د. محمد ياسين علوان
من أشهر مقولات الأدب العربي قول الجاحظ "والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، والقاصي والداني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ وسهولة المخرج
وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك".
من هنا ندرك أن البناء الفني هو العمل الأدبي، فكم من معنىً جيد أفسده البناء، وكم من فكرة متواضعة مطروقة زادها البناء الرائع نضارة وإشراقا وروعة وجمالا. لقد أصبح الإبداع منصبًا على اختيار القالب الأدبي أكثر بكثير من اختيار الموضوع.
استوقفتني هذه الأفكار عندما قرأت رواية "هيبتا" للمبدع محمد صادق،
وتساءلت كثيرًا كيف تأخرت عن قراءتها كل هذه المدة، أدهشني البناء الفني كثيرًا ووقفت أمامه متسائلاً مفكرً مدهوشا كشخصية (أ) وهو ينظر إلى فتاة السطح المقابل، أو كــ (علا) و(ج) يقرأ أفكارها.
لو نظرنا معًا للموضوع من خارج زاوية الكاتب أو من خارج سلطة عرضه للرواية أو الأحداث لوجدنا الأحداث في مجملها عبارة عن متابعة لحياة إنسان قلبه معلق بالهوى منذ نعومة أظفاره ومذ فتح عينيه على الدنيا "فتى تعلق بابنة الجيران وهما طفلان يلعبان، وتبادلا الهدايا وأحس بالغيرة حين رآها تلاعب غيره، ثم تنتحر والدته لأسباب معلومة أو غير معلومة، ويكفله زوج أمه ثم يتزوج الرجل من أخرى، ويرزق بطفلين وتموت الأسرة الجديدة في حادث تحطم طائرة وينال الفتى تعويضا يبقيه في رغد وتتكفل به جارتهم أم فتاته الأولى (د).
ثم يتطلع للمراهقة ويتعرف بفتاة جديدة يحبها ويألفها، ويتعرض لعملية جراحية يتخللها خطأ طبي يتسبب في عرج وألم دائمين وتتخلى عنه فتاته وتبتعد (ب).
يغلق على نفسه ويهوى الرسم ويحترفه، ويتعرف فتاة جديدة كانت حبيبة صديقه فيسحرها بقدرته على قراءة مكنونها ومعرفة سرها، وتستمر الحياة بينهما وتتطور العلاقة بالزواج وإنجاب طفلة سرعان ما تموت، ثم يصابان بالملل فيمضي كلٌّ في سبيله (ج) / ويتعرف غيرها .. بلغت الكمال في كل شيء، فهي أقصى ما يتمناه رجل؛ هادئة حالمة مطيعة محبة عاشقة. ولكنه ظل جافًا معها صامتًا حيالها قاسيًا عليها، حتى يفكر في الانتحار أو الجنون فيلتقي مجنونة مثله تعتلي سور سطح عمارة مقابلة له تمشي على السور، يلتقيان في جنونهما وخيالهما وجنوحهما وتصير هي الحياة بكل ما فيها، تنسيه ألمه، تتغلب معه على عقبات الحياة (أ).
هذه هي مجمل الأحداث التي في ذاتها مكرورة ربما ومعادة ومتوقعة، فكيف تمكن الكاتب من صياغة هذه الأحداث المعادة في قالب جديد؟ هنا جوهر الفنان، ولعل الأحداث انتظمت في ذهنه أولا بالصورة التي عرضتها آنفا، وكان التفكر كله منصبا على القالب الفني لعرضها أو طريقة العرض، فابتكر الفنان طريقته الخاصة التي هي عبارة عن محاضرة يلقيها أحد مدربي التنمية البشرية أو مستشاري العلاقات الأسرية حول مراحل الحب السبعة، ومن هنا سماها هيبتا، و"هيبتا" ببساطة ومن غير فلسفة هو رقم سبعة بالإغريقية.
تعريف الـ "هيبتا": "السبع مراحل في الحب، أو السبع مراحل في العلاقات العاطفية" وغموض العنوان وحده كفيل بإلقاء ظلال وإيحاءات وإشارات مختلفة في أذهان المتلقين . وأشعرنا منذ اللحظة الأولى أننا أمام أربع قصص لأربعة أشخاص سماهم (أ، ب، ج، د) ولكي يوغل في التضليل لم يرتب الرموز ترتيبها الطبيعي في حياة الشخصية فجعل الطفل (د) والمراهق (ب) والشاب (ج) والكهل (أ) وكذلك لم يجعل الترتيب طرديا ولا عكسيا بل جعله عشوائيا زيادة منه في التضليل والمراوغة، وهنا يحضرني قول رولان بارت عن روعة النص الأدبي حين "يغدو معه القراء أحرارًا في أن ينالوا لذتهم من النص، وأن يتابعوا – حين يشاءون – تقلبات الدال وهو ينساب وينزلق مراوغًا قبضة المدلول".
ولمزيد من المراوغة لم يعرض الكاتب لأحداث كل شخص مستقلة من بدايتها لنهايتها كتجربة "المرايا" أو "حديث الصباح والمساء" لنجيب محفوظ. بل قسم مراحل الحب سبع مراحل وراح يعرض في المرحلة الواحدة مقتطفات من حياة كل شخصية من شخصياته فزاد من مساحة المراوغة وتاه القارئ معه في شعاب الرواية، وصار الذهن منتبها للمرحلة العاطفية ومدى مطابقة الحالة لهذه المرحلة من عدمها، وهو يتأرجح بين المراحل السبعة (البداية – اللقاء – العلاقة – الإدراك – الحقيقة – القرار – النهاية "هيبتا").
وأخذت الرواية في المرحلة السابعة تنتظم عقدا واحدا كطفل يلعب بالبازل ووضع قطعته الأخيرة فالتمعت الصورة وضوحا، أو كالتي تمسك بصنارتي التريكو وأمامها أكوام خيوط استطاعت بعد جهد جهيد أن تنظمها في ثوب واحد.
حين يصل المتلقي للحقيقة فيدرك أن الشخصيات الأربعة شخص واحد في مراحل مختلفة يشعر وكأنه توصل لاكتشاف ما أو أدرك حقيقة علمية من حقائق الكون، ينساب منه شعور بالظفر لحين ثم الخيبة لحين آخر كيف لم أدرك أنهم شخص واحد إلا في الصفحة الأخيرة؟ من خلال ذلك تجلت براعة الفنان وبراعة القالب الفني الذي وضع فيه روايته.
وهذا يعود بنا للنقطة التي بدأنا منها وهي المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، والقاصي والداني، وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك
د. محمد ياسين علوان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.