الصفحات

ليلة حمراء ماطرة_ قصة قصيرة || وليد.ع.العايش

إنها ليلة ماطرة ، هكذا قال المتنبئ الجوي منذ قليل ، الغيوم كانت تعتلي صهوة السماء ، نسائم الرياح بدأت تغير جلدها كما حرباء على ذروة شجرة مقفرة الجسد ، لم يعد هناك متسع من الوقت للمغادرة ، قال كريم باشا في نفسه ، لكنه تابع سهرته التي انتظرها من فترة طويلة ...
لعله صدق هذه المرة ، فحبات المطر تبدأ بمغازلة النافذة المطلة على الحديقة المشبعة برائحة الأرض ، صليل الأصوات يتغلب على صهيل المطر القادم من رحم شفاه السماء ...

- لابد لي من المغادرة ، الوقت تأخر أكثر مما ينبغي .
- وهل تخشى الظلمة ياكريم باشا ... قهقه الساهرون ...
- لا لم أكن يوما أعرف معنى الخوف ، فكيف لي أن أخشى من الظلمة ... لكني تذكرت شيئا مهما ويجب علي الرحيل .
- آه ... إنك تود الهرب من خسارة الليلة ، لا عليك لن تدفع شيئا اليوم .
ضم كريم باشا شفتيه ، عض على أسنانه البيضاء ، قذف بورقة نقدية من فئة الألف ليرة على الطاولة الخرساء ثم هب مسرعا من كرسيه الخشبي الذي ترنح آسفا .
لم يلتفت إلى كلمات الساهرين ، احتذى نعليه ومضى مختفيا في عتمة مرعبة .
لتوها حضرت ذكريات من تحت ستار أسود ، قال يوما والدي بأن هذا المكان ( مسكون ) ، تمتم بتعويذات مختلفة تداخلت فيما بينها حتى لم تعد مفهومة ، أخذ يغني بصوت مرتفع إلى حد ما ، لكن حنجرته تخونه في هذه اللحظات .
- لن أعود ... سأتابع طريقي ... كلها حكايا الكبار ... أين الجن ، ربما هم نائمون ، فالساعة تجاوزت حدود الليل ...
توقف عن الكلام فجأة ، دوي الرعد أجبره على الصمت ، مابين الخوف الآتي من بين براثن حكايا قديمة وطمأنينة دوي رعد ، تعثرت خطوات كريم ...
دقائق تمر متثاقلة كما سلحفاة هرمة ، المطر أصبح أكثر هديرا ( هل يخشى الجن من المطر والرعد !!! ... ) قالها محاولا دفع الخوف قليلا إلى الوراء .
وأخيرا تجاوز ذاك المكان المخيف حتى لمن يمر منه نهارا ، حتى الطيور التي بنت أعشاشها في زواياه تبدو وكأنها تهابه ، طرق باب بيته بقوة ، كانت ثيابه قد نالت حماما باردا ، الطريق لم يكن قصيرا كما كان يظن ، وربما الخطوات أقفلت خطوطها على توقيت دقات قلبه الرابض في واد سحيق ...
- أين أمك يابني ...
- أمي !!! ...
سكت الطفل دون أن يجيب على سؤال أبيه .
- ألم تسمعني ... أين أمك ...
- ذهبت إلى بيت جدي وتركت لك هذه الورقة .
ناوله ورقة صغيرة ثم توارى في ركن غرفة شبه مضاءة ، قرأ كريم باشا جملة واحدة كتبتها زوجته على تلك الورقة ، لم يكن للدموع مكان في ذلك الوقت ( ضاعت الليلة الحمراء ) ... ارتمى على أريكة مكسرة الأجنحة .
-------------
وليد.ع.العايش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.