الصفحات

الحضارة والعنف || نــدا ذبيان

لست من دعاة التخلف ولا من محبي الجهل أو حياة البرابرة، ولكن حين يصل الإنسان إلى مرحلة صراع لا ينتهي مع أخيه الإنسان نتمنى لو نعود إلى الماضي إلى أيام البساطة والتآلف والتعاون والأمان... أيام لم يكن هناك رعب من السلاح المدمر، أو من الأدوية الفاسدة والأغذية المغشوشة والمخدرات... وغيرها من الانتهاكات، أيام لم تكن تسبب نوبات من القلق والكآبة لكل إنسان مرهف الإحساس.
أي حضارة هذه تهتم باللياقة والتهذيب ولا تضع المعايير للحد من التنكيل والتعذيب وكل أشكال الفتن والترهيب!

ندعي الإنسانية وندعي التفوق، أين التفوق وهذه الحروب العبثية لا تتوقف، ندعي الإنسانية ! والإنسان بات أشد بدائية وفتكا من الحيوان، فالحيوان قد لا يقتل حيوان من جنسه وقد لا يقتل إلا ليأكل ، وهل سمعنا يوما أن جماعة من الأسود تقاتل جماعة من الأسود؟ أو سرب من الطيور يطارد سربا آخر من الطيور ليحتل ويهيمن... لاشك بأن الإنسان بات مستقبله مخيف جدا أمام حضارة العنف والتقاتل والجشع ! فهل الحضارة تعني عدم الأمان؟ أو تبديد الموارد هباء والغرق في أطنان من المخلفات والنفايات، وهل الحضارة هواء مشبع برائحة المبيدات ودخان المتفجرات...! وهل الحضارة في هذا الكم المرعب من السلاح ! .
تمتلكنا الدهشة حين نعود إلى تاريخ الحضارات ونقرأ كل هذه المدونات التي تركها لنا أشخاص عاشوا في عصور سابقة ولم يكن لديهم مخزون من المعارف أو التقنيات. لا أظن أن مستوى الذكاء اليوم أفضل مما كان لدى هؤلاء القدماء الذين أسسوا لنا هذه الحضارة المذهلة، وهذا التطور الذي ننعم به الآن ليس سوى ثمرة تلك الجهود والمكتشفات. صحيح أن ما نمتلكه اليوم من انفتاح وسهولة الاتصال جعل المعرفة اسهل ومتاحة للجميع ولكنها مزجت بين المفيد والعقيم وهذا ما جعل الناس في ضياع وحيرة.
ما هو التطور ؟ وهل يعني المزيد من الثروات أو المزيد من التقنيات؟ وهذه الحضارة المزعومة كيف يمكن أن تتوافق مع هذا العنف الكريه والتقاتل من أجل النفوذ والمصالح والمال ؟... يلفتني في هذا السياق رأي أبن خلدون الذي قال منذ عقود: أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، لأن أهل الحضر يغرقون في العمران والكسب والصنائع ويهملون الجوانب الإنسانية. وها نحن غارقون كما قال . أو الشاعر الفرنسي الشهير روسو الذي نبه في كتابه العقد الاجتماعي: بأن الحضارة شر وأنها تُفقد الإنسان إنسانيته وأن الشعوب البدائية لا تتنفس غير السلام والحرية والبساطة. وهل يمكن ان لا نؤيد هذه الفكرة ؟ الإنسان المتحضر بات لا يهتم غير بالمظاهر وبمصالحه الخاصة ويعمل بجهد كما الآلة طمعا في مزيد من المال لتبديده على كماليات غير ضرورية، روسو كان ينفر أيضا من عالم السياسة لما فيه من غرور وجشع فهل يمكن أن نقول عكس هذا؟ . والمفكر هربرت سبنسر قال أن هذا التطور ليس سوى أعراض، والتطور الحقيقي هو التغير في البناء الداخلي للمجتمع، أو ما سماه "الحكمة الجماعية". فعلا الحكمة أهم بكثير من التطور التقني الذي ربما يستخدم لغايات خبيثة وحيث تكون هناك مصالح فردية أنانية سيقع الشر حتما.
وإذا كنا نتعالى على مآثر الماضي، ونغض الطرف عن عبثية الحاضر، نقول لكم أيهما أفضل للبشرية صناعة الأسلحة أم صناعة رغيف الخبز ؟ وأيهما أنفع غزو الفضاء والبحث عن كوكب آخر، أم حماية كوكبنا من أخطار صنعناها بأنفسنا وهي التي باتت تهددنا؟ لا أدري لماذا انحرفت الرؤية وتحجرت القلوب إلى هذه الدرجة، وبات الإنسان أشبه بآلة تلتقط الصورة ولا تعي حقيقة الصورة؛ ربما أذا تأملنا في هذا الواقع جيدا عرفنا الحقيقة وعرفنا لماذا لا يتوقف هذا العنف المجنون .
في ذكريات الماضي دائما هناك عبرة؛ وفي عالم الطبيعة الغير مشوه سنحظى بالسكينة التي تبعدنا عن هذا القلق الملعون! يا ليتنا ندرك. ونعترف بأن عالمنا مشوه نحن من شوه معالمه؛ ليتنا ندرك بأن القناعة أفضل من الطمع، والتفاهم أفضل من التقاتل، والالتزام بالقوانين هو الحرية .
وخلاصة القول :
لا شك أن هذه العبقرية العلمية ساهمت في التقدم والرفاهية ولكنها في المقابل أسست لأبشع أشكال الرعب والدمار .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.