هذا الصباح يبدو مختلفا ، العصافير استيقظت باكرا ، بينما السنونو بدأ رحلته على عجل ، ربما أمضى ليلة حمراء أنهكته ، فاضطر أن يأخذ قسطا من النوم كي يرتاح من تعب تلك الليلة ، النسمات تغرد منفردة مع عزف ناي آت من درب قريب ، الراعي يسوق قطيعه إلى تلك التلة الخضراء ، الفجر يختنق رويدا رويدا .
وطأت قدماه أرض المدرسة بشغف ، عيناه تبحثان بين أسراب الفتيات ذوات اللباس الزيتي المبشور ، فتاة ترتدي بنطالا ضيقا لفت نظره للحظة ، ورفيقتها تكتنز في صدرها
شيئا مثيرا للاهتمام ، أشاح عنهن وتابع رحلة التحري ، باءت محاولاته بالفشل ، فهي لم تكن هناك ، ولكن ماذا يفعل الآن ، شبح ما يطارد مخيلته الصغيرة ، دنا من الفتيات ذوات اللباس المثير ، لكنه ما لبث أن ابتعد ، فقد حط الخجل رحاله للتو .
انزوى في زاوية من الباحة الكبيرة ، شجرة السرو تظلله بفيئها ، تناول قلمه المهترئ الثياب وورقة انتزعها من براثن دفتر علا صراخه ، تلفت حوله خشية أن يكون أحد ما يراقبه ، وقع على سرب فتيات يضحكن من بعيد ، أتراهن عرفن مايفعل .
لم يأبه لهن وبدأ يخط كلماته بهدوء هذه المرة .
( حبيبتي ثراء ، بحثت عنك اليوم في كل ركن وزاوية فلم أجدك ، كدت أن أفقد صوابي ، قررت سؤال رفيقتك لكني تراجعت عن سؤالي ، لماذا لم تأت اليوم إلى المدرسة ، ألا تعلمين بأني انتظر قدومك كما ينتظر عصفور صغير عودة أمه في المساء ، كنت سأبوح لك بسر ، سوف أعتنق الصبر هذا اليوم ، ولن أقول ما كنت أود قوله لك ، سوف أصغي إلى معلمي ، لكني متأكد بأني لن استوعب ما سوف يقول ، غدا صباح جديد ، لن يرتاح قلبي قبل أن أطمئن عليك ، إلى اللقاء غدا ... ) .
انتهى من كتابة رسالته ( الثانية ) وضعها في ظرف ذو حواف ملونة ، توجه إلى قاعة الصف متلعثما ، كان المعلم قد وصل قبله .
- لماذا تأخرت يا عامر ... أين كنت ...
- هناك يا أستاذ ... هناك ...
- أين هناك ... تكلم وإلا ...
طأطأ رأسه صوب البلاط ، كانت الدموع تسبق نظراته إلى هناك .
- هناك يا أستاذ ... ثم أشار بيده إلى الحمام المدرسي دون أن يتجرأ على النظر إلى المعلم .
- هيا ... هيا ... أدخل ...
وهو يمر بمحاذاته مسح على رأسه الصغير ، بعد أن شاهد عيناه تمتلآن بالدموع .
لأول مرة يشعر بأن الدرس ثقيلا جدا ، الجرس يبدو في رحلة سفر .
وأخيرا ضرب الجرس بحنان ، خرج مسرعا إلى جانب الباب الأسود ، كان يعلم بأن ليلى سوف تعبر من هنا ، ها هي ذات البنطال الضيق تدنو منه.
- ليلى ... ليلى ...
التفتت إليه وهي تبتسم بغنج إناث الكون ، كانت ساحرة تلك الليلى .
- ماذا تريد يا عامر ...
- أريدك على انفراد .
غمز لها بعينه التي مازالت تحتفظ بدمعة ساخنة .
- تعال معي إلى الباحة .
هناك انزويا تحت شجرة السرو للمرة الثانية في هذا اليوم .
- أين ثراء يا ليلى ...
- لا أدري ، لكنها أخبرتني منذ عصر الأمس بأنها لن تأتي اليوم إلى المدرسة ...
صمت عامر ، ضاعت الكلمات منه في سرداب طويل ، أخذ نفسا عميقا رافقته تنهيدة طويلة .
- أتريد منها شيئا ما ... هل نسيت دفترك معها ... قالت ذاك ثم ابتسمت .
- لا ... لا ... فقط أسال عنها فهي لم تعتد الغياب .
أخرج الظرف من جيبه الخلفي ، ناوله إلى ليلى بخجل .
- ما هذا ... سألته ...
- أعطيها لثراء ، ولكن أرجوك لا تخبري أحدا .
دست الظرف المغلق في جيب سترتها وهي تكشف عن أسنانها البيضاء التي لا تشبه إلا ماسة خرجت لتوها من قعر البحر .
- لك ذلك يا صديقي ... لا تخشى شيئا ، لن أخبر إلا أمها ...
دب الذعر في ثناياه المرتعشة سلفا ، ضرب الأرض بقدمه .
قهقهت ليلى وهي تراقبه من خلف كواليس عينيها .
- أمزح معك يا عامر ... سرك ببئر عميق ...
قفل عائدا إلى البيت والهواجس تلاحقه كما ذاك الشبح الذي يرتاد حكايا والدته بين حين وآخر .
ويعاود خريف الانتظار ، بينما الرسالة الثانية كانت تحط رحالها بين يدي ثراء ، بعدما أنهت قراءتها ، ضمتها إلى صدرها الساخن جدا ، أما ليلى فكانت تنتظر جوابا ما ... أتذكرين ...
-------------
وليد.ع.العايش
وطأت قدماه أرض المدرسة بشغف ، عيناه تبحثان بين أسراب الفتيات ذوات اللباس الزيتي المبشور ، فتاة ترتدي بنطالا ضيقا لفت نظره للحظة ، ورفيقتها تكتنز في صدرها
شيئا مثيرا للاهتمام ، أشاح عنهن وتابع رحلة التحري ، باءت محاولاته بالفشل ، فهي لم تكن هناك ، ولكن ماذا يفعل الآن ، شبح ما يطارد مخيلته الصغيرة ، دنا من الفتيات ذوات اللباس المثير ، لكنه ما لبث أن ابتعد ، فقد حط الخجل رحاله للتو .
انزوى في زاوية من الباحة الكبيرة ، شجرة السرو تظلله بفيئها ، تناول قلمه المهترئ الثياب وورقة انتزعها من براثن دفتر علا صراخه ، تلفت حوله خشية أن يكون أحد ما يراقبه ، وقع على سرب فتيات يضحكن من بعيد ، أتراهن عرفن مايفعل .
لم يأبه لهن وبدأ يخط كلماته بهدوء هذه المرة .
( حبيبتي ثراء ، بحثت عنك اليوم في كل ركن وزاوية فلم أجدك ، كدت أن أفقد صوابي ، قررت سؤال رفيقتك لكني تراجعت عن سؤالي ، لماذا لم تأت اليوم إلى المدرسة ، ألا تعلمين بأني انتظر قدومك كما ينتظر عصفور صغير عودة أمه في المساء ، كنت سأبوح لك بسر ، سوف أعتنق الصبر هذا اليوم ، ولن أقول ما كنت أود قوله لك ، سوف أصغي إلى معلمي ، لكني متأكد بأني لن استوعب ما سوف يقول ، غدا صباح جديد ، لن يرتاح قلبي قبل أن أطمئن عليك ، إلى اللقاء غدا ... ) .
انتهى من كتابة رسالته ( الثانية ) وضعها في ظرف ذو حواف ملونة ، توجه إلى قاعة الصف متلعثما ، كان المعلم قد وصل قبله .
- لماذا تأخرت يا عامر ... أين كنت ...
- هناك يا أستاذ ... هناك ...
- أين هناك ... تكلم وإلا ...
طأطأ رأسه صوب البلاط ، كانت الدموع تسبق نظراته إلى هناك .
- هناك يا أستاذ ... ثم أشار بيده إلى الحمام المدرسي دون أن يتجرأ على النظر إلى المعلم .
- هيا ... هيا ... أدخل ...
وهو يمر بمحاذاته مسح على رأسه الصغير ، بعد أن شاهد عيناه تمتلآن بالدموع .
لأول مرة يشعر بأن الدرس ثقيلا جدا ، الجرس يبدو في رحلة سفر .
وأخيرا ضرب الجرس بحنان ، خرج مسرعا إلى جانب الباب الأسود ، كان يعلم بأن ليلى سوف تعبر من هنا ، ها هي ذات البنطال الضيق تدنو منه.
- ليلى ... ليلى ...
التفتت إليه وهي تبتسم بغنج إناث الكون ، كانت ساحرة تلك الليلى .
- ماذا تريد يا عامر ...
- أريدك على انفراد .
غمز لها بعينه التي مازالت تحتفظ بدمعة ساخنة .
- تعال معي إلى الباحة .
هناك انزويا تحت شجرة السرو للمرة الثانية في هذا اليوم .
- أين ثراء يا ليلى ...
- لا أدري ، لكنها أخبرتني منذ عصر الأمس بأنها لن تأتي اليوم إلى المدرسة ...
صمت عامر ، ضاعت الكلمات منه في سرداب طويل ، أخذ نفسا عميقا رافقته تنهيدة طويلة .
- أتريد منها شيئا ما ... هل نسيت دفترك معها ... قالت ذاك ثم ابتسمت .
- لا ... لا ... فقط أسال عنها فهي لم تعتد الغياب .
أخرج الظرف من جيبه الخلفي ، ناوله إلى ليلى بخجل .
- ما هذا ... سألته ...
- أعطيها لثراء ، ولكن أرجوك لا تخبري أحدا .
دست الظرف المغلق في جيب سترتها وهي تكشف عن أسنانها البيضاء التي لا تشبه إلا ماسة خرجت لتوها من قعر البحر .
- لك ذلك يا صديقي ... لا تخشى شيئا ، لن أخبر إلا أمها ...
دب الذعر في ثناياه المرتعشة سلفا ، ضرب الأرض بقدمه .
قهقهت ليلى وهي تراقبه من خلف كواليس عينيها .
- أمزح معك يا عامر ... سرك ببئر عميق ...
قفل عائدا إلى البيت والهواجس تلاحقه كما ذاك الشبح الذي يرتاد حكايا والدته بين حين وآخر .
ويعاود خريف الانتظار ، بينما الرسالة الثانية كانت تحط رحالها بين يدي ثراء ، بعدما أنهت قراءتها ، ضمتها إلى صدرها الساخن جدا ، أما ليلى فكانت تنتظر جوابا ما ... أتذكرين ...
-------------
وليد.ع.العايش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.