الصفحات

قصص مجموعة ــ موت عزرائيل | مفلح العدوان

قال عزرا- إيل: (سبحانك لم يبق أحد!).
حينئذ لم يومض الضوء العلوي، بل ساد صمت، فانقبض قلب عزرا- إيل.. وكان الثلاثة حوله: (إسراف – إيل..
ميكا- إيل.. وجبرا-إيل).
– (أي عزرا-إيل.. ألم تأخذك بهم رحمة حين قبضت على أرواح الجميع؟!).
قال جبرا- إيل.
– (إنها الأوامر قضت بأن يموتوا، ولست إلاّ يد العليّ!)
وغشي الحزن عزرا-إيل!
***
جاء الصوت: (من بقي يا عزرا-إيل؟!).
التفت حوله..
كانت الأرض فارغة إلاّ من شواهد القبور، وأشباح الموتى، وهسيس الريح الذي يضرب جدران البيوت.

ولم تكن اليابسة لذّة للساكنين، ولا السماء فضاء الحالمين، وحدها القبور كانت!
أما الدروب فكلّها بقايا ذكريات بعيدة: هنا نقش البشر تاريخهم، والعروش بقيت تفتقد دفء عباءات المتربّعين عليها، والمشانق تهتزّ حبالها بعد أن سقطت كل الرؤوس.
وفي الأزقة رذاذ كركرات ضحك الأطفال بلا صوت، والوحشة خيمة حتى على الذكريات.. لم تبق إلاّ الريح بلا معنى، حياديّة حدّ النشيج!
***
– (من بقي يا عزرا-إيل)؟!
– (سبحانك.. لم يبق أحد!).
وارتفع الصوت متحدياً: (بل بقي يا عزرا-إيل!).
حدّق حوله مدققاً أكثر..
كانوا يحيطون به: (جبرا- إيل/ الحبيب، إسراف-إيل/الرفيق، ميكا – إيل/الصديق) كذلك أنا مؤتمن العرش وقابض أرواح الجميع!
ماذا؟!
هل يعقل بعد هذه الخدمة العظيمة لهم في سرايا السماء أن يأمرني بأن أقبض أرواحهم: الحبيب، والرفيق، والصديق وأنا؟!..
ماذا؟! غريب أمر هذه السماء!
أبيض.. أحمر.. أخضر.. أسود..
والبقية ماشية بألوان أخرى كثيرة، تسير ولا تدري إلى أين.. على فترات أكلها الأسد بعد أن تنازلت في البدء عن الثور الأبيض، ثم الأحمر، والأخضر، والأسود.. والبقية!
حتى جاء يوم قالوا فيه: (أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض!).
تذكّر عزرا-إيل تلك القصة الأرضية فتساءل: (ماذا عن مواشي السماء؟!).
قال الصوت: (من بقي يا عزرا-إيل؟!)
أجاب بانكسار: ( لم يبق إلاّ جبرا-إيل، وإسراف-إيل، وميكا- إيل، وعبدك الماثل بين يديك!).
عبدك! عبدك!
هه.. نعم، كلنا عبيدك، ولك الأمر.. ها نحن أمامك بعد أن عذّبنا الجميع وأمتناهم، فماذا بقي؟!
أغمض عينيه فرأى كيف كانوا يجوبون البلاد، كل البلاد، ويتنصتون إلى كل همسة ونأمة فيها، ثم يخبرون صاحب الأمر بما تحدث به اليمين، وما خطّط له اليسار.. يرصدون له من فرح ومن بكى..ثم يأتونه مخبرين: (لقد أخطأوا، وأساءوا.. لقد عارضوا وانحرفوا).
فيأمره صاحب القول: (يا عزرا- إيل، إقبض أرواحهم ثم زجّهم في القبور). ويفعل دون سؤال!
يبكون فلا يرحم.. يرجون فلا يجيب..
يتشبثون به: (يا عزرا- إيل، أمهلنا يوماً أو بعض يوم!).
لكنه لا يسمعهم!
قال لروحه: (كم كنت غبياً إذ لم أسأل نفسي ماذا سيكون مصيري حين يموت الجميع؟! وماذا أذنبوا لينتهوا، ويُزجّوا في القبور مع الدود والذباب؟! ألأَنهم حاولوا أن يسألوا ويفكروا؟!).
(يا عزرا-إيل.. إقبض روح جبرا- إيل؟!).
ارتفع الصوت آمراً.. فبكى جبرا-إيل!
وغطى الحزن وجهه فتساءل: (سبحانك.. لماذا؟! ألم أكن خادم عرشك المطيع؟! ألست حامل رسائلك إلى مريديك حيناً، وجناح عذاب على معارضيك أحياناً أخرى؟! ألم أكن نفخة الرحمة على بعض المدن – بأمرك – في زمان، وإعصار نقمة على أقوام – بأمرك – في زمان آخر؟! ألست حاجبك المطيع، وحارس سرّك الأمين؟! إذن.. لماذا تسلّط سيف الموت حتى عليّ؟!).
لم يتراجع الصوت، فاقترب عزرا-إيل وقال:
– (عُذيرك.. فلا بدّ وأن أطيع الأمر.. لا بدّ!).
وقبض روح جبرا-إيل.
***

مرهقاً كان!
ورأى إسراف-إيل، وميكا-إيل يرجوانه ألاّ ينظر إليهما.. قال ميكا- إيل: ليتني لم أُخلق!
قال إسراف-إيل: الدور قادم إلينا، ولا مناص من قبضة عزرا-إيل!
هزّهما الصوت: (يا عزرا-إيل من بقي من عبادي؟!).
نظر إليهما، فأشاحا بوجهيهما عنه.. وتحشرج صوته..
قال: (سبحانك لم يبق إلاّ ميكا-إيل، وإسراف-إيل، وعبدك الماثل بين يديك!).
ساد الصمت..
واقترب منهما، فالتقت عيناه بعيني ميكا- إيل: (كيف يأمرني بقبض روحك وأنت من كنت بيدك تقبض أرزاق البلاد وخزائنها، وبيدك انسياب الأنهار، ودموع المطر؟.. كيف؟.. وأنت كل الأشياء كنت تعطي أو تقطع، تأمر أو تنهى! ثم بلحظة يتخلّى عنك! كيف وأنت ذراعه التي تجتاح كل الأمكنة، وتبعثر كل استقرار؟!).
حوّل عينيه باتجاه إسراف-إيل..
كان الصُور بين يديه، بينما قلبه ينفخ خوفاً، وعيناه مذهولتان: (أنا.. أنا من عذّب الجميع.. الآن أعترف! لا مجال للإنكار، ولا بديل عن الاعتراف، فبعد قليل، وربما الآن سيقبض عزرا-إيل روحي رغم أنّه صديقي، لماذا أكذب، حتى آخر لحظة، على روحي؟! نعم كنت سبباً في شقاء الكثيرين، وعليّ أن أعترف: أُقر بأني أرهقت البشر، كل البشر بالعذاب.. وكان خلاصهم بيدي لكنّي لم أفعل.. كنت الوحيد القادر على بعثهم ببوقي هذا لكني أّجّلت ذلك عن سبق إصرار على تعذيبهم وتصميم على نيل رضا العليّ ولو على حساب آلامهم.. الآن أعترف، وما كنت أدري بأن السيف الذي سلّطته على رقاب العباد سيصل إلى رقبتي!).
– (يا عزرا-إيل.. إقبض روح ميكا-إيل).
أمر الصوت بذلك، فانقضّ عزرا-إيل بسرعة خوف أن يأخذه ضعف، فقبض روحه.
ثم لم يبق إلاه، وإسراف-إيل فكانت المواجهة:
– (عزرا-إيل.. ماذا لو أمرك ان تقبض روحي.. هل تفعل؟!).
– (رحماك اسراف-إيل.. وهل كنّا جميعاً نستطيع أن نخالف أمره؟!).
– (كان أفضل لو لم نعذّب، أنا وأنت، البشر.. ماذا استفدنا الآن؟!.. لا شيء!).
– (كنا نستطيع أن نخفّف عنهم، لكنا ما فعلنا.. وهو أمر بذلك!).
– (لو نستطيع الهروب!).
– (لكن إلى أين نهرب؟!).
***
ارتطم الصوت بآذانهما : (يا عزرا-إيل.. من بقي من عبادي؟!).
فابتعدا فجأة عن بعضهما كأن لا رفقة بينهما..
قال عزرا-إيل : (بقي إسراف-إيل.. وعبدك الماثل بين يديك!).
وبكى إسراف-إيل حين سمع:
– (إذن.. فاقبض روح إسراف-إيل).
قال عزرا-إيل : (ما الذي يبكيك الآن؟!).
بكاء إجابة: (تذكّرتهم.. كلهم كانوا يرجونني أن أُريحهم، ولم أكن أفعل.. كنت قاسياً معهم.. تذكرتهم، وها قد جاء دورهم لينتقموا من عذابي لهم..!).
اقترب منه، فسقط سماءً.. ومات!
***
بقي عزرا-إيل..
أحسّ بالغربة وحيداّ!
تأمل حوله فكان رفاقه في خدمة العرش يسبحون موتى بين السماء والأرض بلا قبور ولا جبروت!
أخذ يهذي: (وحدي بقيت، وجميعهم رحلوا.. ليتني لم أُعذّب أحداً.. ليتني لم أُمت أحداً.. اقتربت الساعة، وأنا حتى آخر لحظة إسفين الموت والعذاب حتى على أعزّ الأحباب لي!).
سمع الصوت: (من بقي يا عزرا-إيل؟!).
ها قد جاءني الموت!
ماذا أفعل؟! دقّات قلبي تنخفض قليلاً، قليلاً، والبرودة بدأت تجتاح جسدي.. آه، لو أشرب قطرة ماء.. لو أُعطى القليل من الوقت لأُكَفّر عن خطاياي بحقّ من عذّبتهم..
اقتربت الساعة، فماذا أفعل؟!
بلهفة قال: (سبحانك لم يبقَ إلاّ عبدك الماثل بين يديك!).
عبدك! عبدك!
إرحم عبدك.. أنا من نسي كلّ الرحمة من أجل إطاعة أمرك..
ليتك ترحمني! عبدك.. عبدك!
كنت سيفاً بيدك، وموتاً بأمرك، وعذاباً على كل معارضة لك، وكاتم صوت لكلّ من عاداك! فهل تنساني بجرّة عمر أو نفخة صور؟!
عبدك! عبدك!
أظنك لا تخذل خدم عرشك!
دون اكتراث جاء الصوت: (الآن جاء دورك يا عزرا-إيل)
وأحسّ بيد تنتزع روحه..
في آخر شهقات الموت قال: (آه لو كنت أدري أن هكذا كان عذابهم ما كنت فعلت.. ليتني كنت بهم رحيماً!).
وسقط سماء!
***
كان الصمت أثقل من الموت!
والسماء كما الأرض أصبحت بلا ساكنين!
جاء الصوت: (من بقي من عبادي؟!).
لكن.. لا أحد يجيب!
ازداد الصوت أكثر: (لمن الملك اليوم؟!).
بقي الــ(لا أحد) يجيب صمتاً!
قال الصوت: (المُلك لي وحدي أنا القوي القهّار!).
**

واكتمل النصاب

سوط إيل

• عُروج

متّكأ الشقي الحلم..
وهذا الكون ضجر!
تسرقه الكوابيس فيغفو.. تسلبه الذكرى فيصحو..
ملاذه الدمع!
لم يبلغ عتبة البهجة، وما انسل من عباءة السماء!
ويراهم حضوراً دائماً إذ يحسب ذاته ضميراً غائباً.. وميض اليقظة أفولهم، وبريق الحلم قدومه!
هم عاثوا في الأرض فرحاً، أما هو ففي ميدان الفضاء كان..
السماء ملعب، وساحة لأراجيح حلوله..
مرّةً يضرب القمر بجناحه.. ومرّةً يترصد بنات نعش، فيغمز واحدة، أو يلهو مع الصغرى!

تغويه الثريا فيركل دليل السماء بقدمه لاهثاً وراءها!
وكان سعيداً، طليق الجناحين، حرّ الخيال.. ممالكهُ عيناه اللّتان تتحسّسان الفضاء بكل لمعاناته ساعة اكتمال خارطة وطنه الذي يقلّب النظر فيه بين نجم وكوكب!
يمعن البصر أكثر..
يقتفي أثر جموح النيازك، ومنازل الأبراج بلذّة طفل أرضيّ. يراقب مراوغة قطعان النجم في تشكيلاتها لفسيفساء سقف الكون، وإذ يرى اندفاع برج الحمل تثور أشجانه، ويخاف أن يغدره السرطان فيعضَ قدمه إذا اقترب منه.
تسلبه صورة برج الجدي التي يتأملها بوابة مزركشة بتيجان النور حين تمرّ منها الأرواح صاعدة بنزق وانجذاب!
يتمتم لروحه: إنه الباب الإلهي!
يتتبّع خط العروج..
ينحدر معه إلى أسفل فيرى على سلالمه الأرواح تصعد إلى الأعلى بينما البرزخ شاسع وسحيق بين عُرف الباب الإلهي وجرف نبع الأرواح الصاعدة!
يتأمل بؤرة القاع المرح، فيرى القرية الباسم أهلها.. يردّ نظره إلى زجاجة وجه الفضاء فتتضح أمامه مشكاة متجهمة، عابسة بالسناج والبثور!
يسمع صناجات وطبول فيعيد النظر كرّة أخرى باتجاه القرية..
يُفرحه العيد فيها!


• زلزال

نساؤها أجمل من تلألؤ النجوم..
صوت موسيقى الحياة فيها أعذب من قداسة الصمت.. أقدس من سكون السماء!
استمتع جبرا بما رأى: حوراً من نساء كلّما ابتسمن زدن حسناً، وكلما تحركن فتنةَ زدن إغواءً!
أنهراً من خمر تتشرب بهجة وسكراً..
أما الرقص فملاذ الجميع!
كرنفال الورد والفرح والأنثى..
الأجساد تتسامى أرواحاً في الرقص، تتماهى في ذات واحدة، تتحرك الرؤوس والخصور والأقدام، يهتزّ الرجال والنساء، يفرح الكهول والأطفال.. يرتفع صخب الضحك، فيتشرّب الفضاء بنشوة قهقهاتهم، وإيقاع غنائهم، وبراءة لهاثهم!
(من قال إنّ تلك القرية ليست جنّة الذين في السماء حين ينحدرون؟!).
تساءل، وتمنى لو يستطيع الاقتراب من هذا الفرح.
غاب في الوجد من كثرة ما رأى، فاحتجب عن تجهّم ما حوله من فضاء وما فوقه من عروش!
القرية أخذت لب السماء..
حين عاد جبرا من وجده استمع إلى ثرثرة الكواكب والنجوم المتناثرة سبايا في سرايا الأعالي.. كانت ترقب القرية مثله، وخلسة تتهامس توقها:
تقول الزهرة:(الأرض أجمل منّا!)، فيرد المريخ محاولاً إيصال صوته لباقي أسرة النجم: (ضحك وابتسام.. وقرية عذبة نقية!). يتنهد الدب القطبي متمنياً: (لو ننزل إليها إجازة سريعة نكسر بها تجهمنا السماوي!). يقلب نفسه برج الدلو متحدثاً: (سأسمي كلّ أيامي سعداً علّني أسعد كتلك القرية.. اليوم سعد الملك، وغداً سعد السعود، وبعده سعد الأخبية!).
يحتجّ درب التبانة: (من سيؤنس وحدتي إن رحلتم مهاجرين؟!).
عزموا النيّة على الرحيل..
من قال إن النجوم لا تملّ السماء؟!
سماء بلا فرح! كيف يمكن الخلود فيها؟!
أرادوا الهجرة من مرتفعات الفضاء، وأزقة المجرّات وخرابيش الأفلاك..

جمعوا نورهم، ورزموا حبال أشعتهم وثلوجهم وأمطارهم.. ومثل بدو رحّل حملوها حيناً على الدبّ الأكبر وحيناً على جناحي الوشق..
حزموا أنجماً على التنين، واستمدوا طاقة برج الحوت وسرعته في السباحة السماوية، ثم امتطوا الدب الأصغر ليبدأوا الرحلة مستهدين في هجرتهم ببراعة هدي النجم القطبي مرجع السماء ومحورها!
الخارطة واضحة أمامهم، ولا سبيل للتراجع.
سمع جبرا وشوشاتهم، ورأى استعدادهم فزاد ابتهاجه.
قال لروحه: (سأتبعهم!).
وتابع معهم خطة النزول هبوطاً باتجاه القرية..
الخارطة كلّ جغرافيا الفضاء..
تتبّع المسار معهم: ستضيء لنا نجوم القَدَر الأول غياهب الدرب، وسنتبعها نجماً وراء نجم متسلّلين كأبديي الظهور من أثر الرحيل.. وستكون مراوغة حرّاس السماء لا بالمواجهة بل بمحاولة ولوج أصعب الدروب لا أسهلها!
ساد صمت..
وبعد أن اصطف الجميع استعداداً، وصف لهم دليل السماء مسلك الهبوط: في البدء سنخترق بحر الأمزجة، ثم بحر الغيم، فبحر الأمطار، وبعدها نستريح قليلاً قبل أن نواصل المرحلة الثانية عبر جبال الكربات مروراً بفوهة التيه وهضبة الأحلام، لنسبح بعدها في محيط العواصف قبل أن نصل خليج قزح محطة إقامتنا الثانية التي لن نستقر فيها كثيراً بل سنبحر قليلاً نحو جزيرة الإخصاب حيث نستريح هناك سنين عدداً لنحصي ما خسرنا ونعوّض بالخصب والتناسل ما ضاع منا حتى نعاود الرحلة في مرحلتها الأخيرة فوق بحر الحريق، ومستنقع النوم، وبحيرة السراب، وصولاً إلى غابة الحلم قبل بلوغ الأرض!
فرح جبرا حين سمع كلمة الأرض..
إنها تعني القرية، تعني البهجة، تعني الانسلاخ من لباس السماء الرسمي والحسابات الدقيقة، والمكيال، والثواب والعقاب بمقدار، ورصد هذا ومتابعة ذاك!
أحسّ بالخدر يصيب جناحه..
أفاق من سبات تذكاره على شلال مالح يتسرّب من عينيه إلى وجنتيه وينحدر باتجاه شفاهه ساقطاً على مساحة ممتدة أسفل منه..
كان ملحاً قاتماً!
تذوّقه بلسانه دمعاً مصدره العين.. تذكّر القرية فزاد جريان الوابل من عينيه!
تأمل ذاته.. أحسّ بخدر جناحه القابع منذ سنوات الهجرة تحت القرية بعد أن طواها، قالباً عاليها أسفلها، مثل صفحة في كتاب ثم بقي سجيناً بين جناح طليق يلوّح طالباً الخلاص وبين آخر محصور تحت أنقاض القرية وأطلالها وذكريات البهجة فيها، كلّما راوده حنين لفرح أو ذكرى ابتسام، سال دمعه وزاد منسوب بحيرة الملح المتكوِّنة فوق القرية قرب عينيه!
هزّ جناحه الطليق متذكراً، فهبّت نسمة دافئة على طول حفرة الانهدام التي تشققت قهراً لما أحسّت بثقل خسف الجناح في نزوله الرهيب عبر سبع سماوات شاطراً القرية، قطعة من كعك، بكل لذّة مذاقها وحلاوة أهلها، رافعاً إيّاها عدّة أفلاك قبل أن يقلبها على جناحه الآخر في مكانها الذي كانت تسميه وطن البهجة.. وبقي الجناح دافئاً تحتها، وبقيت حفرة الانهدام، وبقيت البحيرة ماؤها من دمع جبرا الذي كلما هزّ جناحه الطليق يشرئب نور حراس السماء مسلطين أضواء مصابيحهم عليه خوف صحوه بعد طول سكون!
حاول أن يسحب جناحه السجين تحت بحيرة دمعه، فأحسّ مياه الملح ثقيلة.. كزّ على أسنانه وحرّكه بقوة فاهتزّت مساحات اليابسة حوله، وبدأت الزلازل تداعب الأمكنة وتُشقّق البيوت وتُصدّع الجبال.
قضم الهواء بغيظه، ولم يتحرر جناحه..
صاح: (أما لهذا العقاب من نهاية؟!).
سلّطوا كشافات أنوارهم عليه..
كانوا حرّاس السماء الأربعين.. شاهدهم فخاف!
اقتربوا منه..
رآهم.. كلٌّ يحمل سلسلة مصهورة في بؤرة عين الشمس ومجدولة بالنيازك والشياطين!
أحاطوا به..
ثلاث ضربات من سلاسلهم في وقت واحد ضربوه.. الأولى، على جناحه الطليق، فارتخى وهبط ساكناً كحمل وديع بجانب البحيرة..
فسكنت معه الريح!
الثانية، على مفصل جناحه السجين، فزاد خدره وصار قطعة صخر أسفل البحيرة..
وهدأ الزلزال!
الثالثة، قويّة على رأسه.. ترنّح، وزاد بكاؤه، فزاد ملح البحيرة..
ردّدوا في أذنيه تعويذة أملاها عليهم إيل ليوقفوا بكاءه، ويعيدوه إلى الحلم..
اقتربوا منه أكثر..
مثل جوقة رتّلوا على سمعه معاً: (الكأس تعرف من تختار.. الكأس تعرف من تختار).
أنهكوه بالتعويذة..
خفّ سيلان دمعه..
غفا.. وعاد إلى الحلم بعد أن خفقت أجنحة حراس السماء مبتعدة إلى بروجها!

· دفاتر الغيب

شمالاً.. السماء قاسية كحقد المهزومين!

جنوباً.. الأرض راقصة في بلاط الفضاء!

والندامى على شرفة صحن الأعالي يقرعون الكؤوس فرحاً بفوانيس الليل..

حيناً يسكرون، وأحياناً أخرى يقدّمون مراسيم اللذّة للذي يعبث بأماني الجميع مصرّحاً:

(وحدي أنا إيل.. الليل لكم، والنهار لي!)

حلماً تذكّر جبرا، تفاصيل هجرة السماء إلى حضن الأرض.. جناحاه ما كانا مغلولين أسفل الملح والماء والتراب، وما كان قلبه كسيراً كطفل يتيم.. غير أن إيل كان ثملاً كسكارى المناجم!

تجاعيد وجه السماء النجوم..

وعلى جسد الأعالي كانت الكواكب تسير حرّة بلا رقيب، بينما إيل كان نادلاً في تلك الليلة!

الفضاء حانة له ولأربعة من خدمه المقرّبين: (عزرا.. جبرا.. ميكا.. وإسراف).

تلك أسماؤهم..

وليلاً حول مائدتهم السماوية يجتمعون، وبينهم كبيرهم نادلاً يقدمّ لهم الكأس لقاء خدمتهم إيّاه ساعات النهار!

ملك نهاراً..

ساقياً للندامى، نادلاً للسكارى، كان ليلاً!

ودائماً يرعاهم بدورة كأسه:

دورة أولى.. رفع الكأس، فرفعوا كؤوسهم رغبة وخوفاً.

قال: (نخبكم رفاق إيل، وزبائن ليلي الآمن!).

رفعوا كؤوسهم..

ولم يشرب كأسه، بل أكمل قوله: (لكم الليل سُكراً.. ولي النهار ملكاً!).

جرع الكأس مرّة واحدة فتسابقوا على الشرب كما فعل.

بكى جبرا..

مثل حلم كانت تلك الليلة..

كنّ ثلاث دورات، بثلاثة أنخاب، وما كان السرّ غائباً عن إيل!

جنوباً زادت الأحاديث.. والبشر بين فرح ومرح، ضحك ورقص.. بهجة كل أيامهم، والكأس بين يدي إيل قريبة حتى اللامسافة، حدّ الالتصاق..

وملأ قدحه..

وملأ أقداحهم مرة أخرى.

رفع كأسه قائلاً: (نخب دفاتر الغيب التي سأقرأها لكم الآن!).

خاف جبرا..

تمتم بين جناحيه: (كيف سيقرأ الغيب؟! وأسرار هؤلاء جميعاً في الأرض والسماء، هل سيكشفها كما يكشف عورة رضيع في المهد؟!

أما من خيار غير الكشف؟!

هل سينكشف كل شيء كالفضيحة؟!

تنفسهم، نبض قلوبهم، ثرثرة ألسنتهم لحظة مزاح، أو مناجاة حبيب ساعة رضا.

حقدهم على عدو يعجزون عن إيذائه، أو كذبهم على أطفالهم من شدة الفقر.. هل ستنكشف كل أسرارهم البريئة بقرار ثمل من إيل؟! ألا خيار؟!)

قبل أن يتجرع إيل كأسه بدأ فتح الدفاتر..

متجعدة كوجه عجوز، وبائسة كعروس مخطوفة، لكنه أكمل قراءتها بنشوة: (في الصفحة الأولى سيُرهق الأرض النوم.. وستغفو على حلم!

في الثانية، سيكون الصحو، فيمشي أهلها كالبؤس في مناكبها، وسيلهثون!

وفي الثالثة، سيبكون.. أما فيما تبقى من صفحات الغيب فسيسقطون كسنيّ أعمارهم!).

تلفّت حوله.. ضحك!

ارتجفت قلوبهم.. تجرّع الكأس، فخاف جبرا.. هجس لسرّه: (هل قرأ إيل في دفاتره خبر الهجرة من مراعي السماء إلى بهجة الأسفل؟!).

ارتعش قلبه كنيزك ذبيح هوى حتى غياهب الروح..

تمنّى لو أنه لم يسمع شيئاً.. لو أنه لم يتمنّ الهجرة معهم!

رفع كأسه.. وشربها مع الشاربين!


· فتنة السماء

أتوا..

أربعون حارساً من حرّاس السماء حضروا حين كان إيل رافعاً كأسه، قارئاً دفاتر الغيب.

دخلوا بخفّة دون استئذان..

اقتربوا منه..

همسوا له طويلاً في آن واحد!

تغيّرت ملامح وجهه فخاف جبرا.. تساءل: (كيف يقرأ دفاتر الغيب ثمّ ينتظر وشاية أو همسة من حرّاسه ليعلم ماذا حدث، فتتغير جغرافيا سحنته إثر حديثهم له؟!).

بقيت الهواجس تأكل روحه: (ما الذي يدور في ذهن إيل؟! وبماذا وشى الواشون؟!).

تأملهم إيل..

انفضّ الحراس من حوله، فهز رأسه صامتاً.. اقترب منهم وأخذ يملأ كؤوسهم واحداً واحداً..

دورة ثالثة.. ضحك قائلاً: (انظروا في الكؤوس!).

خائفاً تأمل جبرا كأسه..

اتضحت معالم السماء والأرض!

ركزّ أكثر: القرية مثل نثار الياسمين تتضوّع رقصاً، والفرح شعاع نور يتوهّج هالة ورد فوق الناس فيها!

النساء فتنة وبهجة، وزينة الدبكات، وخمرة الجلسات، بينما رائحة النبض خرافية كدفء القلب، والحب فيها بكر ما شوّهته لوثة التفكير، ولا غطّته عقدة التكفير!

التجاعيد لم تكن أتلاماً على وجوه الرجال.. وسواليفهم كن خليط الحب والرقص، وما كانت أذهانهم كهوف ظنون، فرحهم خبزهم، وطيبة القلب كفاف عمرهم.. وكانوا دائماً يضحكون!

لا وقت للحزن ولا متّسع للنوم وسط كرنفال الموسيقى ومهرجان الحياة.. كانت القرية الباسم أهلها!

سمع جبرا غضب إيل: (تأملوا الكأس!).

حدّق بخوف..

تغيّرت الألوان، وانقلبت تضاريس القدح..

رأى فضاء يعرفه، وشاهد رقصاً وضحكاً لم يألفه!

هذى لروحه: (لقد فُضح نبأ الهجرة!).

تابع أخبار السماء بخشية وقلق.

اختلّ الميزان..

صارت أسماء الأماكن تتغير، وباتت حركتها أكثر دلالاً وغنجاً!

القمر عاشق يبدّل لون وجهه، وتسريحة شعره إغراء لحوت توهمه مريداً يقضم منه كل حين قطعة إلى أن يحتويه تلبّساً ماحياً إيّاه في محاق الحب!

الشمس فتاة فقدت حياءها وهي تتسكع في الفضاء شروقاً وغروباً بحثاً عن سرير يحتويها جالباً الدفء لها بعد أن أفقدها انفجارها الأول عذريتها البكر!

النجوم تشعّ ثم تنوس كحالم يبحث عن خلاص!

والكواكب صارت تصطفّ مشكّلة بفوضاها لوحة لقيثارة أو ناي تعزف عليه أغاني القرية التي تصلها، فتسلبها وقارها وتصير فرقة للّهو على ساحة السماء.. تشبك أنوارها ومداراتها بعضاً ببعض، تتآلف النجوم والثقوب السوداء والقمر وبنات نعش وسهيل والمريخ وما تبقى من سكان الفضاء ليشكّلوا جوقة في البدء، ثم تتحول جوقة الفرح إلى مسير ومشي، فهرولة، فاندفاع محموم عبر درب مرسوم باتجاه القرية، توقهم الذي يرغبون!

السعادة تميمة يتمنونها.

والقرية نقش التميمة ومعنى حروفها!

من قال إن أهل القرية ما كانوا يحبّون السماء أيضاً؟!

النجوم عاشقة، وأهل القرية لها عاشقون!

وكانوا يهيمون بها حدّ الفرح، حدّ أنهم يحسبون مواقيت أعيادهم، وتواريخ ميلادهم، وترانيم حظهم، ومواقيت مدّهم وجزرهم من حركة الكواكب وأبراج النجوم.

تمنّوا السماء حرّة مبتهجة.. تمنوها قريبة كالقلب.

تنفس إيل بحرقة كأتون جهنم!

ارتعش جبرا..

سمعه يقول: (جبرا.. فتنتهم تلك القرية!).

خاف، ونظر إلى إيل بحزن وخشية.

تابع حديثه: (ها هم يهربون كشتات الحروب نازحين من السماء! إنهم يهاجرون!).

رفع إيل سوطه..

عظيماً كان.. وكان عرضه عرض السماوات والأرض!

حرّكه بوجه المهاجرين..

قال آمراً: (ارجعوا!).

ورفع كأسه الثالثة.


· نخب القرية

سماء تلهث وراء نجومها..

حرس يحملون شباكاً جبّارة، ويصطادون الهاربين من مدارات الفضاء!

أمّا إيل فكان يرقب العالمين رافعاً كأسه كنُصب إله!

صامتاً كان..

وبقي رفاقه صامتين مثله!

الصمت نزيف القهر..

والصمت أعمق من حزن النجوم حين دُحرت وتراجعت أفواجاً من المهاجرين السماويين بخذلان منكسر خوفاً من سوط إيل!

قطع السكون بمدية صوته: (القرية فتنة!).

رفع الكأس ملآنة..

لسع الأفواج المنكسرة بطرف سوطه فتهافتت متراجعة بذعر قطيع غزلان يتعقّبها مخلب..

اصطّف حرس السماء فصيلاً من المقاتلين، حاملين أدوات صيد النجم، أمام بوابة عرش إيل..

حدّق فيمن حوله: (جبرا.. ميكا.. إسراف.. وعزرا!).

تأمل أيديهم، وأجنحتهم المرتجفة..

شاهد كؤوسهم تتساقط واحدة واحدة أمام تحديق عيونه!

تداعت في ذهنه صورته لما رأى وجهه ذات سُكرٍ في كأسه: كلّ رأسه عيون، وآذان، وألسن.. وحين تأمّل جسده كانت أيديه كثيرة وأرجله عديدة كما الأخطبوط.

بشعاً كان..

تذّكر أنه جمع النور بين يديه، وخلطه بإرادته في أن يخلق أربعة يكونون أجمل منه وأبهى..

شكّل النور، نحته، رسمه بريشة مشيئته حتى صار النور أربعة رفاق له ليلاً أما في النهار فهم أذرعه وعيونه التي تجوب الفضاء خدمة له!

رفع كأسه..

قال: (من يشرب نخب تلك القرية؟!).

لم يجرؤ أحد على الإجابة..

نكّسوا رؤوسهم كرايات الحداد..

انداحت الأرض نحوهم، واقتربت على مرمى عيونهم المنحدرة حتى أسفل أقدامهم.. حدّ السماء الأولى.. حدّ غلاف الأرض.. حدّ القرية الباسم أهلها!

صارت واضحة كسطر في كتاب، ومضيئة كشعلة في كوكب!

اقترب منهم واحداً واحداً..

كأسه بيده.. وعيونه تجحظهم وتقلّبهم فحصاً..

وكلما اقترب منهم، زادوا نكوصاً وخوفاً، وازدادت ضربات قلوبهم، طبولاً تؤذن بشَرٍّ آت!

أربعة كانوا..

وكانوا حول مائدته جالسين!

أما إيل فكان وحده واقفاً والكأس ملء يده، بينما عيونه لا تترك لهم فُرجة للمحة عين أو تمتمة شفة..

ولا مجال للهروب!

كيف يجرؤ أحد على رفع عينه بعيون إيل؟!

اقترب من جبرا..

صرخ بوجهه: (ها أنت تلوذ بالصمت كصخر متآمر مع البارود!).

لم يجب أحد..

وما انتظر إيل، بل انتقل إلى الآخر قائلاً: (إسراف.. خذ الكأس وانطلق مثل ريح قبل إغماضة عيني لتعود لي بخبر القرية!).

بقي إسراف صامتاً، فأكمل إيل: (من يشرب كأس القرية بقناعة ورضا؟!).

التفت إلى ثالث الجالسين..

قدّم له الكأس، وهو يهمس بغيظ: (ميكا.. كن أجرأ منهم، وانفخ نارك على شتات تلك القرية التي فتنت نجوم السماء وكواكبها.. خذ.. خذ الكأس بقوة ولا تتردد!).

طأطأ ميكا رأسه..

صار كلّ الكون سكوناً!

انتقل بسرعة إلى عزرا..

هشّم حائط الصمت بغضبه: (عزرا..

أنت من تعوّدت الموت، فاقبض أرواحهم، ولا تتركهم.. أنت الموت!

إذا بقيت القرية فلن نستطيع جمع ما حولنا، وسيكون الخوف شريك موائدنا.. إشرب الكأس.. نخبهم، وابدأ بهم!).

لم يكن صوت.. ولم يأتِ جواب!

اختبأت النجوم خلف ستار الليل..

رفعت طرف عباءة السماء، ورأت، بوميض خوفها، إيل يضرب المائدة فتتكسّر قواعدها الأربع، ويهبّ الندمان وقوفاً، خائفين حائرين..

مثل تهشم الزجاج أصدر أمره: (الآن سيخرج أحدكم، وسيشرب كأس القرية، ويغتصبها!).

تراجعوا منهزمين.. فاقترب منهم.

قال: (الكأس تعرف من تختار!).

رمى كأسه بينهم..

واختفت جاذبية السماء فتاهوا في الفضاء.

دارت بهم الأفلاك؟!

كان إيل يضحك بجنون وحزم، بينما الفراغ يردّد صدى كلماته: (الكأس تعرف من تختار).


· الكأس

ما الكأس؟!

انسيابها يغوي من يراها.. وساكبها لا يرميها إلا مرة واحدة كلّ دورة كونية!

ما الكأس؟!

منحوتة من أحجار روتها الأرواح.. وشكّلت نقوشها عيون ورموش، قلوب وذكريات وحكايا..

والكأس تنطق إذ تكون وحيدة سابحة في الفضاء.. تضرب بها الريح، تتأوه، تتنهد، تصرخ ضارعة لجدرانها شكوى سفرها الطويل.. تصفر فيها تحذيراً وخوفاً ثم تنطلق هاربة إذ يُدلق فيها النبيذ فترتفع القرقرة صخباً بداخلها تفصيلاً للذّة الأحاديث ونشوة الضحكات، وتلألؤ الأنوار..

يوغل في الكأس الغناء!

الكأس لا تصمت..

في كلّ أوضاعها لا توقف البوح والهذيان.. هكذا شكّل إيل الكأس حين تكون بعيدة عنه، أما بين أصابعه فالكأس مختلفة.. تصير مثل الخرافة، مهيبة كحاملها، وهو صاحب الخيار.

– الكأس تعرف من تختار!

ردّدت الكأس صدى أمر إيل، بينما أخذ الندمان الأربعة يدورون مع دوران الكأس في الفضاء.

دارت بهم السماء..

غابوا مع الكأس..

تتبعت حركتهم النجوم، وكتمت الكواكب والنيازك حركتها كي لا يصطدموا بها!

اختلطت الكأس بأجرام السماء.. صارت كل الجمادات والسوائل والغازات تصطف في استعراض لزينتها وقوّتها كلّما مرّت أمامها الكأس محاطة بالأربعة المبشرين بالقرية في دورانهم حولها يداً بيد، كل أمانيهم أن يفلتوا من هذا الدوران الإجباري المفروض عليهم كالقدر!

يد جبرا المولود في أقصى أودية السماء، بيد عزرا سادن الموت.. والثالثة يد إسراف المسرف في صبره على حمل نفير الخلاص، مغلولة بيد ميكا خازن المطر والرزق!

كانوا يداً بيد يدورون..

تدور الكأس بينهم.. يدور الكون حولهم!

ما الكأس؟!

مسكوبة مثل أُنثى، تغوي العيون، تفقدها وقارها.. تسلب الأجساد ثباتها فتهتزّ حولها وترقص خوفاً دون إرادة.. تغري أكثر..

تقترب، وتبتعد فتنة.. يتخيلونها رفيقة أو عشيقة تسلبهم ألبابهم فيتبعونها!

توقفت حركة الكأس..

بقي الأربعة يدورون، دون توقف.

خرق إيقاع دورانهم صوت إيل: (الكأس تعرف من تختار!).

فانفرطت مسبحة دورانهم.

تراخت أيديهم.. ابتعدوا عن بعضهم شيئاً فشيئاً.. لوّحوا بأيديهم مودّعين بعد أن أيقنوا بنبوءة الشتات..

صرخ ميكا: هل سنلتقي بعد فراقنا هذا؟!

قال إسراف: كيف سنلتقي بعد شتاتنا الآن؟

تمنّى جبرا متنهداً: آه.. لو نلتقي بعد هذا الغياب!

عصف عزرا حداده مبتعداً: لن نلتقي!

وسقط في الحضيض الأسفل قائلاً: سأبني مملكتي مدناً من القبور على الأرض!

ومضى ميكا إلى الغيم، فتمدّد عليها راضياً وهو يتمتم: (هنا سريري وملكي الذي أريد!).

أما إسراف فاختفى لائذاً بظلّ الزهرة في هروبه من هجير الشمس ماسكاً بوقه الصامت على كتفه.. غفا وهو يهذي: (مملكتي السكون، بانتظار أمر إيل حين يحين الحين لأبعث النيام.. آتيكم بعد أن تغيبوا لأوقظكم!).

وبقي جبرا وحيداً أمام الكأس، هاذياً: (ما الكأس؟!) وهو يحاول الهروب منها!


· أمر إيل

(لا أستطيع اقتراباً..

أنا العاشق عرش إيل، خادمه، وكاتم أسراره!

لا أريد ابتعاداً..

أنا الخابر طعم الكأس، رفيق صحب إيل، ووكيل الأمر!

الكأس تعرفني.. ولا خيار إلاّ من اختارت!

قبلتي النبيذ الذي سأشربه، وشتاتهم خيار الكأس..)

تداخلت الكلمات على شفتي جبرا.. وكانت الكأس أمامه، ولا مفر!

ضاق عليه الفضاء بما رحب.

التفت حوله، فلم يجد أحداً غير الكأس!

أيقن أن عذابهم كان في خيارهم، أما خيار الكأس فسيكون عذابه وسجنه هو!

صرخ : (لماذا؟) فاقتربت منه الكأس أكثر.

تمتم جبرا هذياناته: (بمن ألوذ؟!

هل قدري أن أكون أقرب الأقربين من إيل؟!

أَوَ هذا جزائي، أنّي ما خنت؟! أم أن سماع ضحك القرية جريمة، وتحسس وجيب قلب السماء خطيئة؟! هل أنا من دَسّ في مدارات النجوم هاجس الهجرة والفرح؟!.. ياه.. طال صمتي وخوفي.. فماذا بعد؟!).

جاء صوت إيل من بعيد: (يا جبرا.. الأرض لا تحتمل فرح القريةّ!).

وأكمل حديثه مثل فرض الحضور: (والسماء أيضاً، لا تحتمل ضحكها، وصخبها، وحرية أهلها!)

نفض جناحيه، مصيخاً السمع لإيل متمعناً في كلماته:

(أنظر جبرا..

لاحظ كيف ترتخي تقاسيم الكواكب حين يبدأ ليل الصخب فيها، بينما الظلام يحيط كل ما حولها..

أنا خلقت الليل للنوم، وها هي القرية الباسم أهلها تتمرّد على مشيئتي.. وقدّرت الوجود للحزن والفرح، وها هم أناسها لا يحزنون.. وشكّلت العيون لتبكي وتنظر، واللسان ليحكي ويشتم، والأسنان لتعض وتقضم، والآذان لتسمع النواح والغناء.. لكنّهم أخذوا النصف، وأهملوا إرادتي الأخرى..

السماء ستخرج عن طوعي إن لم يتراجعوا!).

الكأس تقترب..

لا أحد إلاّ جبرا!

يحاول الهروب.. يخبط الفراغ بجناحيه ليبتعد، غير أن الكأس تحاصره، وصوت إيل يغلّف الأثير بقصدير حضوره: (الكأس تعرف من تختار!).

ضاق الكون حوله..

وقع في مصيدة ثالوث الكأس، والصوت، وحطام المائدة.. أحسّ ذاته تتقزم كوميض نيزك مبتعد.. حاول مرة أخيرة:

خطوة إلى الأمام.. أوقفته الكأس!

خطوة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار.. قضمه صوت إيل!

خطوة إلى الخلف، ارتطم بحطام بقايا المائدة التي كسرها إيل، تعثر، اتكأ على قطعة من أشلائها بيأس!

اقتربت منه الكأس..

شعر بخزي وانكسار أزلي..

باستسلام عذراء مغتصبة فتح فمه!

داعبت الكأس شفتيه فلامسته برودتها.. انسكب النبيذ منها، وأحسّ باندلاق شلال من اللذة، بحرقة محببة داعبت لسانه ثم تسرّبت دون إرادة إلى جوفه وبقايا جسده.. كانت نشوة لم يحظ بها منذ خروجه من رحم النور، حين كان حمله تسع دورات كونية، بين كلّ دورة وأخرى آلاف كواكب سقطت وآلاف أخرى خبت أو تلألأت بعثاً بالنور بهيّة كالحياة.

ومع مخاض النور كان ميلاده آنذاك.. وقال إيل: (سيكون اسمه جبرا!).

وقال أيضاً: (هو أقرب الأقربين منّي.. وستختاره الكأس في الدورة الثالثة حين يهرب الجميع!).

تشرّب كل النبيذ السماوي..

مسحوراً باللذة حرّك جناحيه، رغم سماعه أمر إيل الذي تسرّب إليه، وردّده سكان الفضاء:

(فليبق كلّ واحد في مكانه.. النجوم، الكواكب، وحرّاس السماء.. أما رفاقي، فعذابكم حيث أنتم.. عزرا سجين القبور.. وميكا قيده وتد الغيم.. وليكن إسراف صنماً حاملاً البوق إلى آخر الزمان.. أما جبرا، فعذابه في القرية التي كان يريد.. دمعة ماؤه!).


· عذاب إيل

– (كن عذابي!)

وارتفع عويل جبرا كرفوف غربان تحلّق على شرفات السماء، وفوق غلاف الأرض.

سواد امتقع وجهه، وزاد بكاؤه، فاستيقظ على بركة من ملح.. نظر حوله.. كان حرّاس السماء يراقبون صحوه.

أغمض عينيه خوفاً، فتذكّر دويّ القرار: (كن عذابي!). يومها رجاه، وهو غائب بين لذّة الكأس، ورهبة الأمر: (إيل.. عذّبني بمثل عذاب رفاقي).

سمعوا رجاءه..

أخرج عزرا رأسه المخفيّ في أحد القبور ضارعاً إلى إيل أن يشاركه جبرا بيادر الشواهد والجثث المقيم بينها.. وتمطّى ميكا مرتجفاً وهو يزيح غرّة الغيم عنه متمنياً أن يقيم معه في برودة قطن الماء الذي يسبح فيه.. بينما نفخ إسراف غيظه من ثقل البوق الجاثم على كتفه ناظراً إلى جبرا علّه يأتي شريكاً له في حمل هذا العذاب!

– (كن عذابي!).

رددها إيل مرة أخرى، ولم يستمع إلاّ لصوت الدفوف بصخبها الآتي من القرية.

لاذوا بالصمت، وبالدعاء ساكنين.

ثارت هواجسهم: (كيف فكّرنا بالهروب من كأس إيل؟!

ملعونة أحلام السماء!

كيف توهمنا أنه سينسانا ويرحل، أو يتركنا نرحل؟!

ليتنا من أهل تلك القرية نعيث فيها فرحاً وصخباً، ونبني أكواخاً ملأى بالأطفال والنساء والضحك!).

حزانى كانوا..

زاد أسفهم حين سمعوا جبرا يردد وراء صوت مصدره جوف الكأس: (وحدي من شرب الكأس، ودمعي مائي، وأنا عذاب إيل!).

سارت الكأس..

تبعها جبرا كمسلوب بال عليه ضبع، فتلبّسه وصار يتبعه أنّى سار..

ابتعدت الكأس، فلحقها جبرا.. صار تابعاً لها، يلهث وراءها بينما الكأس تسير به في المسار الذي رسمته النجوم درباً لهجرتها إلى القرية الباسم أهلها!

الكأس مثل إمام الصلاة، وجبرا كان كلّ المصلين!

النبيذ ملك جوفه، صار يحلم بقرقرة انسكابه فزادت لهفته باتجاهه..

صارت الكأس تهرب وجبرا يتبعها!

تلبَّسته الكأس، فانقلبت الأدوار وبدأت الكأس تلقينه الأمر وهو مذعن كالممسوس: (وحدي من شرب الكأس، ودمعي مائي، وأنا عذاب إيل!).

عطشاً كان، وراغباً في النبيذ، في احتضانه كأنثى تعطيه نشوة السماء والأرض.

شرب عدة مرات وهو يتبع الكأس.. والصوت يأتيه: (آيتك أن تشرب الكأس لتنسى!).

اقتفى مسارها حتى الثمالة.. حتى بلغ حافة الأرض.. حتى بلغ القرية وهو يردد: (وحدي من شرب الكأس, ودمعي مائي، وأنا عذاب إيل!).

حينها جاءه القرار باتراً كالسكْر، ثملاً، مهتزاً، وصارماً كسوط إيل:-

(يا جبرا.. إقلب القرية عاليها أسفلها.. واشرب الكأس مرة أخيرة!).

وفعل جبرا..

ونسي جناحه تحت القرية حين قلبها بجناحه الآخر، وارتمى ثملاً، حزيناً، كلما صحا ضربوه ثلاثاً، وجددوا على سمعه التميمة، وسَقوه الكأس ليثمل، فيتذكر، فيبكي، فتنسكب دموعه، فيصير الدمع ماءً وملحاً، بحيرة فوق القرية، لا ورد ولا زرع ينمو حولها!


بعد الخلق.. قبل النزول

· آدم..

منكسراً كصغائر الذنوب..

وضجراً كآخر الخلق أو أوّلهم!

نظر للسماء، هي أرضه الآن.. تساءل بعد أن تعلّم الأسماء والأسئلة، ورأى ما رأى من دهاليز الفضاء:

(ترى، ما العرش؟!

هل كان العرش قبل الماء؟! أم بعد الماء جاء؟! ما الماء؟!)

ضرب ساق الشجرة التي يجلس تحتها بيأس..

تأمل قامتها: (ما الشجر؟!

ولماذا هذه الشجرة بالذات يجب ألاّ ألمس؟! وثمرها عليّ ألاّ آكل؟ّ!

العرش أمرني بهذا!

العرش على الماء باقٍ في جلال وبيان! والماء يُنبت الشجرة أيضاً.. لماذا لا ألمسها إذن؟! هل فيها من ماء العرش نبض أم فيها من الخلود جذر؟!).

حضن الساق بذراعيه..

تحسّس نعومة الجلد، وحلّق بنظره حتى قمة الشجرة، ثم أخذ يتسلّقها دون أن يُسقط شيئاً من ثمارها!

(تعربش) على أغصانها، وجلس على أعلى قمة فيها.

تعباً كان..

وسعيداً بهذا النصر أيضاً!

مدّ يده عالياً بنشوة طليق، فتحرّك رفّ الحمام باتجاهه قادماً من الأفق، وحطّ قريباً منه!

حكّ رأسه مذهولاً من رفّ الضيوف القادمين إليه بلا استئذان.. تذكّر: (وعلمني، الذي أوجدني، مع الأسماء منطق الطير أيضاً.. لكن ما الحمام؟! قفاز أبيض يتحرك وحيداً فارغاً في أيّ كف.. تحركه الريح أينما اتجهت.. الحمام طير.. والطير لا يمكنه الثبات، جاسوس ينقل جناحيه هنا وهناك).

– يا حمام (قال مخاطباً ضيوفه).

* لبيك يا أبا..

– أبو! ماذا؟! لم أنجب قابيل بعد.. قالوا لي آدم!

* آدم! لا.. سيكون ابنك الأكبر هابيل.

– لا.. بل هو قابيل.

* قابيل قاتل.

– وماذا أحتاج غير القتلة حين أُبعث إلى الأرض؟! كيف سأحكمها دون القتلة؟! الأرض لن يسكنها الأبرياء‍!

أحسّ بحركة تحت الشجرة فهشّ على الحمام بيديه، وابتعد رفّ الزائرين باتجاه أسفل الأفق!


· حواء..

دارت حول الشجرة بنشوة طفلة تحلم!

تأمّلت الثمار الدانية من الغصون إليها، وتحسست صدرها.. كان ممتلئاً!

تابعت استقامة الساق قبل تفرّع الغصون والثمار، ثم حدّقت في جسدها: الساق، الخصر، الرقبة.. والثمار تفاح ممتلئ على جسد الشجرة.

همست لروحها : (الشجرة أنثى!

والأنثى، ما الذي يبقى منها إن لم تُلمس؟! ما معنى كلّ التفاصيل فيها، بساقها وأغصانها وثمارها، إن لم تُكتشف؟! أم تبقى نهباً للريح بعيداً عن اليد، والفم، والقلب، والروح؟!

مُحرّم علينا أكل الثمار أو لمس الشجرة.. لماذا؟! والشجرة أنثى!).

مدّت يدها لتلمس ساق الشجرة..

أجفلت حين داهمها رفّ الحمام آتياً من أعلى فأعادتهما وأحاطت بهما صدرها.. وحطّ الضيوف حولها..

تأمّلت لون الطير فأزهرت على خديها نشوة أنثى تنتظر البياض..

*جميلة وأنت تحضنين ثمار جسدك (خاطبها الحمام).

– السماء كلّها جسدي الذي أحب (ردّت بابتسامة عاشقة).

* والأرض أيضاً..

– ها.. الأرض؟! ما الأرض؟!

* مجهولة لك.. ومحجوبة عن عينيك!

– أهي أجمل من السماء؟!

* حياة أخرى هي..

– حياة أخرى؟! إذن فما نحن فيها هي الحياة الأولى؟!

* وحين تنتهين من هنا سترحلين هناك!

– وأترك كل الأشياء؟! الثمر والشجر.. الخمر والنهر.. كلّ الأشياء؟!

* وستُبعثين هناك حيث المال، والبنون، وزينة الحياة الأخرى.. والباقيات الرائعات!

– البنون! ما البنون؟!

* ثمرة جسدك، ونتاج اتحادك مع آدم!

– مثل الشجرة هذه، وثمارها!

* وستكونين أم قابيل!

أجفلت حين سمعت اسم قابيل، واتكأت على ساق الشجرة.

قالت باحتجاج:

– قابيل! هو قاتل.. لا لست أم القاتل.

* بل ستكونين.. هكذا أراد آدم.. هو أبو قابيل، وأنت زوجته، إذن أنت أم قابيل!

– لا.. هو قاتل.. وأنا أمّ الميت، هابيل.

* بل أم القاتل قابيل!

– القاتل يزول، والمقتول يبقى.. الأرض سيملكها البريئون.. الأرض للموتى، والسماء لهم أيضاً.

بنزق هشّت بيديها على الحمام، فابتعد الرفّ جميعه، وأخذت تدور حول الشجرة!


· القرار

كان يجلس قريباً من العنق.. يعبث به بيديه، ثم يتحرك باتجاه الأسفل مكتشفاً بواطن الجسد.. صدرها كان واسعاً كحقل يسرح فيه الخيّال، وخصرها أجمل من لوحة بكر.. بقي ينزل شيئاً فشيئاً، وأصابع يديه لا تتوقف عن الاكتشاف.. صلبة كانت ثمارها، وناعمة كل تفاصيلها.. يشتهيها، غير أنه لا يستطيع قضمها.. ينزل غائراً باتجاه الأسفل، يمر على ظلمة ما، كثيفة هي التفاصيل هناك، تجاوزها فوصل الساق، احتضنه، تشبث به بقوة عاصراً جسده عليه، ورعشة خلاياه لا تتوقف إلى أن لامست قدماه السطح أسفل الشجرة حيث كانت حواء بانتظاره من رحلته من القمة حتى خوف الأنثى..

تأملها..

صارت نحلة الشهوة تئزّ داخل جسده.. لكن طنين بقايا الكلمات التي سمع بقي يعبث في رأسه: قابيل قاتل.. هابيل مقتول.. حواء أنثى.. الشجرة أنثى.. الأرض! الأبناء.. الدم!

* آدم.. أ..دم!

زادت شهوته مع إيقاع صوت اسمه الخارج من فمها.. ازداد قرباً منها، فكانت الدمعة معلّقة في عينيها.. فجأة انقطع حبل العين عن الدمع فسقط على أرجوحة الخدّ دون اكتراث.

– حواء.. ما الذي يبكيك؟! (شعر برعشة حنين وهو يحادثها).

*سيقتلون بعضهم!

– أبناؤنا الذين لم يأتوا بعد!

* الحمام أخبرك إذن؟!

– قابيل قاتل.. هابيل مقتول!

* القاتل والمقتول أبناؤنا يا آدم!

دار حولها..

كانت ترتعش كورقة أمام ريح، حاول تهدئتها فتساقط دمعها أكثر.. حدّق حوله، صارت السماء سجناً يضيق عليه بعيداً عن أبنائه الذين لم يولدوا بعد!

انفجر دُمّل الأسئلة حين زاد بكاء حواء، وتحرّك نبض جديد في قلبه: (أبنائي؟! لماذا نحن هنا؟! كيف لا تكون الجريمة ونحن نُحلّق برفاهنا هذا حول العرش نساءً ونوماً وحياةً بلا أسئلة؟! من سيحميهم؟! من سينقذ هابيل ويُصلح قابيل؟!).

تعلّقت دمعة في عينيه، ثم تأرجحت مثل مشنقة.. اقتربت حواء فمسحتها، وهمست في أذنه: (الشجرة أم.. الشجرة أنثى!).

هزّ رأسه موافقاً والتفتا معاً باتجاهها فكانت ثمارها دانية نحوهما.



· الخطيئة..



صارت السماء رخوة تحت قدميهما كحلزونة.. ولزجة (كبزّاق) البئر.. والفضاء زنزانة تحيط بهما من جميع الجهات، بلا رحمة ولا أُلفة..

يميناً.. لا بشر من نسل آدم.. ولا رجال!

يساراً.. ليس ثمّة أنيس ولا صوت حياة.. ولا نساء!

أماماً.. أفق رتيب بلا حركة ولا همسة.. مثل فراغ!

أما من الخلف فعالم لا يمكن الغوص فيه.. وألف إشارة قف!

ليس إلاّ الشجرة، مُخلّصة الآباء، ونافذة الزنزانة الوحيدة للخروج إلى الأبناء قبل أن يكون الدم!

* آدم.. الخطيئة في رقبتك إن لم تنقذ الأبناء! (قالت هذا واتكأت عليه محاولة التماسك وعدم السقوط).

– حواء.. الخطيئة قدرك إن لم تشاركيني النزول إليهما!

(حضنها مدارياً ضعفه).

* آدم.. لن أتخلى عنك.

صار جذع الشجرة قريباً من التقاء شفاههما المشغولة بقبلة من بقايا رحمة السماء.. كانت أولى القُبل.. ابتسمت حواء حين لامستها الثمرة، وثارت النشوة في داخل آدم.

– الشجرة أنثى!

همس في إذن حواء، ثم قبّلا معاً الثمرة قبل أن يقضماها..

اختفت السماء..

وبدأت الأرض تزرع الأبناء والشجر!

معجزة أبي أنا!
كان يدري أني لن أترك هذا المكان، ويعلم أنّي أصير سمكة إن أردت، وأكون حوتاً بأمري.. وإذ تحاصرني الجدران وتضيق بي أغدو قطرة ماء، أتسلّل من أي شقّ، وأنزّ منتزعاً خلاصي!
وُلدت سليل الماء، فكيف بالماء يخيفني؟!
حين نأوا، كان معهم قائداً للسفينة، وكنت أُدرك أن شقاءهم بدأ مذ أخذ يزجّهم إلى جوف الفُلك غنما وبشراً، طيوراً وزواحف حتى اكتمل النصاب إلاّ منّي، فأحصاهم عدداً!
التفت إليّ.. قال: معنا أو يكن في الماء نعشك!
حدّقت به..
كانت عيونه جافّة إلاّ من دمعة، وكنت أخشى أن يطلق سراحها.. فيها يكمن السرّ!
تأملته.. تساءلت: الماء ميلاد الحياة، عرش السماء وميثاق الأرض، هذا ما علّمني أبي فما الذي أنساه معنى الماء؟!
غابوا..
أخذت السنون تسبح معهم حين ابتعدت السفينة، وما كانوا يشعرون.. أربعون عاماً في البدء قبل أن ينقطع انهمار الماء، ثم حبسهم أربعين سنة أخرى حتى ترسو السفينة، وأتبعها أربعين سنة حتى يجفّ الماء، فماذا تبقى إذن؟!
اخترت الماء..
حذّرته: يا أبت، لا تزجّ نفسك مع الحشرات وأراذل المواشي، وتُنصّب نفسك ربّاناً لسفينتهم، كن معي وأختر الماء!
رفض، فدعوت له بالرحمة..
سار باتجاه السفينة.. أغلق أبوابها وأحكم سدّ منافذها..
رفع أشرعتها البيض وأنا أتبعه حتى آخر كوّة فيها.. كانت الدمعة تكاد تطفر من عينيه وكان يريد أن يقول شيئاً، يريد أن يلوّح لي بيده مودعاً غير أن تضاريس الخوف كانت بادية على ملامحه..
عند آخر كوّة اقتربت منه، تمتمت: أبَتِ!
فأشار لي بالصمت وهمس بأذني: أخاف عليك منهم!
تأمّلت من خلال الكُوّة كل من حوله من الكائنات، لم أَرَ إلاّ اللائي يمشين على أربع بأنياب كالذئاب ولم يكن إلاّ هو بينها واقفاً على قدمين وينبض بقلبي.. تمسّكت بيده، هذيت:
يا أبتِ!
شدّ على يدي ووشوشني خائفاً: كانت مؤامرة، وهذا خلاصهم!
أبي كان حارس السفينة..
وكنت في الماء أراه يلوّح لي مثل سجّان ينهي موعد الزيارة!
أغلق الكوّة، فبدأ انهمار الماء..
سعيداً كنت، وكانت السفينة تتكئ على الماء وتمشي.. تأملتها مبتعدة فتذكرت دمع أبي.. كان سجاناً أنقذ كل الذين معه في السفينة وبقي مائة وعشرين عاماً يبحث لهم عن أرض بلا ماء يكملوا حياتهم فيها!
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.