كانت الحافلة متوقفة كعادتها بلونيها الأبيض والأخضر كباقي الحافلات، تنتظر على رصيفها المعتاد والمُّـُوسم في أرضيته باتجاهها، تكمل دقائق متبقية من زمن الانتظار المخصص لها، حتى يلّملم صاحبها أكبر عدد من المسافرين، يغتصب زحمة المسافرين بصراخه الحاد وينادي بأعلى صوته إلى وجهتها،أقول في نفسي بعد أن اخترت مكانا بقرب النافذة، أين يمكن لرِجليْ رجل مكتنز مثلي أن تتحرك بطلاقة، بالنظر إلى الدقائق المتبقية كان له الوقت الكافي لأن تمتلئ، فاليوم يوافق الدخول الجامعي والطلبة يتهافتون على مقاعد الحافلة بعد أن يشتروا تذاكرهم من كشك داخل المحطة، الكل متأهب للانطلاق عدا صاحبها كان يريدها عامرة على آخرها رغم ذلك كان بعض المسافرين ينظرون إلى داخلها يتخيرون المقاعد، ولم يعجبهم بعضها فينتظرون الحافلة الّتي تليها.
جلست بقربي امرأة تبدو حاملا، ضخمة مليئة نوعا ما غير مٌفرطة، عيناها سودوتان، ووجهها متسع وجبهتها بارزة قليلا، بشرة وجهها ناصعة البياض لا أثر لتبدل جلدها من الحمل، وقبلي فتاة ربما تعرفها أو تعارفا في المحطة وكانت كل منهما تكلم الثانية فاضطر إلى سماع ما يقولون، ليس مخيرا، رغم ذلك كان يحلو لي بعض ما يقولان، قالت الصغيرة قبل أن تنطلق الحافلة، أنها ستحمل بطفل كحملك يوما ما... فضحكت ذات الحمل ضحكا كثيرا.
امتلأت الحافلة عن آخرها إلا بعض مقاعد في الوسط، أحد المسافرين كان ناقما على النقل العام، ولكنه بدا لي متقلب الحال فقد كان يتشيك بسروال ممزق يُظهر بعضا من جلد فخذه وكان الدهن أو الجل الزائد الذي وضعه على شعره يكاد يسقط على جبينه، ولونه القاتم المليء بالسمرة يوازي نفس لون فخذه فلم يكن قد تعرض للشمس في هذا الصيف، أو أنه تعرض لها في البحر حتى اكتسى السمرة في وجْهِهِ كفخذِه، جلس في المقاعد التي تتوسط رواق الحافلة، موازيا للشابة التي قبلي، وكان في كل تقلبات رجله يتذمر مرة أخرى ويضبط هاتفه المحمول على موسيقى أخرى فيه، ويظهر الأمر أنه لا يكترث بنا أم أنه لا يسمع ما يقول حتى هو بنفسه، لوجود سماعات على كلا أذنيه، ويبدو أن سائق الحافلة لا يكترث أيضا به ولا بالحافلة ولا بسرعتها، فقد ألِّف مثل ردَّات الفعل هذه، بل الكل لا يكترث له، في خضم ذلك كان السائق يسرد بعض مغامراته المشبوهة في سياقاته التي يصفها بكل أوصاف المجازفة، ويستغرب الركاب حوله، في بديع صنعه ومدى كثرة ترحاله، عبر أوطان ومدن كثيرة حتى هو لا يقدر على رصدها، لكن جدّيا لم يذكر مرة على مدى الطريق أنه سافر إلى أماكن غريبة كالمحيط المتجمد أو خارج المعمورة، إلاّ أنه لوح في صدّد حديثه إلى توقف محرك حافلته مرات عديدة من فرط البرد الذي حسبه كان تحت الصفر بصفر آخر، في حين أن أحد الذي يسمعونه كان يعرف كل قصصه، تدارك هاتفه ليُكلم بصوت خافت أحلام أو ربما إلهام يبدو أنني كنت أتلصص عليه دون أن أعِ، ولكن أدركت أنه في حواره وعندما يبدأ بالكلام يعُّم الصمت نوعا ما، ربما كان يزاحمني الكثير في تصنتي، ولما انتبهت لنفسي كان قد همّ بتوديع مخاطبه. وضرب موعدا له في النزول، الشابة التي كانت أمامي لم تكف عن الكلام كذلك في هاتفها لكنها تتكلم بصوت ناعم لهذا كان صوتها أقل صدا رغم قرب المسافة.
في منتصف الطريق كان القيظ يزداد، ولا أرى أعمدة الهاتف تسابقنا كما سبق أن رأيت من زمن بعيد، فقط بعض أشجار تائهة هنا وهناك، كأن المسافرين يتكاثفون في الحافلة، الأنفاس تتقارب بسخونتها ورائحة العرق وروائح أخرى تتناثر في كل أماكن الحافلة، لم تكن مكيفة رغم ذلك لم ننجو من روائح الزفت في تلاحمه مع المطاط عند فتح النوافذ، نهض الشاب الذي يتوسط الحافلة دون أن يتدارك سرواله فقد كاد يسقط وظهر حتى سرواله الداخلي الذي طبع عليه بالأجنبية كلمة رجل، في حين أنني لم أرى للرجولة مكان في حدث كهذا كان البعض الآخر لا يرى في هذا المظهر ما يقزز، لكنني استغربت الأمر بعض الشيء.
عادت الشابة إلى الكلام مع المرأة الملاصقة لي، كانا كلانا مكتنز لا يستوعبه المقعد ولكننا علمنا خطأنا فسكتنا.
عندما اقتربنا من مقصدنا، بدت سرعة الحافلة كأنها تتناقص إلى أن توقفت دون سابق إنذار هبط السائق وبعض الركاب، أما أنا فقد كنت محاصرا في مكاني، كثرت التمتمة،توحي أن للسائق يد في ذلك، لكن الوقت قد طال قامت المرأة التي بجانبي فخرجنا من الحافلة وجدنا بعض الركاب يلوحون للسيارات المّارة.
كان الحر يؤجج الإسفلت فيتزحزح عن مكانه بل بدأ يتحول من الصلابة إلى السيولة، رائحته ازدادت كثافة، نظر الجميع إلى السائق الذي بدا منكس الرأس يبحث عن دلو فارغ، الكل لا يتمنى أن يكون مكانه.
بدا الأمر كعقوبة، انتظرنا عودة السائق في حين كانت الشمس تقترب أكثر فأكثر، ابتعدت الشابة التي كانت تجلس أمامي مع الشاب الذي كان يتكلم بالهاتف بعيدا عنا، حتى كادا يتآكلا هما السراب، ودخلت أنا الحافلة مع بعض الركاب تفاديا للحر، سرعان ما بادرتني المرأة التي كانت بجانبي الكلام الآنسة......، قررت أن أنسى أنها حامل كما أوردت الشابة في بداية المشوار.
بدا جمال روحها يضاهي جمال وجهها، الوقت أصبح يمر بسرعة في انتظار السائق، على الجانب الآخر ظهر يحمل دلوا مملوءا عن آخره وهو يحاول المرور عبر الطريق السريع، كنت أتمنى أن لا يمر أبدا بيد أنه استطاع دون أن تصدمه سيارة، كان الأمر سيكون أشبه بمعجزة في هذا الحر مع قلة السيارات المارة، ملأ الوقود باشمئزاز أقلع دون أن ينظر إلى الركاب فقد غادر بعضهم مع سيارات المارة.
في اقترابي من المحطة تذكرت الفتاة والشاب، قلت في نفسي قد يجدون ضالتهم أو ربما ستأتي حافلة بسائق مغامر كسائقنا، نزلت من الحافلة نسيت مقصدي لكنني وجدت مقصدا آخر.
الاطرش بن قابل
جلست بقربي امرأة تبدو حاملا، ضخمة مليئة نوعا ما غير مٌفرطة، عيناها سودوتان، ووجهها متسع وجبهتها بارزة قليلا، بشرة وجهها ناصعة البياض لا أثر لتبدل جلدها من الحمل، وقبلي فتاة ربما تعرفها أو تعارفا في المحطة وكانت كل منهما تكلم الثانية فاضطر إلى سماع ما يقولون، ليس مخيرا، رغم ذلك كان يحلو لي بعض ما يقولان، قالت الصغيرة قبل أن تنطلق الحافلة، أنها ستحمل بطفل كحملك يوما ما... فضحكت ذات الحمل ضحكا كثيرا.
امتلأت الحافلة عن آخرها إلا بعض مقاعد في الوسط، أحد المسافرين كان ناقما على النقل العام، ولكنه بدا لي متقلب الحال فقد كان يتشيك بسروال ممزق يُظهر بعضا من جلد فخذه وكان الدهن أو الجل الزائد الذي وضعه على شعره يكاد يسقط على جبينه، ولونه القاتم المليء بالسمرة يوازي نفس لون فخذه فلم يكن قد تعرض للشمس في هذا الصيف، أو أنه تعرض لها في البحر حتى اكتسى السمرة في وجْهِهِ كفخذِه، جلس في المقاعد التي تتوسط رواق الحافلة، موازيا للشابة التي قبلي، وكان في كل تقلبات رجله يتذمر مرة أخرى ويضبط هاتفه المحمول على موسيقى أخرى فيه، ويظهر الأمر أنه لا يكترث بنا أم أنه لا يسمع ما يقول حتى هو بنفسه، لوجود سماعات على كلا أذنيه، ويبدو أن سائق الحافلة لا يكترث أيضا به ولا بالحافلة ولا بسرعتها، فقد ألِّف مثل ردَّات الفعل هذه، بل الكل لا يكترث له، في خضم ذلك كان السائق يسرد بعض مغامراته المشبوهة في سياقاته التي يصفها بكل أوصاف المجازفة، ويستغرب الركاب حوله، في بديع صنعه ومدى كثرة ترحاله، عبر أوطان ومدن كثيرة حتى هو لا يقدر على رصدها، لكن جدّيا لم يذكر مرة على مدى الطريق أنه سافر إلى أماكن غريبة كالمحيط المتجمد أو خارج المعمورة، إلاّ أنه لوح في صدّد حديثه إلى توقف محرك حافلته مرات عديدة من فرط البرد الذي حسبه كان تحت الصفر بصفر آخر، في حين أن أحد الذي يسمعونه كان يعرف كل قصصه، تدارك هاتفه ليُكلم بصوت خافت أحلام أو ربما إلهام يبدو أنني كنت أتلصص عليه دون أن أعِ، ولكن أدركت أنه في حواره وعندما يبدأ بالكلام يعُّم الصمت نوعا ما، ربما كان يزاحمني الكثير في تصنتي، ولما انتبهت لنفسي كان قد همّ بتوديع مخاطبه. وضرب موعدا له في النزول، الشابة التي كانت أمامي لم تكف عن الكلام كذلك في هاتفها لكنها تتكلم بصوت ناعم لهذا كان صوتها أقل صدا رغم قرب المسافة.
في منتصف الطريق كان القيظ يزداد، ولا أرى أعمدة الهاتف تسابقنا كما سبق أن رأيت من زمن بعيد، فقط بعض أشجار تائهة هنا وهناك، كأن المسافرين يتكاثفون في الحافلة، الأنفاس تتقارب بسخونتها ورائحة العرق وروائح أخرى تتناثر في كل أماكن الحافلة، لم تكن مكيفة رغم ذلك لم ننجو من روائح الزفت في تلاحمه مع المطاط عند فتح النوافذ، نهض الشاب الذي يتوسط الحافلة دون أن يتدارك سرواله فقد كاد يسقط وظهر حتى سرواله الداخلي الذي طبع عليه بالأجنبية كلمة رجل، في حين أنني لم أرى للرجولة مكان في حدث كهذا كان البعض الآخر لا يرى في هذا المظهر ما يقزز، لكنني استغربت الأمر بعض الشيء.
عادت الشابة إلى الكلام مع المرأة الملاصقة لي، كانا كلانا مكتنز لا يستوعبه المقعد ولكننا علمنا خطأنا فسكتنا.
عندما اقتربنا من مقصدنا، بدت سرعة الحافلة كأنها تتناقص إلى أن توقفت دون سابق إنذار هبط السائق وبعض الركاب، أما أنا فقد كنت محاصرا في مكاني، كثرت التمتمة،توحي أن للسائق يد في ذلك، لكن الوقت قد طال قامت المرأة التي بجانبي فخرجنا من الحافلة وجدنا بعض الركاب يلوحون للسيارات المّارة.
كان الحر يؤجج الإسفلت فيتزحزح عن مكانه بل بدأ يتحول من الصلابة إلى السيولة، رائحته ازدادت كثافة، نظر الجميع إلى السائق الذي بدا منكس الرأس يبحث عن دلو فارغ، الكل لا يتمنى أن يكون مكانه.
بدا الأمر كعقوبة، انتظرنا عودة السائق في حين كانت الشمس تقترب أكثر فأكثر، ابتعدت الشابة التي كانت تجلس أمامي مع الشاب الذي كان يتكلم بالهاتف بعيدا عنا، حتى كادا يتآكلا هما السراب، ودخلت أنا الحافلة مع بعض الركاب تفاديا للحر، سرعان ما بادرتني المرأة التي كانت بجانبي الكلام الآنسة......، قررت أن أنسى أنها حامل كما أوردت الشابة في بداية المشوار.
بدا جمال روحها يضاهي جمال وجهها، الوقت أصبح يمر بسرعة في انتظار السائق، على الجانب الآخر ظهر يحمل دلوا مملوءا عن آخره وهو يحاول المرور عبر الطريق السريع، كنت أتمنى أن لا يمر أبدا بيد أنه استطاع دون أن تصدمه سيارة، كان الأمر سيكون أشبه بمعجزة في هذا الحر مع قلة السيارات المارة، ملأ الوقود باشمئزاز أقلع دون أن ينظر إلى الركاب فقد غادر بعضهم مع سيارات المارة.
في اقترابي من المحطة تذكرت الفتاة والشاب، قلت في نفسي قد يجدون ضالتهم أو ربما ستأتي حافلة بسائق مغامر كسائقنا، نزلت من الحافلة نسيت مقصدي لكنني وجدت مقصدا آخر.
الاطرش بن قابل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.