الصفحات

'أما أنا .. فكما علمت!' رواية لصلاح ياسين المواجهة الحضارية على مستوى التخيل الروائي

 خالد جودة أحمد
مثلت لي رواية "أما أنا .. فكما علمت!) للروائي صلاح ياسين صفحات من المتعة الراقية في جو مخملي ناعم حول الثقافة والفنون والموسيقي خاصة، كما تناول الخطاب الروائي حوارات ثقافية بين أقطاب الرواية رفيعة المستوي حول مدارس فنية ونقدها، وعلي الأخص مدرسة "للفن للفن"، بينما كان السلوك العملى للرواية ينطق بمدرسة "الفن للحياة".
اذكر أني طالعت عبارة انتشرت مكتوبة علي الحوائط في وسط العاصمة، وجدران بعض الحافلات (الثقافة .. مش بس في الأوبرا .. الثقافة في طنطا وشبرا)، وتحتل مدينة "طنطا" فضاء مكانيا مهما في الرواية باعتبار أن تصدير الثقافة للأقاليم أنجع واكثر إثماراً في البيئة المحلية من تركيزها في
العاصمة، وأتت في فكر الرواية في ثوب علمي مهم، فكان الإيهام بالواقع الذي برع فيه السارد من خلال عنايته الدقيقة بالتفاصيل الكثيرة، وتقديم المعلومات التي تشير لدراية الروائي بمجال الفنون الرفيعة وفنون المسرح، وإن كان الإخلاص لقضية التنوير الثقافي للمجتمع بوسيلة الفن في الرواية هو روح العمل الثقافي، فإنه ليس ناجزاً بمفرده بدون إدارة ثقافية واعية عالية الطراز كالتي وردت في رحاب الرواية الرقيقة علي خلفية رومانسية عذبة من الحب الناضج في ظلال الجدية، ورحلة للزمن الجميل لا تخلو من إشارات حضارية وتماهي سردي فني، وتفاصيل كثيفة منجمة تم طرحها في الثنايا مثقلة بالدلالات، فغالبية تلك التفاصيل لها إحالات ذكية في طيات الرواية خادمة لمسارات الرواية المشتركة والمزدوجة بين الخاص والعام، والذاتي والمجتمعي.

تعد الرواية من روايات المواجهة الحضارية على مستوى التخيل الروائي، وحقق ذلك منذ اللحظة الأولي من الرواية من خلال الرحلة إلى بروكسل عاصمة بلجيكا، والمقارنات بين مطاري بروكسل ومطار القاهرة، وجاءت الإشارات للتقدم العلمي والتقني لعدد من المخترعات من عجب عيسي الأحمد "مسبحاً الله تعالى، لهذه الكتل الحديدة التي تستطيع السباحة في الفضاء ..!". وجهاز تليفون "إحسان" ابنة "زهراء" الصغير بشكل لا يصدق (ص 21)، وإعلاء قيمة الإتقان في العمل ومشقته وسرعته في إشارات كثيرة.

والمقارنة بين العمالة في أوروبا ومصر، وإشارات حول قيادة السيارات العملية المحترفة في طرق ممهدة واسعة والهدوء الصامت والتواصل الإنساني والنشاط وجمال العمارة بأوروبا في مقابلة الصخب والدخان والتلوث السمعي والبصري في طرقات مصر، والمقارنة بين المسرح الأوروبي والمصري وشرح سر الداء وتقديم روشتة العلاج وفكرة "فن التجارة الثقافية"، وتوافر المنتج الثقافي، وأهمية التربية علي احترام الفنون الإنسانية عامة، ورعاية الدولة لرسالة الفن باعتبارها القوة الناعمة لها، ودور التليفزيون السلبي، وأزمة المسرح الخاص في مناقشة ثقافية رفيعة المستوي (صفحات 13 إلي 19 وأخرى في الرواية).

إلى شواهد كثيرة من تلك المقارنات الحضارية عبر النسيج الروائي جميعه، وإن كانت تشير إلي المفتاح الثلاثي للتقدم (الجدية / الإدارة / إحتواء الواقع وقبول بعض سلبياته في سبيل الإنجاز).

وتبدو إمكانية تحقيق الإنجاز الثقافي تدعو له الرواية للتنمية المجتمعية لدى حسن الإدارة، مع إحساس مضمر بالحزن من التأخر الحضاري في بلد أهله شديدو الطيبة، وله جذور حضارية موثقة في التاريخ (مصر أم التاريخ).

وتتميز الرواية بالحوارات الموحية وسيولة الحكي، كما كان تقديم الشخصيات متدرجأ بتقديم المعلومات عنها والغوص في نفسيتها ودوافعها على دفعات بطريقة إزالة الأستار عن حقيقتها، والبواعث النفسية وراء تصرفاتها حتى الأسماء لأبطال الرواية الرئيسيين جاءت متدرجة، فالسيدة زهراء المقرى، ممثلة مسرحية جادة، هي فاطمة الزهراء المقري، ثم نعرف في حكايا الخال حربي جذور العائلة المغربية فهى فاطمة الزهراء سيداد منصور المقري، والمصري عيسى عبدالمجيد الأحمد وهو مهندس ومخرج مسرحي يرفض أن تثور نفسه بسؤال غامض في حيرة محببة (هل تحبها؟) ص 18، وتنتهي بالإفصاح لزهراء في ظلال أبيات ديك الجن الحمصي التي غناها الخال حربي العيسوي عندما تتمني له "زهراء" نوماً هانئاً فقال لها باسماً:

"... إنما هو رجاء .. فنظرت إليه مستفهمة .. قال رافعاً بصره نحو زهراء السماء .. المتألقة دوماً: قولى لطيفك ينثني عن مضجعي عند المنام". وتمام الأبيات الشعرية والتي وردت في عتبة استهلالية مفردة للرواية، كما وردت بالتنويعات بصفحتين رقمي 151 و 152 من الرواية "أما أنا فكما علمت فهل لوصلك من دوام"، والإفصاح هذا اشتق منه الروائي عنوان الرواية، مما أكسبها شاعرية ملحوظة.

وهكذا كان الكشف عن خصال ونفسية باقي الشخصيات الروائية المؤثرة في الأحداث الروائية، والتي تدور حول فكرة اللقاء الحضاري ودور الثقافة في تنمية المجتمع من خلال طموح بطلي الرواية لتأسيس مسرح إقليمي (خارج القاهرة) شامل بطنطا (مجمع الزهراء للفنون)، والخطوات التي مرت لتحقيق هذا الإنجاز، ودور الهيئة الأهلية التابعة للأمير بودوان الصغير البلجيكي والممولة من المخصصات الملكية البلجيكية الخاصة (مع عقد مماثلة للمخصصات الملكية المصرية في عهود سابقة) في توفير التجهيزات الفنية المسرحية وأموال أخرى للمشروع

كان وعي الروائي ملحوظاً ونابهاً بالزمن وترتيبه وكسر النظام الخطي الزمني للحكاية، فحقق فنية متميزة للرواية باستعمال تقنية الاسترجاع (آلة الزمن السردية) في البدء من لحظة السرد الحاضرة (المصري عيسي الأحمد في الطائرة إلي بروكسل)، ثم استرجاع عيسي لذكريات يوم واحد ثم ذكريات لأقل من عام (يوم العرض المسرجي "تجليات آلياس")، وفي التبويب اللاحق الزهراء تبدأ من لحظة سرد سابقة لأربعة أيام من سفر عيسي ثم تتقدم بالسرد للأمام حتى تلتقي باللحظة السردية الأولي (الطائرة)، ثم في تبويبات لاحقة يتقدمون جميعاً للأمام ثم يعودن للقاء طنطا مع استعمال بارع لفكرة القصة الإطار (كليلة ودمنة نموذجاً) لكن هنا أقول فكرة السرد الإطار، وهي الذكريات من داخل الذكريات، بداية بالتلخيص الروائي في أربعة سطور صفحة 45:

"وأخرجت ملفاً متخماً بالأوراق والرسوم، شروح وتفاصيل وأرقام ... كان قد أعده عيسي الأحمد، بعد زيارته للموقع، على حدود مدينة طنطا، وبعد إطلاعه علي الملف الذي أعدته الآنسة إحسان، كفكرة عامة عن المشروع".

ثم سرد أكثر تفصيلاً في تبويب (الاستجواب)، ثم سرد داخل سرد (الاستجواب) بتفاصيل أخرى، تبدأ باللقاء العام في الخميلة ثم اللقاء بالخال حربي، ثم سرد آخر بحكايا الخال عيسي الحربي، وتاريخ عائلة المقري، بما حقق متعة القارئ وإيجابيته حيث ترك له الروائي مهمة إعادة نظام الترتيب الزمني في مفارقة بين زمن استغراق الأحداث (هنا 14 شهر زائد أقل من عام سابق لها)، والزمن الذي أخذ عناية الروائي باعتباره المؤثر في تطور الأحداث الروائية (بالتركيز على أسبوعين فقط في الـ 14 شهرا، وتفاصيل الذكريات في رحلة طنطا في العام السابق).

وهنا نجد الإيقاع السردي المجمل من خلال العلاقة الإحصائية بين المدة الزمنية للرواية مقاسة بوحدات الوقت، وطول النص المخصص لهذه المدة مقاساً بوحدة الكلمة، فمثلاً الـ 14 شهر أخذت 18 صفحة من الرواية انتهت بتويب ممسرح غير مرقم معنون (ما بعد إسدال الستار الأخير)، بينما الأسبوعان (بما فيهما من رحلات الذاكرة استغرقت سائر أوراق الرواية)، وهذا يمنح فكرة البعد النفسي للزمن في مقولة النسبية (لو جلست مع حبيب لمدة الساعة لكانت مثل دقيقة، ولو جلست فوق موقد ساخن للحظة لمرت كانها سنة كبيسة).

ويبقى أن نشير أن مقولة "طنطا بلد المحبوب" لعيسي الأحمد صفحة 44 في تذكر الزهراء، بينما كانت المقولة للزهراء نفسها صفحة 19، كما أن سؤال عيسي لزهراء بالخميلة الخضراء بطنطا صفحة 122 (هل الأستاذ أبو شعيب المقري يقيم هنا أبضاً ..؟)، بينما في اللقاء التالي في الترتيب الزمني في مطار بروكسل يبدو أن عيسي لم يكن يعرف بوشعيب من قبل (كانا معا بانتظاره، السيدة زهراء المقري، ومعها ما عرف بعد اللقاء أنه ابن عمها وزوجها السيد بوشعيب خالد سيداد المقري) ص 51، كما أن هناك إشارات قليلة لا نعلم ما الدلالة لها، مثال إشارة صفحة 91 عن إصابة الشابة إحسان لعيسي المشرف علي تخوم الكهولة (فاصابت منه مقتلا .. أو شبه مقتل .. !!) بينما محبته كانت للأم التي أصابت منه المقتل!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.