حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي
لجنة الذرائعية للنشر
دراسة ذرائعية بآلية الاستقطاع تقدمها الناقدة الذرائعية السورية الدكتورة عبير خالد يحيي
أولًا – المقدمة :
منذ أوائل الستينيات من القرن العشرين، انتقلت الحداثة إلى الأدب العربي الحديث، على أيدي مجموعة من شعراء من الدول العربية، و بالتحديد: سورية ولبنان ومصر، هكذا كان تسلل الحداثة إلى عقول معتنقيها وروادها وسدنتها من أدباء ونقاد ومفكرين على امتداد الوطن العربي بشكل هادئ، وهي كغيرها من المذاهب الفكرية، والتيارات الأدبية التي سبقتها إلى البيئة العربية مثل: البرناسة، والواقعية، والرمزية، والرومانسية، والوجودية والسريالية، وجدت لها في فكرنا وأدبنا العربي تربة خصبة، سرعان ما نمت وترعرعت على أيدي روادها العرب، أمثال غالي شكري، وعلي أحمد سعيد المعروف " بأدونيس "، وزوجته خالدة سعيد من سوريا، وعبد الله العروي من المغرب، وكمال أبو ديب من فلسطين، وصلاح فضل، وصلاح عبد الصبور من مصر، وعبد الوهاب البياتي من العراق، وعبد العزيز المقالح من اليمن، وحسين مروة من لبنان، ومحمود درويش، وسميح القاسم من فلسطين، ومحمد عفيفي مطر، وأمل دنقل وحسن طلب من مصر، وعبد الله القذامي، وسعيد السريحي من السعودية، وغيرهم …..
وقد ألف شعراؤها قصائد ودواوين ذات سمات ومواضيع شعرية غريبة تنتمي لفترة الحداثة وقد كانت تحمل السمات التالية:
أترعت بالفلسفة
والغموض
والسريالية بشكل مغالى فيه
الانعزال وإظهار الشاعر بمظهر فيلسوف منعزل عن المجتمع وقابع في برج القصيدة الماسي
والتغريب
الرمزية الثقيلة
افتقاد المحورية في القصيدة, أي شكل بمضمون ضحل
والتخريب
التجاوزات المذهبية والدينية والعقائدية
تبني العلمانية مذهبًا لأصحاب الحداثة
يقول أستاذي المنظر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي في مقالته ( الرفض العربي الفكري لمعطيات الحداثة الغربية) :"إن ما قيل في أعلاه بشكل سلبي من قبل بعض المصادر العربية التي أوردت ملخصًا لها، على تلك الثلة من الأدباء، كان مبالغًا فيه، ومحملًا بالهجوم السلبي الغير مبرر بشكل علمي ومنطقي، لكون تلك الثلة الخيّرة - التي ذكرت أسماؤهم أعلاه- هم من تصدّوا لهجمة الحداثة السلبية، وأدخلوا ماهو مفيد للأدب العربي كالرمزية والبرناسية وغيرها من مدارس مفيدة، والتي أصبحت فيما بعد وإلى الآن أهم المقومات في أدبنا العربي، ولولا شجاعتهم وتضحياتهم وإصرارهم، لبقينا نرواح في مكاننا خوفًا من دخول الجديد في أدبنا العربي, ولبقي أدبنا العربي معلقًا في المعلقات السبعة وما خلفها فقط….يجب أن لا ننكر أن شعراءنا اليوم وكتابنا يترعون بحرية فيما رفضناه سابقًا وأعطيناه صفات وأسماء ونعوتًا سلبية، وما جاء من تقدم في الأدب العربي يعود لهؤلاء العظماء، الذين قدموا أنفسهم قربانًا في زمن السبعينات حتى وصل بهم الحال إلى الاغتيال ومنع إصداراتهم من النشر..."
وخير مثال على ذلك الإغراق في النظم الشعري المحدث هو ديوان " سيرة بنفسج " وديوان " زمن الزبرجد" وآية جيم " للشاعر الدكتور حسن طلب،"( ) أستاذ الفلسفة وعلم الجمال، و يعد أحد مؤسسي جماعة "إضاءة" للشعر والذي نال جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب وجائزة السلطان قابوس للإبداع الثقافي ، نشر العديد من الدواوين الشعرية وكتابات في الفلسفة وعلم الجمال….
السيرة الذاتية :
حسن طلب
الدكتور حسن علي طلب (مصر).
ولد عام 1944 في قرية الخزندارية شرق ـ مدينة طهطا ـ محافظة سوهاج.
أتم تعليمه الثانوي بطهطا, ثم التحق بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة, وتخرج في قسم الفلسفة 1968 , ثم حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة 1993 .
اشترك في حرب الاستنزاف والعبور 68 ـ 1974 .
عمل مشرفاً ثقافياً بجامعة القاهرة, و يعمل نائباً لرئيس تحرير مجلة إبداع.
بدأ كتابة الشعر منذ المرحلة الثانوية, وقد شارك في العديد من الندوات واللقاءات الشعرية العربية, والأوروبية.
دواوينه الشعرية: وشم على نهدي فتاة 1972 ـ سيرة البنفسج 1986ـ أزل النار في أبد النور 1988 ـ زمان الزبرجد 1989 ـ آية جيم 1991 ـ لا نيل إلا النيل 1992.
ثانيًا- البؤرة الثابتة: Static Core
إن للشاعر الخلّاق حسن طلب استراتيجية فكرية مميزة جدًا, مزيج مدهش بين ضوء وصوت, ضوء وهّاج منبعه الفلسفة, وصوت جهوري حنجرته الشعر الذي أطلقه مدوّيًا في مواجهة الفساد بكل أقنعته, الثقافية والسياسية والاجتماعية, هو وطنيّ بكل مواقفه وأشعاره, يشهد عليه ديوان ( عاش الشهيد) الذي أصدره عام 2005 يوم خرج فيه عن الرمز ليكون صرخة واضحة وصريحة ومباشرة في وجه الفساد تحت سلطة حكومة حسني مبارك, أما قصائد ديوانه (آية جيم )التي اخترت الكلام عنها فكانت الإيماءة الرمز التي كان نصيبها المصادرة لأن صوتها المكتوم مزق طبلة أذن السلطة حتى أصمها ...
احتار حسن طلب بين خدمة الملكين, الشعر والفلسفة, وكانا فيما مضى أضدادًا,مع أنه اعتبر ثالث ثلاثة في تاريخ الأدب العربي مزجوا الشعر بالفلسفة, بعد أبي العلاء المعري, ومحمد إقبال, فاختار سلطة الشعر, الذي رجحت كفته على كفة الفلسفة التي كان نصيبها منه فقط ثلاث مؤلفات, بينما كان الشعر عنده هطلًا فكانت دواوينه: "سيرة البنفسج" و " زمان الزبرجد" و" لا نيل إلا النيل"و " إنجيل الثورة وقرآنها".
ثالثًا- الاحتمالات المتحركة :
أ- المدخل البصري :
إن كلمة ديوان بالتعبير الاعتيادي تطلق على مجموعة من القصائد لشاعر واحد بمواضيع مختلفة, لكن هذا الرجل قد كتب قصيدة واحدة بمواضيع مختلفة! وهذا شيء غريب يجعلنا في حيرة من أمرنا! واختزل تلك الحيرة بأمرين :
1- قد لا نستطيع اعتبارها ديوانًا بالمقارنة والتباين والموازاة تحت تسمية ديوان.
2- من ناحية أخرى وبنظرة نقدية فاحصة دقيقة نجد أن تلك القصيدة ينضوي تحتها مواضيع كثيرة مختلفة, لكنها تلتقي بحرف الجيم فقط وتختلف في الاتجاهات الفكرية, وتلك نقطة عبقرية تحسب لهذا الشاعر بشكل بصري, قصيدة واحدة, قسمها إلى مجموعات, أطلق عليها اسم السور , على غرار السور القرآنية..
وأما عن تكنيكه, فقد حمّل شعره برؤية فلسفية عالية المستوى, وبتكنيك رمزي مكشوف غير مسبوق اعتمد فيه مبدأ الاختيار المتعدد الاحتمالات(multiple choice technique) MCQTحين يدرج مجموعة من الجمل بحرف واحد(الجيم على سبيل المثال) وبعدها يدرج مجموعة كلمات من المعجم يقصد بها الاختيار العشوائي للمتلقي الذكي الذي سيجد رابطًا ما بين الجمل الشعرية و جوابًا مختارًا ينسجم معها، وهذا الدأب ظهر جليًّا في (آية جيم):
ثُم جَميعُ ما يَجرِى على المِنْهاجِ
مِن جِـيرٍ
وجِرْجيـرٍ
وجُمَّـارٍ
وجُمَّـيْزٍ
ومَسْجِدْ!
وهذه تورية يريد بها أن يقارن بين قصيدته والمعجم لذلك أسماها (جرومية)
ثم هذا التنوّع الغير مسبوق في شكل القصيدة, هو يلعب على الورقة كيف شاء, وأنى شاء, لا يلتزم بالشكل البصري للقصيدة, لا عمود يضيق ويتسع فنحسبه شعرتفعيلة أو قصيدة نثر, ولا عمودين متوازيين فنحسبها قصيدة قريض, وإنما سلالم, ومحلزنات أو لولبيات...:
فالجِيمُ مِن جِدَةٍ ومَوْجِدَةٍ
وجالِسَةٌ كساجدَةٍ
وعاجِلَةٌ كآجِلَةٍ
وبعضُ الجيمِ جَعجعَةٌ مُرَجَّعةٌ
وفاجعةٌ كناجعَةٍ
وواجمةٌ كهاجِعَةٍ
وجائِيَةٌ كراجعَةٍ
وإنَّ الجِيمَ جَذْرٌ جامِدٌ
يُجزَى بأجْرِ مُجاهِدٍ
جازَ الحواجزَ والنُّجُودَ
مِنَ الضَّجيجِ
إلى الضَّجَرْ!
فأجاءَهُ جَرْسُ الجَسارةِ..
لِلجُسورِ
تَجسَّـــمَتْ جِيمُ الجَزيرَةِ
فى الجَـزَرْ!
هذا التشكيل البصري اللولبي يتناص فيه الشاعر حسن طلب مع الشاعر الهاييتي فرنكشتاين, وهو شاعر وروائي ورسام و كاتب مسرحي من هايتي, كان أحد المؤسسين للحركة اللولبية الأدبية التي أثبتت تأثيرًا واسعًا وملحوظًا, وهي حركة رمزية يعني بها الحكومة.
وأفقيات:
جيماتُكمْ جنَّاتُكمْ وجَنَاتُكمْ
جيماتُكمْ مَرْجاتُكمْ خلَجاتُكمْ حُجُراتُكمْ
جيماتُكمْ جاماتُكمْ جرَّاتُكمْ جدَّاتُكم زوجاتُكُمْ
فاحْرنْجِموا بينَ الحِراجِ.. وهَجِّنوا جِيناتِكُمْ!
وهاهو ينظم القريض أيضًا ليثبت لنا أنه يطوّع قصيدته كما يطوع الحداد قطعة الحديد بأشكال عديدة, لكن كما يروق له, لا كما يُطلب منه:
جيمٌ من الوجْدِ أمْ جِيـــــــمٌ مِنَ الأرَجِ ترجرَجَتْ بين جيمِ الموْجِ واللُّـــــــجَجِ
وجَرْجرتْنى إلى جيــــــــــــــــــــمٍ مُدجَّجةٍ وجرَّعتْنى أُجاجَ الجيمِ فى الثَّــــــــــبَجِ
فأجَّجَتْ بين جنْبَىَّ الجَوَى وجـــــــرَتْ على جَنانى بسَجْساجٍ من الوهَـــــجِ
جيمٌ سَجيَّتُها غُنْــــــــــــــــــــجٌ ويُعجِبُنى ما فى مَحاجرِها النَّجْلاءِ من دَعَـــجِ
فجنِّبينِى وَجيبَ الــــــــجيمِ وانْبـَـجِسى مِن فجْوةِ الجَفْوِ يا جيمًا من الفـرَجِ
ب-درجة العمق والانزياح نحو الخيال :
وامتاز شعره برؤى فلسفية, خصوصًا لزهرة البنفسج وجوهرة الزبرجد، فقد جعلهما ذاواتا عالم فلسفي متكامل، وعند هذا المنحى أثبت نفسه شاعرًا حداثيًّا, قد استفاد كثيرًا من الحداثة وغلالها الثقافية، وتلك سمة جيدة فيه، لكنها حُمِّلت بذريعة الانقطاع عن مشكلات المجتمع والابتعاد عن هموم الناس، وواقع الشباب الفكري حينذاك، وهذا الرأي خاطئ، لو كان الرمز معروفًا في ذلك الزمن، الحالة التي اعتُبِر الشاعر عندها معزولًا في واد، ومتلقيه في واد آخر، لكان ديوانه " آية جيم " رمزَا أدبيًّا راقيًا في تلك الفترة.
تتجلى أهمية الخيال حينما نرى كيف يبدع الشاعر في تصوير مشاهد مألوفة في حياتنا, قد اعتدنا على رؤيتها , لكن الشاعر يبث فيها الحياة والحركة, يتخيلها على نحو فيه إثارة وطرافة , ولا أدل على ذلك من أنه جعل من حرف الجيم كائنًا حيًّا, أجرى عليه كل مجريات الحياة, فجعله جماهير ثائرة, وضمير, وجائع, وجبان وشجاع :
الجيمُ: حَنْجرَةُ الجماهيرِ التى خرَجتْ
لإجْلاءِ الدَّياجيرِ التى هجمَتْ
ووِجْدانُ الجَماعةِ عند رُجْحانِ المَجاعةِ
أينَ جِيمُ الجُبْنِ مِن جيمِ الشجاعَةِ؟
أىُّ جيمٍ تستجيرُ من الدُّجَى؟
جِيمُ [الحِجَا]
يدحض ذلك أيضًا إجابته عن سؤال طرحته عليه إحدى الفضائيات العربية , وقد كان عن نظرته كناقد وشاعر للساحة الشعرية, حيث أجاب:
"الساحة الشعرية تمر بمرحلة تحول من الناحية السياسية والاجتماعية وتحول من الناحية الثقافية، فوسائط الثقافة تتغير والطرق القديمة تتغير والأجيال الحديثة تبدي انبهارها واستجابتها، علما بأن هذه الفترات عشناها قبل 50 سنة، ولكن تبلورت هناك مشكلة الصراع بين المجددين أصحاب الشعر الحر والمحافظين أصحاب الشعر العمودي القديم، وقد انتصر في التحول الأول المجددون لأن المجتمع العربي كان مشتاقا إلى ما هو قادر على أن يشد الذوق والمثقف إلى المستقبل، ورأى أن الشعر القديم قد يثبت لحظة الماضي، ولكن في هذا التحول الجديد الذي نمر به -وقد انعكس على الشعر- نجد أن مجددي هذه الفترة لم يستطيعوا حسم المعركة مثل الأوائل، وذلك لأن التحول السابق قبل نصف قرن كان تعبيرًا عن تطلع الجماهير الواسعة, وعن شوق شعبي للتحرر من هذه الأغلال وهذه الثوابت الجامدة التي أطّرت ورصدت وجمّدت وعيه الجمالي والسياسي في قوالب جاهزة، وحتى عندما ننظر بتمعن في هذه الفترة نجد أن الشعر ليس هو وحده الذي انتصر, بل انتصر الفكر الليبرالي وزعماء الإصلاح وتحرير المرأة، أما الآن فنحن نجد أن الشعر يفرّغ من طاقته الشعرية لأنه ليس شعر قضايا كبرى وإنما شعر اللحظات الخاصة واللاوعي, كما لم يتبق منه لا الوزن ولا اللغة ولا الإيقاع، كما أنهم يدعون إلى إبطال الدلالة عن اللغة العربية, وهذا كلام مستورد من صيحات عدمية التجريب، والقارئ حينما يجد شعرًا فارغًا من كل هذا فإنه بالطبع سينفر فهذا التحول سلبي يسحب البساط من تحت كل فن شعري جاد، لأن هؤلاء الذين يحملون شعار التجديد الآن لا يعبرون عن وجدان الناس، فنحن لا زلنا مرتبطين بقضايانا الكبرى والتي تتحول فينا إلى قضايا ذاتية، فأنا كشاعر مثلًا أنفعل مرغمًا لما يحدث للفلسطينيين, وعلى أميركا عندما تفرض علينا أفكارها."
استخدم في قصائد الديوان الأسلوب الأدبي الذي يمزج بين الإخبار والعمق الأدبي, وتنتشر فيه الأخيلة والصور, وتتجسد فيها المجردات بهدف الإيضاح والإقناع, يعتني بالمحسنات البديعية كالجناس والطباق والمقابلة والتشبيه والتشخيص والتورية لزيادة عمق النص الجمالية,موسيقى شعرية في جرس الكلمات والوزن , مفردات فصيحة منسجمة مع موضوع القصيدة بلا ابتذال, كما تظهر فيه عواطف الشاعر ورؤاه وآرائه ونظرته الخاصة إلى العالم, فالعالم عنده جيم:
الجِيمُ جَوْقَةُ جاهِلِينَ.. تجمَّعوا
بجِوارِ جَوقةِ داجنِينَ.. تَجمْهَروا
بجوارِ دَجَّالِينَ نَفَّاجِينَ مَمْجُوجينَ
يَتَّجِرُونَ فيما يُنتِجونَ..
الجِيمُ شِطْرنْجُ المَجانِينِ..
اتِّجاهٌ لِلهَجينِ
الجِيمُ قُولَنْجُ المَساجِينِ
ابْتِهاجٌ بالشُّجونِ
الجِيمُ إنتاجٌ.. وتاجُ!
والجِيمُ راتِنْجُ العَجينِ
الجِيمُ نارَنْجُ الجَنينِ
الجِيمُ إيلاجٌ.. وإخراجُ!
الجِيمُ أمْشـــاجُ
ج- الصور الشعرية :
اعتمد الشاعر على الإتيان بألفاظ قاموسية تحوي حرف الجيم , ويضعها في تراكيب تجعلها تتناص مع القرآن الكريم, ليوظفها في مقاصد عديدة, إحداها ما أفصح عنه هو شخصيًا :"هناك فكرة الحرف وكيف يمكن أن يقيم الشاعر أو أن يبني من حرف واحد قصيدة طويلة أو ديوان وهو ما أردت به أن أفتح مساحات من الرمز لا نهاية لتأويلها."
فهو كان يروم التفرّد بهذا التكنيك لكن العثرات السياسية التي سببها هذا التكنيك ألغت إمكانية التناص.
يكمل الشاعر حسن طلب كلامه:
"ولا أخفي هنا أنني كنت أقتفي أثر الصوفية من غير أن أكون صوفيٍا، إذ إنهم يتحدثون دائما عن الحروف ويعتبرونها كما عند ابن عربي أمة من الأمم وأن الألف هو رمز الله والميم رمز لمحمد صلى الله عليه وسلم وهكذا فهي عندهم صوتية أولا وعددية رمزية من ناحية ثانية."
هذه المرحلة(الصوفية) وجدتها عند أغلب الأدباء والشعراء الحداثيين المصريين تحديدًا, واستطعت تفسيرها بأنها نوع من التوبة الخجولة بعد شطط أخذتهم إليه الحداثة, وأقول المصريين ربما لأن فطرتهم الدينية تغلب توجهاتهم المكتسبة بالمجمل...
وعلى ذلك جاءت الصور الشعرية عنده منزاحة إلى أعمدة رمزية مكشوفة حينًا, وتقريرية مباشرة خطابية منبرية وتهكمية أحيانًا كثيرة .
أمثلة:
جيماتُكُمْ مَنْجاتُكُمْ
فتجهَّزوا لِنَجاتِكمْ
مِن جائحاتِ جُـناتِكمْ
لن يملِكَ المتطفلون إزاء ذلك إلا أن يقولوا: لقد وقع "حسن طلب" فى غرام فتاة جديدة يبدأ اسمُها بحرف الجيم ولن يرِد على خواطرهم الكليلةِ العليلة إلا أسماء من قبيل: جميلة جيهان جورجيت جوزفين جوليت! ولسوف أضحك من هذه الأسماء ملءَ قلبى كما سأضحك من كل التفسيرات السابقةِ واللاحقة
جِيمٌ حَجْناءُ
وجيمٌ جَبَّاءُ
وجيمٌ بَجْراءُ
وجيمٌ عَجْراءُ
وجِيمٌ جِيميَّهْ!
مَن دَحْرجَ جيمَ الدَّجِّ..
علَى جيمِ الحَجِّ؟
ومَن جعلَ الجيمَ مُفاجأةً
وأهازيجَ جُزافيَّهْ!
د- البيئة الشعرية:
المحيط الإنساني المؤثر في ذهنية الشاعر وعواطفه, والتي تقدح عنده الملكة الشعرية, فتنطلق قريحته معبرة عن حالته النفسية, نتحدث إذن عن بيئة خاصة بالعمل الأدبي وهي نفسية الشاعر وشخصيته وعواطفه المثارة بالبيئة العامة والظروف المحيطة, وهي المجتمع العربي عمومًا والمصري خصوصًا في ظلّ الفساد السياسي والاجتماعي والثقافي, ولا نكون مجحفين إن قلنا أيضًا الجهل والتجهيل الديني....
أثار ديوانه هذا سخط الأزهر الشريف والسلطة التي منعت نشره, بسبب الجملة التي يستهل و يختم بها الشاعر قصائده وهي تقول: (أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم) التي أخذت كجريرة سياسية.....
أخفت السلطات قرار منع ديوان (آية جيم) والأمر معروف (الأسباب السياسية) وعليه جعلت السلطة الشارع يرجم بالغيب الروحي بشكل خبيث، حين أوحت بفكرة مساس الديوان بالدين والقرآن الكريم، ولم يكن ذلك صحيحًا، كانت خاتمة الديوان التي جرت على اقتباس الوزن القرآني ، أخذت القصائد نسق القرآن الكريم, وكانت مثار جدل... وقد احتوى هذ الديوان على بناء لغوي شديد التعقيد، فقد أخرج جميع مفرداته من باب الجيم في المعجم وبدأ تنضيدها بقصائد شديدة التعقيد والغموض، وملأ تلك القصائد بتجاوزات عقائدية و فكرية و بقصد التجديد و التحديث، وربما كانت بذريعة التجريب والتغريب وتلك المصطلحات كانت مرفوضة في زمنه .....
ه- المدخل السلوكي :
حفلت القصائد بالعديد من التساؤلات الفكرية والإنسانية والسياسية والفلسفية وتنوعت بين الجدلية والإشكالية , ما جعل الشاعر نفسه يستنفر ليضع الإجابات, وهي حالة غريبة, إذ أن الشاعر عادة يترك هذه المهمة للناقد أو للمتلقي, ولكن شدة تعقيد القصائد وغموضها , وتجاوزها الظاهري للعقيدة والمعتقدات الفكرية, اعتقد أن كل ذلك مجتمعًا جعل حسن طلب يقدّم لبعض قصائده بإجابات عن تساؤلات يثيرها في القصيدة:
على أية حال ليست الجيم بأقلَّ من الصاد والقاف فى شىء الصاد مثلا تقول: (الصَّلاة) بينما تذهب الجيم إلى ما هو أبعدُ من حدود العبادة الطقسية فتقول: (الجِهاد) أما القاف فتمضى على الطريق ذاتها مكرِّسةً طاقاتها لخدمة الطقوس فتقول: (القيام) لكن الجيم وهى التى تقدس الإنسان وتعشق العدالة لا تشدد إلا على الجزاء مهما وقع بينها وبين الأطراف الأخرى من ضغينةٍ وجفاء!
هلِ الجِيمُ تُجْفَى.. وتجْفُو!
أجلْ.. كلُّ جيمٍ جثَتْ:
جِيفةٌ تُجتَوَى.. وجُفاءٌ يَجِفُّ
فكيف يُجافِخُ بالجيمِ جِلْفُ!
وهل يُستجادُ من الجيمِ وَجْفُ؟
أجـلْ.. كلُّ جيمٍ إذا جَثْجَثتْ
جَلَحَ الجَدْبَ جَرْفُ
فكيف يَجوعُ مع الجيمِ جوْفُ!
ولنأخذْ حرفا آخر غير الشين وليكنْ الثاء تتحدث الثاء عن (الإثم) لكن الجيم تصفِّى المعنى من الدنس وتنغم اللفظة فتقول: (الجريرة) وحينما تصل الثاء إلى أقصى عنفوانها تقول: (الثورة) لكن الجيم لأنها أكثر عاطفيةً ودفئا ولأنها إنسانية إلى أبعد حد تقول: (الجيَشان) فالبركان قد يثور لكنه لا يجيش وكذلك الثوْر!
الجيمُ الجُعْرانيَّةُ جابهَتِ الجِيمَ السِّنجابيَّةَ..
فانبَعجَتْ جِيمُ الإيديولوجيَّهْ!
وتوجَّستِ الجِيمُ الجيْماءُ..
فما جدْوَى جيميْنِ هما:
جيمُ الشَّجْبِ..
أو الجِيمُ الجِيلاتِينيَّهْ!
و- المدخل العقلاني :
طبعًا كان تناص الشاعر مع القرآن الكريم بالمجمل , أذكر كمثال القصيدة البادئة و الخاتمة والرئيسة آية جيم :
أعُوذُ بالشَّعْبِ مِنَ السُّلطانِ الغَشيم
باسْمِ الجِيم
والجَنَّةِ والجَحيمْ ومُجتَمَعِ النُّجومْ إنَّكمْ اليومَ ستُفجَأونْ كمْ وَدِدْتـُمْ لو تُرجَأُونْ إلى يومِ لا جِيمَ ولا جُيُومْ فإذا جَدَّ الهُجـومْ فأَجْهشتِ الجُسومْ فسُجِّرتِ الجِيمْ ومَن أدْراكَ ما الجِيمْ فإذا مَزَجْنا الأجْيامَ مَزْجَا ثُم مَخَجْنا جُرَجَهُنَّ مَخْجَا ثُم مَجَجْناهُنَّ مَجَّا قلْ يا أيُّها المُجرِمونْ إنَّكم يومَئذٍ لَفِى وُجومْ تستَنْجِدُونَ فلا تُنجَدونْ وقلْ يا أيُّها الرَّاجُونْ إنَّكمْ يَوْمَئذٍ النَّاجونْ جاءتْكُمُ الجِيمُ بما كنتُمْ تَستعْجِـلونْ ما لَكُمْ كيفَ لا تَبْتهِجونْ ولآيَةِ الجِيمِ لا تَسْجُدُونْ وبإعْجازِها لا تَلْهَجُونْ!
معظم القصائد التي كان فيها التناص مع القاموس ذاته...
هناك تناص مع الإنجيل :
الجِيمُ مجْدُ الآبِ
مجْدُ الإبْنِ.. والرُّوحِ القدُسْ
رابعًا- الموضوع أو المضمون / الخلفية الأخلاقية :
إن الضجة التي أثارها ديوان "آية جيم" الذي نشر في شكل تناص مع القرآن.
ديوان" آية جيم" هو قصيدة كتبها الشاعر حسن طلب سنة 1988، وقد صودر بمجرد أن نشر بأسبوع، وقد حاولت السلطة الحاكمة استغلال الدين حيث كان عنوانه الفرعي "أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم"، علما بأن المقصود فيه الدلالة السياسية وليس الدينية, فهو طعن في السلطة ومواجهتها وليس طعنًا في الدين، لكنهم استندوا إلى هذه الصيغة التشكيلية, علمًا بأن التناص مع القرآن الكريم هو أرقى أنواع التناص, فهو ليس محاكاة، وقد أراد الشاعر إضفاء شيء من القداسة على مقاومة السلطة الغاشمة, لم يقصد الإساءة للقرآن الكريم, بل كان يهدف إلى إعلاء شأن الشعب المسحوق, بإعطائه هالة قدسية مقابلة لامتهان السلطة والاستعاذة منها كما يستعاذ من الشيطان الرجيم .
خامسًا - التجربة الإبداعية للشاعر :
هو شاعر شجاع هزم سلبية الحداثة واستفاد منها، حين صارعها ولم تصرعه، من بين شعراء الحداثة أجمع والذين تأثروا بها سلبًا، انفرد بعبقرية التبليغ والتوصيل والتلقي بحنكة وذكاء شعري بالاستفادة من عناصر الحداثة, وأقصد بالتحديد(الرمزية) باستراتيجية خاصة لا تمت بصلة للأشياء المخبوءة بل لأشياء ظاهرة في حروف يسوقها بكلمات، وعلى المتلقي أن يأخذ منه ما يريد، لكن بمجموعها موجهة نحو المجتمع، الظلم السياسي، والحكومة بكلمات ظاهرة ومدرجة فعلًا في القصيدة، وهذا دأب يعد ضربًا من التحدّي الشجاع ضد السلطة في ذلك الزمن، فهي تعتمد على تكنيك ذكي في توظيفه للرمز بشكل ذرائعي حين تعمّد التكلم بظواهر الأشياء بمساس ديني خفيف لا يقصد به الإساءة للقرآن الكريم, بل التوصيل وإشاعة الانتباه بشكل شجاع، و لكن بدافع إنساني ذكي يروم به التجديد في الأدب بشكل فعلي، أراد فيه أن يجلب انتباه الناس للسلطان السياسي الجائر والممارسات الخاطئة، التي يقوم بها، وهذا حق أدبي للشاعر أو الكاتب، ولم تكن تلك الاستراتيجية جديدة، بل مورست من قبل كتاب وشعراء أوربا بالنقد المخبوء ما بين السطور للكنيسة والأنظمة السياسية القمعية آنذاك, وتلك التقنية تسمى الرمز (allegory) و التقنية الأخرى التي استخدمت في ذاك الزمن البعيد، في القرون الوسطى (irony) التهكم أو السخرية, واستخدمها هو أيضا في (آية جيم)، يذكر شيء ويعني المعكوس....أما الشاعر حسن طلب فقد وظّف تلك التقنية بشكل سافر وغير مخبوء, لكنه وضعها بين اختيارات متشابهة، وكأنه يختبر المتلقي بتقنية السؤال متعدد الإجابات (multiple choice technique ) حيث يورد عدة كلمات من القاموس بحرف واحد تحوي إجابات خاطئة وأخرى صحيحة وعليك أن تتوقع الصحيح بذكائك الذهني، وهذا تكنيك راق وصل مفهومه السلطة فمنعت كتابه من النشر….
عابوا عليه :
1- ابتعاده عن المجتمع.
2- إيغاله في الفلسفة, فدخل في دائرة الجمود التعبيري, وذلك لخلو شعره من التشويق الرومانسي والانزياح الخيالي لتحميله بشكل مبالغ فيه فلسفيًا, أي مال الشعر من هذه الناحية باتجاه العلمية والإشارة إلى استخدام المعجم, وفي تلك الفترة, فترة السبعين كان الميل إلى الرومانس أكثر, وكانوا لا يتقبلون هذا الأسلوب الفلسفي, بينما جيل 2017 يتقبل هذا الأسلوب الفلسفي, فما رفضه جيل السبعينات عدّ انبهارًا في جيلنا اليوم, لأن التكنيك الذي يستخدمه هذا الشاعر الرائد هو تكنيك خاص يقع بين الرمزية الظاهرة والتلميح المخبوء تحت أعمدة الحروف, وهذه التقنية حيرتني كثيرًا! فهي ليست تقنية رمزية مخبوءة بين السطور كما يكتبها الرمزيون من جيلنا هذا, وإنما هي تبليغ بالنيابة , والنيابة هنا موازاة جملة الشعرية بموسيقا قرآنية, وهذا ما عدّ جريمة في ذلك العصر, وبدعة وانبهار في عصرنا هذا غير مسبوقة ...
سادسًا – الخاتمة :
كلفت بالدراسة بشكل سريع, لم أحلل بدال ومدلول وإنما بتحليل شامل, استخدمت آلية الاستقطاع التي أتاحتها لي النظرية الذرائعية, واعتمدت على سلسلة مقالات لأستاذي المنظر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي منشورة بالمواقع العالمية, وستكون فصولًا بالكتاب النقدي الجديد الذي سيصدر قريبًا بمشيئة الله...
عسى أن أكون قد وفقت بالإحاطة بشيء متواضع بما جادت به قريحة هذا الشاعر المبدع الذي أبهرنا حقًا بغزارة ثقافته القاموسية, وتفرّد رؤيته الشعرية ...
تحياتي .
د.عبير خالد يحيي
لجنة الذرائعية للنشر
دراسة ذرائعية بآلية الاستقطاع تقدمها الناقدة الذرائعية السورية الدكتورة عبير خالد يحيي
أولًا – المقدمة :
منذ أوائل الستينيات من القرن العشرين، انتقلت الحداثة إلى الأدب العربي الحديث، على أيدي مجموعة من شعراء من الدول العربية، و بالتحديد: سورية ولبنان ومصر، هكذا كان تسلل الحداثة إلى عقول معتنقيها وروادها وسدنتها من أدباء ونقاد ومفكرين على امتداد الوطن العربي بشكل هادئ، وهي كغيرها من المذاهب الفكرية، والتيارات الأدبية التي سبقتها إلى البيئة العربية مثل: البرناسة، والواقعية، والرمزية، والرومانسية، والوجودية والسريالية، وجدت لها في فكرنا وأدبنا العربي تربة خصبة، سرعان ما نمت وترعرعت على أيدي روادها العرب، أمثال غالي شكري، وعلي أحمد سعيد المعروف " بأدونيس "، وزوجته خالدة سعيد من سوريا، وعبد الله العروي من المغرب، وكمال أبو ديب من فلسطين، وصلاح فضل، وصلاح عبد الصبور من مصر، وعبد الوهاب البياتي من العراق، وعبد العزيز المقالح من اليمن، وحسين مروة من لبنان، ومحمود درويش، وسميح القاسم من فلسطين، ومحمد عفيفي مطر، وأمل دنقل وحسن طلب من مصر، وعبد الله القذامي، وسعيد السريحي من السعودية، وغيرهم …..
وقد ألف شعراؤها قصائد ودواوين ذات سمات ومواضيع شعرية غريبة تنتمي لفترة الحداثة وقد كانت تحمل السمات التالية:
أترعت بالفلسفة
والغموض
والسريالية بشكل مغالى فيه
الانعزال وإظهار الشاعر بمظهر فيلسوف منعزل عن المجتمع وقابع في برج القصيدة الماسي
والتغريب
الرمزية الثقيلة
افتقاد المحورية في القصيدة, أي شكل بمضمون ضحل
والتخريب
التجاوزات المذهبية والدينية والعقائدية
تبني العلمانية مذهبًا لأصحاب الحداثة
يقول أستاذي المنظر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي في مقالته ( الرفض العربي الفكري لمعطيات الحداثة الغربية) :"إن ما قيل في أعلاه بشكل سلبي من قبل بعض المصادر العربية التي أوردت ملخصًا لها، على تلك الثلة من الأدباء، كان مبالغًا فيه، ومحملًا بالهجوم السلبي الغير مبرر بشكل علمي ومنطقي، لكون تلك الثلة الخيّرة - التي ذكرت أسماؤهم أعلاه- هم من تصدّوا لهجمة الحداثة السلبية، وأدخلوا ماهو مفيد للأدب العربي كالرمزية والبرناسية وغيرها من مدارس مفيدة، والتي أصبحت فيما بعد وإلى الآن أهم المقومات في أدبنا العربي، ولولا شجاعتهم وتضحياتهم وإصرارهم، لبقينا نرواح في مكاننا خوفًا من دخول الجديد في أدبنا العربي, ولبقي أدبنا العربي معلقًا في المعلقات السبعة وما خلفها فقط….يجب أن لا ننكر أن شعراءنا اليوم وكتابنا يترعون بحرية فيما رفضناه سابقًا وأعطيناه صفات وأسماء ونعوتًا سلبية، وما جاء من تقدم في الأدب العربي يعود لهؤلاء العظماء، الذين قدموا أنفسهم قربانًا في زمن السبعينات حتى وصل بهم الحال إلى الاغتيال ومنع إصداراتهم من النشر..."
وخير مثال على ذلك الإغراق في النظم الشعري المحدث هو ديوان " سيرة بنفسج " وديوان " زمن الزبرجد" وآية جيم " للشاعر الدكتور حسن طلب،"( ) أستاذ الفلسفة وعلم الجمال، و يعد أحد مؤسسي جماعة "إضاءة" للشعر والذي نال جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب وجائزة السلطان قابوس للإبداع الثقافي ، نشر العديد من الدواوين الشعرية وكتابات في الفلسفة وعلم الجمال….
السيرة الذاتية :
حسن طلب
الدكتور حسن علي طلب (مصر).
ولد عام 1944 في قرية الخزندارية شرق ـ مدينة طهطا ـ محافظة سوهاج.
أتم تعليمه الثانوي بطهطا, ثم التحق بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة, وتخرج في قسم الفلسفة 1968 , ثم حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة 1993 .
اشترك في حرب الاستنزاف والعبور 68 ـ 1974 .
عمل مشرفاً ثقافياً بجامعة القاهرة, و يعمل نائباً لرئيس تحرير مجلة إبداع.
بدأ كتابة الشعر منذ المرحلة الثانوية, وقد شارك في العديد من الندوات واللقاءات الشعرية العربية, والأوروبية.
دواوينه الشعرية: وشم على نهدي فتاة 1972 ـ سيرة البنفسج 1986ـ أزل النار في أبد النور 1988 ـ زمان الزبرجد 1989 ـ آية جيم 1991 ـ لا نيل إلا النيل 1992.
ثانيًا- البؤرة الثابتة: Static Core
إن للشاعر الخلّاق حسن طلب استراتيجية فكرية مميزة جدًا, مزيج مدهش بين ضوء وصوت, ضوء وهّاج منبعه الفلسفة, وصوت جهوري حنجرته الشعر الذي أطلقه مدوّيًا في مواجهة الفساد بكل أقنعته, الثقافية والسياسية والاجتماعية, هو وطنيّ بكل مواقفه وأشعاره, يشهد عليه ديوان ( عاش الشهيد) الذي أصدره عام 2005 يوم خرج فيه عن الرمز ليكون صرخة واضحة وصريحة ومباشرة في وجه الفساد تحت سلطة حكومة حسني مبارك, أما قصائد ديوانه (آية جيم )التي اخترت الكلام عنها فكانت الإيماءة الرمز التي كان نصيبها المصادرة لأن صوتها المكتوم مزق طبلة أذن السلطة حتى أصمها ...
احتار حسن طلب بين خدمة الملكين, الشعر والفلسفة, وكانا فيما مضى أضدادًا,مع أنه اعتبر ثالث ثلاثة في تاريخ الأدب العربي مزجوا الشعر بالفلسفة, بعد أبي العلاء المعري, ومحمد إقبال, فاختار سلطة الشعر, الذي رجحت كفته على كفة الفلسفة التي كان نصيبها منه فقط ثلاث مؤلفات, بينما كان الشعر عنده هطلًا فكانت دواوينه: "سيرة البنفسج" و " زمان الزبرجد" و" لا نيل إلا النيل"و " إنجيل الثورة وقرآنها".
ثالثًا- الاحتمالات المتحركة :
أ- المدخل البصري :
إن كلمة ديوان بالتعبير الاعتيادي تطلق على مجموعة من القصائد لشاعر واحد بمواضيع مختلفة, لكن هذا الرجل قد كتب قصيدة واحدة بمواضيع مختلفة! وهذا شيء غريب يجعلنا في حيرة من أمرنا! واختزل تلك الحيرة بأمرين :
1- قد لا نستطيع اعتبارها ديوانًا بالمقارنة والتباين والموازاة تحت تسمية ديوان.
2- من ناحية أخرى وبنظرة نقدية فاحصة دقيقة نجد أن تلك القصيدة ينضوي تحتها مواضيع كثيرة مختلفة, لكنها تلتقي بحرف الجيم فقط وتختلف في الاتجاهات الفكرية, وتلك نقطة عبقرية تحسب لهذا الشاعر بشكل بصري, قصيدة واحدة, قسمها إلى مجموعات, أطلق عليها اسم السور , على غرار السور القرآنية..
وأما عن تكنيكه, فقد حمّل شعره برؤية فلسفية عالية المستوى, وبتكنيك رمزي مكشوف غير مسبوق اعتمد فيه مبدأ الاختيار المتعدد الاحتمالات(multiple choice technique) MCQTحين يدرج مجموعة من الجمل بحرف واحد(الجيم على سبيل المثال) وبعدها يدرج مجموعة كلمات من المعجم يقصد بها الاختيار العشوائي للمتلقي الذكي الذي سيجد رابطًا ما بين الجمل الشعرية و جوابًا مختارًا ينسجم معها، وهذا الدأب ظهر جليًّا في (آية جيم):
ثُم جَميعُ ما يَجرِى على المِنْهاجِ
مِن جِـيرٍ
وجِرْجيـرٍ
وجُمَّـارٍ
وجُمَّـيْزٍ
ومَسْجِدْ!
وهذه تورية يريد بها أن يقارن بين قصيدته والمعجم لذلك أسماها (جرومية)
ثم هذا التنوّع الغير مسبوق في شكل القصيدة, هو يلعب على الورقة كيف شاء, وأنى شاء, لا يلتزم بالشكل البصري للقصيدة, لا عمود يضيق ويتسع فنحسبه شعرتفعيلة أو قصيدة نثر, ولا عمودين متوازيين فنحسبها قصيدة قريض, وإنما سلالم, ومحلزنات أو لولبيات...:
فالجِيمُ مِن جِدَةٍ ومَوْجِدَةٍ
وجالِسَةٌ كساجدَةٍ
وعاجِلَةٌ كآجِلَةٍ
وبعضُ الجيمِ جَعجعَةٌ مُرَجَّعةٌ
وفاجعةٌ كناجعَةٍ
وواجمةٌ كهاجِعَةٍ
وجائِيَةٌ كراجعَةٍ
وإنَّ الجِيمَ جَذْرٌ جامِدٌ
يُجزَى بأجْرِ مُجاهِدٍ
جازَ الحواجزَ والنُّجُودَ
مِنَ الضَّجيجِ
إلى الضَّجَرْ!
فأجاءَهُ جَرْسُ الجَسارةِ..
لِلجُسورِ
تَجسَّـــمَتْ جِيمُ الجَزيرَةِ
فى الجَـزَرْ!
هذا التشكيل البصري اللولبي يتناص فيه الشاعر حسن طلب مع الشاعر الهاييتي فرنكشتاين, وهو شاعر وروائي ورسام و كاتب مسرحي من هايتي, كان أحد المؤسسين للحركة اللولبية الأدبية التي أثبتت تأثيرًا واسعًا وملحوظًا, وهي حركة رمزية يعني بها الحكومة.
وأفقيات:
جيماتُكمْ جنَّاتُكمْ وجَنَاتُكمْ
جيماتُكمْ مَرْجاتُكمْ خلَجاتُكمْ حُجُراتُكمْ
جيماتُكمْ جاماتُكمْ جرَّاتُكمْ جدَّاتُكم زوجاتُكُمْ
فاحْرنْجِموا بينَ الحِراجِ.. وهَجِّنوا جِيناتِكُمْ!
وهاهو ينظم القريض أيضًا ليثبت لنا أنه يطوّع قصيدته كما يطوع الحداد قطعة الحديد بأشكال عديدة, لكن كما يروق له, لا كما يُطلب منه:
جيمٌ من الوجْدِ أمْ جِيـــــــمٌ مِنَ الأرَجِ ترجرَجَتْ بين جيمِ الموْجِ واللُّـــــــجَجِ
وجَرْجرتْنى إلى جيــــــــــــــــــــمٍ مُدجَّجةٍ وجرَّعتْنى أُجاجَ الجيمِ فى الثَّــــــــــبَجِ
فأجَّجَتْ بين جنْبَىَّ الجَوَى وجـــــــرَتْ على جَنانى بسَجْساجٍ من الوهَـــــجِ
جيمٌ سَجيَّتُها غُنْــــــــــــــــــــجٌ ويُعجِبُنى ما فى مَحاجرِها النَّجْلاءِ من دَعَـــجِ
فجنِّبينِى وَجيبَ الــــــــجيمِ وانْبـَـجِسى مِن فجْوةِ الجَفْوِ يا جيمًا من الفـرَجِ
ب-درجة العمق والانزياح نحو الخيال :
وامتاز شعره برؤى فلسفية, خصوصًا لزهرة البنفسج وجوهرة الزبرجد، فقد جعلهما ذاواتا عالم فلسفي متكامل، وعند هذا المنحى أثبت نفسه شاعرًا حداثيًّا, قد استفاد كثيرًا من الحداثة وغلالها الثقافية، وتلك سمة جيدة فيه، لكنها حُمِّلت بذريعة الانقطاع عن مشكلات المجتمع والابتعاد عن هموم الناس، وواقع الشباب الفكري حينذاك، وهذا الرأي خاطئ، لو كان الرمز معروفًا في ذلك الزمن، الحالة التي اعتُبِر الشاعر عندها معزولًا في واد، ومتلقيه في واد آخر، لكان ديوانه " آية جيم " رمزَا أدبيًّا راقيًا في تلك الفترة.
تتجلى أهمية الخيال حينما نرى كيف يبدع الشاعر في تصوير مشاهد مألوفة في حياتنا, قد اعتدنا على رؤيتها , لكن الشاعر يبث فيها الحياة والحركة, يتخيلها على نحو فيه إثارة وطرافة , ولا أدل على ذلك من أنه جعل من حرف الجيم كائنًا حيًّا, أجرى عليه كل مجريات الحياة, فجعله جماهير ثائرة, وضمير, وجائع, وجبان وشجاع :
الجيمُ: حَنْجرَةُ الجماهيرِ التى خرَجتْ
لإجْلاءِ الدَّياجيرِ التى هجمَتْ
ووِجْدانُ الجَماعةِ عند رُجْحانِ المَجاعةِ
أينَ جِيمُ الجُبْنِ مِن جيمِ الشجاعَةِ؟
أىُّ جيمٍ تستجيرُ من الدُّجَى؟
جِيمُ [الحِجَا]
يدحض ذلك أيضًا إجابته عن سؤال طرحته عليه إحدى الفضائيات العربية , وقد كان عن نظرته كناقد وشاعر للساحة الشعرية, حيث أجاب:
"الساحة الشعرية تمر بمرحلة تحول من الناحية السياسية والاجتماعية وتحول من الناحية الثقافية، فوسائط الثقافة تتغير والطرق القديمة تتغير والأجيال الحديثة تبدي انبهارها واستجابتها، علما بأن هذه الفترات عشناها قبل 50 سنة، ولكن تبلورت هناك مشكلة الصراع بين المجددين أصحاب الشعر الحر والمحافظين أصحاب الشعر العمودي القديم، وقد انتصر في التحول الأول المجددون لأن المجتمع العربي كان مشتاقا إلى ما هو قادر على أن يشد الذوق والمثقف إلى المستقبل، ورأى أن الشعر القديم قد يثبت لحظة الماضي، ولكن في هذا التحول الجديد الذي نمر به -وقد انعكس على الشعر- نجد أن مجددي هذه الفترة لم يستطيعوا حسم المعركة مثل الأوائل، وذلك لأن التحول السابق قبل نصف قرن كان تعبيرًا عن تطلع الجماهير الواسعة, وعن شوق شعبي للتحرر من هذه الأغلال وهذه الثوابت الجامدة التي أطّرت ورصدت وجمّدت وعيه الجمالي والسياسي في قوالب جاهزة، وحتى عندما ننظر بتمعن في هذه الفترة نجد أن الشعر ليس هو وحده الذي انتصر, بل انتصر الفكر الليبرالي وزعماء الإصلاح وتحرير المرأة، أما الآن فنحن نجد أن الشعر يفرّغ من طاقته الشعرية لأنه ليس شعر قضايا كبرى وإنما شعر اللحظات الخاصة واللاوعي, كما لم يتبق منه لا الوزن ولا اللغة ولا الإيقاع، كما أنهم يدعون إلى إبطال الدلالة عن اللغة العربية, وهذا كلام مستورد من صيحات عدمية التجريب، والقارئ حينما يجد شعرًا فارغًا من كل هذا فإنه بالطبع سينفر فهذا التحول سلبي يسحب البساط من تحت كل فن شعري جاد، لأن هؤلاء الذين يحملون شعار التجديد الآن لا يعبرون عن وجدان الناس، فنحن لا زلنا مرتبطين بقضايانا الكبرى والتي تتحول فينا إلى قضايا ذاتية، فأنا كشاعر مثلًا أنفعل مرغمًا لما يحدث للفلسطينيين, وعلى أميركا عندما تفرض علينا أفكارها."
استخدم في قصائد الديوان الأسلوب الأدبي الذي يمزج بين الإخبار والعمق الأدبي, وتنتشر فيه الأخيلة والصور, وتتجسد فيها المجردات بهدف الإيضاح والإقناع, يعتني بالمحسنات البديعية كالجناس والطباق والمقابلة والتشبيه والتشخيص والتورية لزيادة عمق النص الجمالية,موسيقى شعرية في جرس الكلمات والوزن , مفردات فصيحة منسجمة مع موضوع القصيدة بلا ابتذال, كما تظهر فيه عواطف الشاعر ورؤاه وآرائه ونظرته الخاصة إلى العالم, فالعالم عنده جيم:
الجِيمُ جَوْقَةُ جاهِلِينَ.. تجمَّعوا
بجِوارِ جَوقةِ داجنِينَ.. تَجمْهَروا
بجوارِ دَجَّالِينَ نَفَّاجِينَ مَمْجُوجينَ
يَتَّجِرُونَ فيما يُنتِجونَ..
الجِيمُ شِطْرنْجُ المَجانِينِ..
اتِّجاهٌ لِلهَجينِ
الجِيمُ قُولَنْجُ المَساجِينِ
ابْتِهاجٌ بالشُّجونِ
الجِيمُ إنتاجٌ.. وتاجُ!
والجِيمُ راتِنْجُ العَجينِ
الجِيمُ نارَنْجُ الجَنينِ
الجِيمُ إيلاجٌ.. وإخراجُ!
الجِيمُ أمْشـــاجُ
ج- الصور الشعرية :
اعتمد الشاعر على الإتيان بألفاظ قاموسية تحوي حرف الجيم , ويضعها في تراكيب تجعلها تتناص مع القرآن الكريم, ليوظفها في مقاصد عديدة, إحداها ما أفصح عنه هو شخصيًا :"هناك فكرة الحرف وكيف يمكن أن يقيم الشاعر أو أن يبني من حرف واحد قصيدة طويلة أو ديوان وهو ما أردت به أن أفتح مساحات من الرمز لا نهاية لتأويلها."
فهو كان يروم التفرّد بهذا التكنيك لكن العثرات السياسية التي سببها هذا التكنيك ألغت إمكانية التناص.
يكمل الشاعر حسن طلب كلامه:
"ولا أخفي هنا أنني كنت أقتفي أثر الصوفية من غير أن أكون صوفيٍا، إذ إنهم يتحدثون دائما عن الحروف ويعتبرونها كما عند ابن عربي أمة من الأمم وأن الألف هو رمز الله والميم رمز لمحمد صلى الله عليه وسلم وهكذا فهي عندهم صوتية أولا وعددية رمزية من ناحية ثانية."
هذه المرحلة(الصوفية) وجدتها عند أغلب الأدباء والشعراء الحداثيين المصريين تحديدًا, واستطعت تفسيرها بأنها نوع من التوبة الخجولة بعد شطط أخذتهم إليه الحداثة, وأقول المصريين ربما لأن فطرتهم الدينية تغلب توجهاتهم المكتسبة بالمجمل...
وعلى ذلك جاءت الصور الشعرية عنده منزاحة إلى أعمدة رمزية مكشوفة حينًا, وتقريرية مباشرة خطابية منبرية وتهكمية أحيانًا كثيرة .
أمثلة:
جيماتُكُمْ مَنْجاتُكُمْ
فتجهَّزوا لِنَجاتِكمْ
مِن جائحاتِ جُـناتِكمْ
لن يملِكَ المتطفلون إزاء ذلك إلا أن يقولوا: لقد وقع "حسن طلب" فى غرام فتاة جديدة يبدأ اسمُها بحرف الجيم ولن يرِد على خواطرهم الكليلةِ العليلة إلا أسماء من قبيل: جميلة جيهان جورجيت جوزفين جوليت! ولسوف أضحك من هذه الأسماء ملءَ قلبى كما سأضحك من كل التفسيرات السابقةِ واللاحقة
جِيمٌ حَجْناءُ
وجيمٌ جَبَّاءُ
وجيمٌ بَجْراءُ
وجيمٌ عَجْراءُ
وجِيمٌ جِيميَّهْ!
مَن دَحْرجَ جيمَ الدَّجِّ..
علَى جيمِ الحَجِّ؟
ومَن جعلَ الجيمَ مُفاجأةً
وأهازيجَ جُزافيَّهْ!
د- البيئة الشعرية:
المحيط الإنساني المؤثر في ذهنية الشاعر وعواطفه, والتي تقدح عنده الملكة الشعرية, فتنطلق قريحته معبرة عن حالته النفسية, نتحدث إذن عن بيئة خاصة بالعمل الأدبي وهي نفسية الشاعر وشخصيته وعواطفه المثارة بالبيئة العامة والظروف المحيطة, وهي المجتمع العربي عمومًا والمصري خصوصًا في ظلّ الفساد السياسي والاجتماعي والثقافي, ولا نكون مجحفين إن قلنا أيضًا الجهل والتجهيل الديني....
أثار ديوانه هذا سخط الأزهر الشريف والسلطة التي منعت نشره, بسبب الجملة التي يستهل و يختم بها الشاعر قصائده وهي تقول: (أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم) التي أخذت كجريرة سياسية.....
أخفت السلطات قرار منع ديوان (آية جيم) والأمر معروف (الأسباب السياسية) وعليه جعلت السلطة الشارع يرجم بالغيب الروحي بشكل خبيث، حين أوحت بفكرة مساس الديوان بالدين والقرآن الكريم، ولم يكن ذلك صحيحًا، كانت خاتمة الديوان التي جرت على اقتباس الوزن القرآني ، أخذت القصائد نسق القرآن الكريم, وكانت مثار جدل... وقد احتوى هذ الديوان على بناء لغوي شديد التعقيد، فقد أخرج جميع مفرداته من باب الجيم في المعجم وبدأ تنضيدها بقصائد شديدة التعقيد والغموض، وملأ تلك القصائد بتجاوزات عقائدية و فكرية و بقصد التجديد و التحديث، وربما كانت بذريعة التجريب والتغريب وتلك المصطلحات كانت مرفوضة في زمنه .....
ه- المدخل السلوكي :
حفلت القصائد بالعديد من التساؤلات الفكرية والإنسانية والسياسية والفلسفية وتنوعت بين الجدلية والإشكالية , ما جعل الشاعر نفسه يستنفر ليضع الإجابات, وهي حالة غريبة, إذ أن الشاعر عادة يترك هذه المهمة للناقد أو للمتلقي, ولكن شدة تعقيد القصائد وغموضها , وتجاوزها الظاهري للعقيدة والمعتقدات الفكرية, اعتقد أن كل ذلك مجتمعًا جعل حسن طلب يقدّم لبعض قصائده بإجابات عن تساؤلات يثيرها في القصيدة:
على أية حال ليست الجيم بأقلَّ من الصاد والقاف فى شىء الصاد مثلا تقول: (الصَّلاة) بينما تذهب الجيم إلى ما هو أبعدُ من حدود العبادة الطقسية فتقول: (الجِهاد) أما القاف فتمضى على الطريق ذاتها مكرِّسةً طاقاتها لخدمة الطقوس فتقول: (القيام) لكن الجيم وهى التى تقدس الإنسان وتعشق العدالة لا تشدد إلا على الجزاء مهما وقع بينها وبين الأطراف الأخرى من ضغينةٍ وجفاء!
هلِ الجِيمُ تُجْفَى.. وتجْفُو!
أجلْ.. كلُّ جيمٍ جثَتْ:
جِيفةٌ تُجتَوَى.. وجُفاءٌ يَجِفُّ
فكيف يُجافِخُ بالجيمِ جِلْفُ!
وهل يُستجادُ من الجيمِ وَجْفُ؟
أجـلْ.. كلُّ جيمٍ إذا جَثْجَثتْ
جَلَحَ الجَدْبَ جَرْفُ
فكيف يَجوعُ مع الجيمِ جوْفُ!
ولنأخذْ حرفا آخر غير الشين وليكنْ الثاء تتحدث الثاء عن (الإثم) لكن الجيم تصفِّى المعنى من الدنس وتنغم اللفظة فتقول: (الجريرة) وحينما تصل الثاء إلى أقصى عنفوانها تقول: (الثورة) لكن الجيم لأنها أكثر عاطفيةً ودفئا ولأنها إنسانية إلى أبعد حد تقول: (الجيَشان) فالبركان قد يثور لكنه لا يجيش وكذلك الثوْر!
الجيمُ الجُعْرانيَّةُ جابهَتِ الجِيمَ السِّنجابيَّةَ..
فانبَعجَتْ جِيمُ الإيديولوجيَّهْ!
وتوجَّستِ الجِيمُ الجيْماءُ..
فما جدْوَى جيميْنِ هما:
جيمُ الشَّجْبِ..
أو الجِيمُ الجِيلاتِينيَّهْ!
و- المدخل العقلاني :
طبعًا كان تناص الشاعر مع القرآن الكريم بالمجمل , أذكر كمثال القصيدة البادئة و الخاتمة والرئيسة آية جيم :
أعُوذُ بالشَّعْبِ مِنَ السُّلطانِ الغَشيم
باسْمِ الجِيم
والجَنَّةِ والجَحيمْ ومُجتَمَعِ النُّجومْ إنَّكمْ اليومَ ستُفجَأونْ كمْ وَدِدْتـُمْ لو تُرجَأُونْ إلى يومِ لا جِيمَ ولا جُيُومْ فإذا جَدَّ الهُجـومْ فأَجْهشتِ الجُسومْ فسُجِّرتِ الجِيمْ ومَن أدْراكَ ما الجِيمْ فإذا مَزَجْنا الأجْيامَ مَزْجَا ثُم مَخَجْنا جُرَجَهُنَّ مَخْجَا ثُم مَجَجْناهُنَّ مَجَّا قلْ يا أيُّها المُجرِمونْ إنَّكم يومَئذٍ لَفِى وُجومْ تستَنْجِدُونَ فلا تُنجَدونْ وقلْ يا أيُّها الرَّاجُونْ إنَّكمْ يَوْمَئذٍ النَّاجونْ جاءتْكُمُ الجِيمُ بما كنتُمْ تَستعْجِـلونْ ما لَكُمْ كيفَ لا تَبْتهِجونْ ولآيَةِ الجِيمِ لا تَسْجُدُونْ وبإعْجازِها لا تَلْهَجُونْ!
معظم القصائد التي كان فيها التناص مع القاموس ذاته...
هناك تناص مع الإنجيل :
الجِيمُ مجْدُ الآبِ
مجْدُ الإبْنِ.. والرُّوحِ القدُسْ
رابعًا- الموضوع أو المضمون / الخلفية الأخلاقية :
إن الضجة التي أثارها ديوان "آية جيم" الذي نشر في شكل تناص مع القرآن.
ديوان" آية جيم" هو قصيدة كتبها الشاعر حسن طلب سنة 1988، وقد صودر بمجرد أن نشر بأسبوع، وقد حاولت السلطة الحاكمة استغلال الدين حيث كان عنوانه الفرعي "أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم"، علما بأن المقصود فيه الدلالة السياسية وليس الدينية, فهو طعن في السلطة ومواجهتها وليس طعنًا في الدين، لكنهم استندوا إلى هذه الصيغة التشكيلية, علمًا بأن التناص مع القرآن الكريم هو أرقى أنواع التناص, فهو ليس محاكاة، وقد أراد الشاعر إضفاء شيء من القداسة على مقاومة السلطة الغاشمة, لم يقصد الإساءة للقرآن الكريم, بل كان يهدف إلى إعلاء شأن الشعب المسحوق, بإعطائه هالة قدسية مقابلة لامتهان السلطة والاستعاذة منها كما يستعاذ من الشيطان الرجيم .
خامسًا - التجربة الإبداعية للشاعر :
هو شاعر شجاع هزم سلبية الحداثة واستفاد منها، حين صارعها ولم تصرعه، من بين شعراء الحداثة أجمع والذين تأثروا بها سلبًا، انفرد بعبقرية التبليغ والتوصيل والتلقي بحنكة وذكاء شعري بالاستفادة من عناصر الحداثة, وأقصد بالتحديد(الرمزية) باستراتيجية خاصة لا تمت بصلة للأشياء المخبوءة بل لأشياء ظاهرة في حروف يسوقها بكلمات، وعلى المتلقي أن يأخذ منه ما يريد، لكن بمجموعها موجهة نحو المجتمع، الظلم السياسي، والحكومة بكلمات ظاهرة ومدرجة فعلًا في القصيدة، وهذا دأب يعد ضربًا من التحدّي الشجاع ضد السلطة في ذلك الزمن، فهي تعتمد على تكنيك ذكي في توظيفه للرمز بشكل ذرائعي حين تعمّد التكلم بظواهر الأشياء بمساس ديني خفيف لا يقصد به الإساءة للقرآن الكريم, بل التوصيل وإشاعة الانتباه بشكل شجاع، و لكن بدافع إنساني ذكي يروم به التجديد في الأدب بشكل فعلي، أراد فيه أن يجلب انتباه الناس للسلطان السياسي الجائر والممارسات الخاطئة، التي يقوم بها، وهذا حق أدبي للشاعر أو الكاتب، ولم تكن تلك الاستراتيجية جديدة، بل مورست من قبل كتاب وشعراء أوربا بالنقد المخبوء ما بين السطور للكنيسة والأنظمة السياسية القمعية آنذاك, وتلك التقنية تسمى الرمز (allegory) و التقنية الأخرى التي استخدمت في ذاك الزمن البعيد، في القرون الوسطى (irony) التهكم أو السخرية, واستخدمها هو أيضا في (آية جيم)، يذكر شيء ويعني المعكوس....أما الشاعر حسن طلب فقد وظّف تلك التقنية بشكل سافر وغير مخبوء, لكنه وضعها بين اختيارات متشابهة، وكأنه يختبر المتلقي بتقنية السؤال متعدد الإجابات (multiple choice technique ) حيث يورد عدة كلمات من القاموس بحرف واحد تحوي إجابات خاطئة وأخرى صحيحة وعليك أن تتوقع الصحيح بذكائك الذهني، وهذا تكنيك راق وصل مفهومه السلطة فمنعت كتابه من النشر….
عابوا عليه :
1- ابتعاده عن المجتمع.
2- إيغاله في الفلسفة, فدخل في دائرة الجمود التعبيري, وذلك لخلو شعره من التشويق الرومانسي والانزياح الخيالي لتحميله بشكل مبالغ فيه فلسفيًا, أي مال الشعر من هذه الناحية باتجاه العلمية والإشارة إلى استخدام المعجم, وفي تلك الفترة, فترة السبعين كان الميل إلى الرومانس أكثر, وكانوا لا يتقبلون هذا الأسلوب الفلسفي, بينما جيل 2017 يتقبل هذا الأسلوب الفلسفي, فما رفضه جيل السبعينات عدّ انبهارًا في جيلنا اليوم, لأن التكنيك الذي يستخدمه هذا الشاعر الرائد هو تكنيك خاص يقع بين الرمزية الظاهرة والتلميح المخبوء تحت أعمدة الحروف, وهذه التقنية حيرتني كثيرًا! فهي ليست تقنية رمزية مخبوءة بين السطور كما يكتبها الرمزيون من جيلنا هذا, وإنما هي تبليغ بالنيابة , والنيابة هنا موازاة جملة الشعرية بموسيقا قرآنية, وهذا ما عدّ جريمة في ذلك العصر, وبدعة وانبهار في عصرنا هذا غير مسبوقة ...
سادسًا – الخاتمة :
كلفت بالدراسة بشكل سريع, لم أحلل بدال ومدلول وإنما بتحليل شامل, استخدمت آلية الاستقطاع التي أتاحتها لي النظرية الذرائعية, واعتمدت على سلسلة مقالات لأستاذي المنظر العراقي عبد الرزاق عوده الغالبي منشورة بالمواقع العالمية, وستكون فصولًا بالكتاب النقدي الجديد الذي سيصدر قريبًا بمشيئة الله...
عسى أن أكون قد وفقت بالإحاطة بشيء متواضع بما جادت به قريحة هذا الشاعر المبدع الذي أبهرنا حقًا بغزارة ثقافته القاموسية, وتفرّد رؤيته الشعرية ...
تحياتي .
د.عبير خالد يحيي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.