الصفحات

العوديسا و المعمار الفني ..في قصائد الشاعر الكبير خالد أبو خالد

بقلم: أحمد عبد الرزاق عموري
جزء من دراسة قدمتها عن العوديسا أثناء تكريم للشاعر خالد أبو خالد 
شاعرنا الفدائي العاشق يغني على لحن البندقية لفلسطين . وللحبيبة على ربابة كشاعر شعبي يغني الميجنا والموال والدلعونا فيقدم لنا \ العوديسا\ مجموعة من قصائد التفعيلة الطويلة نسبياً والتي قدمها الشاعر خالد أبو خالد عن حياة شعب تعب من ممارسة حياة سندبادية تلقي به من منفى إلى آخر .وفيها هواجسه وشعوره الطاغي بالثورة والقلق والغربة وتكاد القصائد تبدو قصيدة واحدة
في المواضيع التي تعج بها رغم اختلاف الوزن فيما بينها. ولهذه القصائد اتجاه واحد في هدفها الواضح النتيجة وهو أوجاع فلسطين وآلامها وتحمل جيوباً متعددة من الحساسية والجمال وتقترب كثيراً من الشعر الملحمي والدرامي وفي طياتها كافة أسلوبية التعبير .وبعد التعريف المقتضب للعوديسا لابد من التعريج على عناوين القصائد التي تضمها.
ــــ العناوين ومدلولاتها :ــ والعنوان كما نعرف هو عتبة لها من الأهمية للولوج نحو عمق القصيدة و من الملاحظ شروع الشاعر في اختيار العناوين الطويلة للقصائد في أغلب الأحيان. وبدقة وذات مغزى وهدف .والتي ترسم امتداد الجسر للمتلقي .والأمثلة أكثر من الحصر.. وفي برهة لابد من توضيح تأويل بعض العناوين ومدى عمقها ومغزاها وهدفها والتي ساقها الشاعر في العوديسا حتى يتبين للمتلقي أهمية العنوان والبراعة في الاختيار. .\ رمحٌ لغرناطة..سارية للحداد \ نجد كما أشرت سابقاً الطول بالعنوان. فمفردة الرمح ما تفضي من رمزيتها الطعن والغدر والتأمر وكأن الشاعر يستحضر رمح وحشيّ الغدار في مقتل حمزة ؛ وفي المفردة الثانية غرناطة هي إشارة من التاريخ الأندلسي زمن الطوائف المتناحر فيما بينها والتي أضاعت البلاد والعباد وتلعب اللام دوراً جوهرياً بين مفردتين مختلفين لجعلهما في بوتقة واحد وهي الإسقاط على واقع الدول العربية المقسمة والمتناحرة في الحاضر كالطوائف السابقة في الأندلس والتي تعيد ما كان من ضياع سابق إلى ضياع جديد لفلسطين والشاعر يترك للمتلقي فراغاً للتفكير ويتابع العنوان في المفردة الثالثة سارية وهي علامة ترى من بعيد وهنا دلالة للوضوح بالحالة والتي لا تحتاج للتفسير فالمأساة لم تعد مخفيةً وفي المفردة الرابعة كلمة الحداد والمعروفة المعنى السواد والموت والنهاية والهزيمة وهنا كذلك للام الدور السحريّ لربط السارية أيّ الوضوح مع الحداد أيّ الموت والهزيمة .وبعد استعراض بعض تأويل العناوين يجب الإشادة بالبراعة في التقاط هذه العناوين والتي تدل على وعي وثقافة واسعة في التاريخ فالإسقاط التاريخي على الحاضر من
خلال العناوين والتي هي العتبة النصية لدخل مضمون القصيدة . وربما تكون عناوين نخبوية فالمتلقي العادي قد يجد صعوبة للربط بين مفردات العنوان
1 ـــ الأسلوبية في العوديسا:ــ تعريف نظرية التفكيك والتي تتمحور حول تفكيك الشكل الأدبي والذي يكون حاملا للمعنى المراد وبكونه الواهب الذي أنجز من خلاله المقصد والفحوى والمعنى.نرى العوديسا تناظر الشعر الدرامي ولا بد من تعريفه أولاً قبل الغوص في الأسلوبية المعتمدة من قبل الشاعر خالد أبو خالد في طرح قصائده.فالشعر الدرامي يعتبر ذروة التعبير المعاصر ففي مفرداته التاريخ والتراث والذات في وعيها واللاوعي وأمواجها المتلاطمة وجزئيات الحياة . و يرسم في جنباته حوارية الأصوات المتعددة وكذلك يعتمد على المجاز وربما يتقاطع الخيال مع الواقع وريما يتنافر .ومن حقّ الشاعر البحث عن آفاق شعرية يندمج فيها الخلاص الذاتي بالخلاص الجماعي وهو في هذه القصيدة يمنح الحبكة مشروعيتها الفنية ،و يظهر قدرة الشاعر على التقاط الإنساني والجوهري في قضيته العادلة.و لا يكتفي بالحدث، بل يضيف إليه صفة الديمومة والاستمرار .ويرسم بالقصيدة المعركة غير المتكافئة بين الحنين والرصاص ونراه يقدمها في ثوبها الفني البهي الذي لا يخدش شفافية اللغة الشعرية.ويبقى الوطن والمنفى والعودة لفلسطين أساسها.ولأن الحنين هو السلاح الوحيد الذي كان يحمله العائدون في تلك الرحلة نحو الوطن يجسده الشاعر في قصائده. وفي الأسلوبية المعتمدة لدى الشاعر في طرحه خطابه الشعري في العوديسا متنوع يزيد التوتر الدارمي والخلط المدروس للمعمار الفني لبناء القصائد يجعلها تفيضُ بالكامن من الجمالية والرؤى كما تعطي المتلقي مخزوناً من الثقافة يضاف إليه رموزاً و كنزاً من كافة الخبرات الوجودية للحيّ. ويمكن تقسيم الأسلوبية المعتمدة في كتابتها على النحو التالي:ـــ
1 ـــ الغنائية: يعصر اللحظات الشعرية في غنائية واضحة المعالم فكيف لا وهو الفدائي العاشق يحمل البندقية في يد والربابة في اليد الأخرى؟ والغنائية من أساس الشعر الملحمي. وشاعرنا مع هاجسه الفني يحمل في خلاياه ملحمة شعب يناضل في سبيل نيل الحرية 0 ونراه في قصيدة \أسمّيك بحراً أُسمّي يدي الرملَ \.حيث يظهر كيف يصبح الغناء كالبكاء والبكاء كالغناء في لحظة درامية فيها الأرواح أمام فرح الشهادة والمقاومة وبين لحظة الغدر للقضية العادلة
فيقول:ـــــ \كنتُ في طائر ألبسوا ريشهُ قفصاً\ حنّطوا صوتهُ\ ثمّ غنّى لسجّانه ذاتَ يوم \ونامَ على صوته ..واختفى \
ـــ ثمّ ماذا؟ \ـــ تحسّسَ أوتاره ..\ وانفجرْ..\ـــ سأدعوك للرقص هذا المساءْ ..\فكلُّ البكاء ..غناءٌ \وكلُّ الغناء ..بكاءٌ\.
2 ــ الحوارية :ــ في تراثنا الشعري العربي أسلوب الحوار رأيناه في طيّات العديد من القصائد القديمة والمعاصرة . وفي قصائد خالد أبو خالد مقاطع تأخذ منحى الحوار المسرحي يوزّعها بحكمة و حنكة وفي مكانها المطلوب على جسد القصائد والحوار يأتي على شكلين فتارةً يكون الحوار مع الذات \ المونولوج \ وتارةً أخرى يرّدُ على شكل الحوار مع الآخر وهو في الحالتين يكون هادفاً ومركزاً و الحوار في كلا الحالتين يرخي بالقصائد قوة ونبضاً وحيوية .
والأمثلة متعددة ففي قصيدة \دمي..نخيلٌ..للنخيل \ الحوار مع الذات \المونولوج \يقول الشاعر \ ليل لمحنتنا الطويلة \ هي غزوةٌ..وأقومُ..\ قلتُ تردُّهم روحي..وتهزمهم دمائي \ فتوزّعتْ جسدي الشواهدُ..إذ هدرتُ \ فقلتُ أنهضْ..\ هل كنتُ أدركُ أنّ خارطةَ الخروج معدةٌ \ فخرجتُ..؟ \ لم أخرجْ..\ وأسرجني مسائي \ صرتُ القتيلةَ ..والقتيلَ فوحدتني في النخيل ..\ وفي الأصيل ..كواكبي \..وعن الحوار مع الآخر نراهُ في قصيدة
\ رمح لغرناطة..سارية للحداد \ يقولُ شاعرنا في حوارية ..\سيقتلنا البرُّ \ قالت.. فألقى عباءتهُ فوقها..وتنهدْ \ فلنتعانقْ قليلاً إذاَ \ قال فاقتربتْ..ثمّ أغفتْ \ .و في نفس القصيدة يقول .. \قال إنّي أحبّك ..قالت.. ــ أحبّكَ \ثمّ تدفقَ بينهما دمها كالعتابا \ بكت وبكى \مشهد في المشاهد \والمسرح الآن غرناطتان \.
3 ــ السردية: يدمج شاعرنا بين اللغة الشعري مع لغة السرد وفي هذا الخلط يدخلنا الشاعر معه ساحة الحداثة والدمج هو من ركائز الحداثة الشعرية في نهر الشعر العربي والسرد يظلُّ دائماً يماهي علم الدلالة و كما يعرفه \ جوناثان كوللر \ السرد كان ولم يزل الوسيلة التي نعقّل العالم بها ونعقل أنفسنا \ .والسردية لدى الشاعر تأتي مفعمة بالمعاني فيها الدلالات والرموز وهنا إضفاء لسلطان قويّ على الناس هو السرد. فالسرد عامل جذب والعناية به وإتقانه كما فعل الشاعر أعطى الهدف من خلال متواليات سردية متقنة ومزخرفة في تواتر وتناظر يضفي جمالية وعمقاً للتفسير وكذلك يضفي تكثيفاً وتركيزاً مدهشاً.ففي قصيدة \العوديسا\الجزء الأول منها يقول الشاعر \عائدٌ في الصهيل \ ويتبعني الغبارُ الدائمُ \غريباً \ ومنتشراً كأجنحتي الرصاصية\ كالطرق العديدة \ضائعاً \ومختلفاً \ كالطرق الوعرة\ منتشراً من أول الماء\ إلى آخر اليابسة \إلى البيارق المحترقة في القلب حيث يذهب الغبارُ\ والدّمُ الذي يفجّرُ الصورَ الصاعقةَ\
والنواعيرَ\ وحدهُ الغبارُ منّي \ والرحيلُ \ مخلّفاتُ القتلى \ ولا أعرفُ الجهاتْ \.
4 ــ الأماكن : ـــ لدى الشاعر حيز للمكان في قصائده وكما هو معروف المكان من سمات القصة ولكن الشاعر يجعله ضمن منظومة أولياته فيصف تفاصيله ويعكسه في مرايا القصائد مضيفاً إليه شعوره المتناغم مع فكره ورؤاهُ نحو ذاك المكان وربما يخلط المفهوم العام عن ذلك المكان إلى مفهومه الخاص.ففي قصيدة \يا ميجانا صبرا..يا ميجانا يا ريم \ يقول شاعرنا \ باريس معتمةٌ..وعيدْ \ باريس من ورد صناعي ..ومن فنّ محطّمْ \ باريس ..لا منفى ..وغربةُ شاعر \.
5ــ الأزمنة والمواقيت:ـــ هناك تأكيد من قبل الشاعر على وضعنا في الزمان الذي يلفُّ الحالة الشاعرية فهو يعلنه في صراحة ويجعله من ركائز القصيدة وهنا ميزة للشعر الملحمي كعملية توثيقية للحدث الذي يعرضه. ففي قصيدة \العوديسا\ الجزء الثاني يقول \ هو الوقتُ يرهصُ فينا ..فنرفعهُ موجةً..موجةً ..ونهاراً ..ونحصدهُ في الليالي..ونطرحُ غلّتهُ في الدوالي..\. وكذلك في الجزء الثالث من قصيدة العوديسا كذلك يقول الشاعر فاضحا الخروج من بيروت كيف الزمن يكون قائلا \ عبرنا إلى الماء ..\ ظلَّ المساءُ حزيناً.ويحنو على جسد في الرصاص\.
6ــ المباشرة والجمل الاعتراضية: ــ يلجأ الشاعر إلى الألفاظ العادية والمباشرة في أسلوبه ويبتعدُ عن المجسدة وفلا النعوت موجودة ولا مصادر الأفعال .و المباشرة التعبيرية في الأسلوبية ليس من العيوب إذا كانت في مكانها وتفيد في تأجيج الشاعرية في رحم القصيدة كما في المقطع التالي في قصيدة \ يا ميجانا صبرا..يا ميجانا يا ريم \ حيث يقول \ يا ميجانا استعري \ يا ميجانا انتشري \ يا ميجانا لا تقبلي التوبةْ \ يا ميجانا لا تطلقي حزناً بلا حربةْ \ يا ميجانا الغربةْ \. .وكذلك يلجأُ إلى بعض التقنيات الأشبه بالحيل حين يضمن بعض الجمل الاعتراضية والتي تشعّ نحو حالة يريد الشاعر تسليط الضوء عليها دون غيرها.وربّما هذا مقطع من قصيدة \ فرسٌ لكنعان الفتي \يعطي فكرة عن فائدة الجملة الاعتراضية في أسلوبية الشاعر فيقولُ.. \فعلّقها قراصنةُ البحار على الصواري..\ والملّفات ..انحنتْ في اليأس ــــ لا جدوى من الورق المبرمج وانطوتْ ــــ ليلٌ على نيويورك ..من ليل المخيم ــــ
و افتداها عاشقٌ ..فرمتْ ضفائرها إليه \.
7ــ التكرار :ـــ شاعرنا يمتلك القلق الوجودي يجنح إلى عقيدة الثورة بكلّ زخم يعرضها في شكلها ومضمونها في
العوديسا يصبّ فيها معين الكلمات وتجاربه المعرفية وخفايا أعماق نفسه.وهي تحمل صفات الثورة وتتفجر كالبرق في ظل واقع قاتم ومظلم وصادم وفيها إبراز لدور الشاعر الطليعي العارف للحقيقة وفيها التحريض للإيمان في حتمية الانتصار. ويلجأ لهذا السبب في قصيدته إلى التكرار في بعض المفردات والجمل والتي تفيض إلى حدّ تأخذ حيزاً واسعاً في بعض القصائد وهي كاللازمة وكلمة السرّ فيها للربط بين أجنحة القصيدة والمتلقي كما في قصيدة \ يا ميجانا صبرا..يا ميجانا يا ريم \ ..يا ميجانا ..يا بحر..حلم..\.وكذلك في خاتمة القصيدة يقولُ الشاعر مقطعاً يكرر فيه نفس الجملة ..\ يا ميجانا\..\بردٌ ومفترقٌ..وليلْ \ بردٌ ومفترقٌ..وليلْ \ ..\بردٌ ومفترقٌ..وليلْ \.
8ــ رمزية الشخوص والطبيعة والمصطلح الخاص:ــ وثقافة الشاعر العميقة والمتنوعة تجعله يستفيد من النتاج التراثي من رموز الشخوص التي مرت في تاريخنا العربي وكذلك من بعض عناصر الطبيعة ويوظفها في خدمة منجزه الشعري ولإبراز عمق أفكاره وهنا تأكيد من الشاعر غير مباشر للتراث وأهميته فهو يذكر في قصائده \ عنترة وعبلة وابن زيدون و ولّادة وصقر قريش وزرقاء اليمامة..\وهي رموز لها من المدلول في الذاكرة العربية الكثير وبمجرد ذكرها تعطي الملامح العامة للمقصد و المراد.وكذلك تعجُّ القصائد في عناصر الطبيعة كالشجر بأنواعه وحسب ما يرمز في الذاكرة العربية والفلسطينية على وجه التحديد\النخيل والزيتون و السنديان والصفصاف و البرتقال و الزيزفون والكروم \ وكذلك الطبيعة لها مكانها في أسس القصائد لدى الشاعر وما لها من معان لدى البشر \ كالٍأرض والبحر والماء والدم والخيول والطيور والشمس والصخر \ ..يقول في العوديسا الجزء الثاني المقطع التالي..\ كاذبٌ الزيزفونُ \ وبخيل \بينما جذوري مجدولةٌ بالسنديان \والنخيل \ والزيتون \والجبال التي لا تنامْ \.
وهناك رمزية لبعض المفردات والمصطلحات لدى الفلسطيني يوظفها الشاعر لما لها من خصوصية ومضمون ويعمق بها ما يرسله من مواسم لأفكاره ومشاعره بالقصائد
\ كالثورة ..المخيم..البواريد..الرصاص..المنفى..الميجانا..العتابا\
9ـ الأحداث :ــ ويشير الشاعر للأحداث في قصائده وفيها يعمل دور المؤرخ ولكن يوثقها بغير ترتيبها الزمني فيقدمها ويؤخرها حسب حاجة وجود الحدث كمدلول معين بالقصيدة .
كخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت إلى المنافي البعيدة..مجازر صبرا وشاتيلا ..مؤتمر مدريد للسلام
الكاذب..الانقسام الفلسطيني.. صمود المقاومة في معركة مخيم جنين..صمود غزة..

الشاعر العربي الفلسطيني أحمد عبد الرزاق عموري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.