظام معرفي ذي طبيعة دينية))[١٧].

في الختام أود الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أن الكلام يدور حول الحضارة العربية الإسلامية، وليس العربية فقط. وإذا كانت الفتوحات قد انطلقت بعد سنتين فقط من وفاة النبي(ص)، أي في وقت لم يتم فيه أي نتاج “فكري” يستمد منبعه من الإسلام، ما يعني أن العقيدة الإسلامية لم تتبلور بعد سوى في خطوطها العامة التي اختطها القرآن، ولن تتبلور إلا بعد أكثر من قرن أي بعد أن تتم معظم الفتوحات ويدخل الناس أفواجاً. فالحضارة الإسلامية كانت عربية في لغتها متعددة الثقافات والأعراق في داخلها. وهذا التنوع كان له أثر إيجابي رائع في إغنائها، على الرغم مما وقفنا عنده مع طرابيشي من آثار سلبية قد لا نتفق معه تماما في تعليلها. فالحضارة العربية الإسلامية لم تقم -خصوصاً في غناها الأدبي والفني والفلسفي- على أكتاف العرب فقط حتى يكون سقوطها بسبب ثقافات دخيلة. فهي قد قامت وهي متعددة الثقافات. لذا أجد نفسي أميل إلى الفرض الأساسي الذي وضعه طرابيشي حول استعباد العقل للنص في الحضارة ذات المركزية الكتابية. مع تظافر العوامل الداخلية والخارجية في توسيع أو تضييق الدائرة الحضارية.

ـــــــــ الاحالات ـــــــ 3 ـــــــ
[١]. جورج طرابيشي: مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، دار الساقي، الطبعة الأولى ١٩٩٨، ص٨٢.
[٢]. جورج طرابيشي: من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث النشأة المستأنفة، دار الساقي بالإشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى ٢٠١٠، ص٤٩٣.
[٣]. نفسه، ص٤٩١-٤٩٢.
[٤]. نفسه، ص٥٠١.
[٥]. نفسه، ص٥٣٧.
[٦]. مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، ص٨٣.
[٧]. نفسه، ص٨٦-٨٧.
[٨]. نفسه، ص٩٥.
[٩]. نفسه، ص٦٣١.
[١٠]. جورج طرابيشي: المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، دار الساقي بالإشتراك مع رابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى ٢٠٠٨، ص٢٩.
[١١]. نفسه، ص٤٢-٤٣.
[١٢]. نفسه، هامش٢١، ص٥١.
[١٣]. نفسه، ص٦٨.
[١٤]. نفسه، ص٩٨.
[١٥]. نفسه، ص١٠٨-١٠٩.
[١٦]. نفسه، ص١٦٦-١٦٩.
[١٧]. من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث النشأة المستأنفة، ص٢٩١

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.