أن تلج عملا أدبيا من خلال عتبة جذابة مفتوحة على التأويل والأسئلة القلقة يعني أن تخوض رحلة مع التسآل في مخاض من المشاعر والرؤى تضعك عند الحد الفاصل بين اللهفة والدهشة، وهي هذه الرحلة مع ” أغداً ألقاك” للقاصة عنان محروس، التي رامت من خلالها بلوغ عنان الواقع وإعادة إنتاج علاقاته تحت مجهر الأديب المراقب الذي لا يكتفي بنقل الواقع بقدر ما يصعّد من وتيرة الأحداث وينسجها برؤية خاصة تشف عن حجم الألم ومقدار الأمل ويلتفت القارئ – فيما بينها من فراغات بيضاء ومسافات توتر – إلى عبرات صامتة مقهورة وفرحات مخذولة وصهيل صارخ في أعماق الصمت.
إن الولوج إلى عالم العمل الأدبي هذا، إنما يشبه اختلاس النظر من نافذة مبللة بقطرات المطر نحو أعماق الإنسان، أنثى ورجلا، وإن ظلت ” الأنوثة المهدورة” – بفعل ذاتي أو فعل الآخر – الثيمة المسيطرة على العمل، وهو أمر لا يحتسب على عنان بمقدار ما يحتسب لها، ذلك أنها عطّرت المساحة بعطر الأنثى، وهل يستسلم رجل لشيء كما يستسلم لعطر أنثى؟!. ولعل اختلاس النظر هذا يدخل القارئ في نوافذ خمسة تتصدر العمل الأدبي، ليحاول الخروج منها فلا يتمكن حتى يدخل في سمّ خياط القصص السبعة التي تليها، مأسورا بكلمات مفتاحية يمكن استنطاق هذا العمل للخروج بها منه، وتتمثل في مجملها في انتهازية مقيتة، وأنوثة مهدورة، ورحمة منزوعة، ومحبة ساكنة، وخيانة مزدوجة، وولادة عسيرة، ووفاة صامتة، وحياة بلا حياة، مارست فيها كلها عنان فعل إغراء القارئ بالقراءة، ليستجلي خفايا البيوت والمشاعر والأسرّة، فمنذ أن يخترق القارئ حرمة النافذة الأولى سيتألم لألم رجل فضل الموت على موت برسم الحياة في دار مسنين، وعندما يراقب المشهد من النافذة الثانية سيعي قسوة التلاعب بالمشاعر وتقليب النساء كما لو كانت صفحات في كتاب قال عنه نزار قباني ذات يوم ” ليس هناك امرأة تغتصب اغتصاب، هل من الممكن أن تقرأ في كتاب، إن لم يكن مفتوحا أمامك الكتاب” وعندما تنظر من النافذة الثالثة يتأكد لك كم تسامح الأنثى على الرغم مما يعتريها من ألم لغياب حبيب أخلصت له، وعندما تختلس النظر إلى النافذة الرابعة تكتشف كم هي الحياة قاسية تلك التي تدفع أنثى لتعتاش من جسدها بعد أن استشهد زوجها، وعندما تروم الإطلال على النافذة الخامسة تدرك أن الأنثى الطيبة اللينة الدافئة قد تتحول – مع برود الطرف الآخر وهجرانه – ماسة قاسية تمارس الصد عقب الاحتواء والرفض بعد القبول.
وفي رحلتك مع القصة الأولى يتأكد لك هزيمة الحب وانتصار الحرب، وعندما تصطحبك القصة الثانية واضعة ذراعيك تحت إبطيها تكتشف كم للمال من سلطة حتى على المشاعر أو الروابط، وتكتشف مأساة الورود والأزهار في القصة الثالثة ونحن نغتالها باسم الحب وبذريعة الهدايا، وكأنك بعنان تلمح إلى اقتطاف زهرات الإناث من أغصانهن بفعل عبث العابثين، والموت خير من حياة مع جاحد كما تفهم من الرابعة، وبساطة أحلامنا لا تشفع لها في الخامسة عندما ينتزع حلم أنثى بحفلة عيد ميلاد، وترى الخيانة المزدوجة في القصة السادسة ففي الوقت الذي كان يخون فيه زوجته كانت تخون، وفي السابعة تكتشف أن حلما جميلا يتحقق كفيل بإزالة عبوسك، لتلج بعدها عالم القصيدة.
وعندما تروم تبيّن عناصر القصة تجدها مسجلة حضورها بفضائها الزمكاني (الزماني والمكاني) وبشخوصها وأحداثها وحبكاتها، وانفراجاتها، لكنك تشعر بضيق كلما عشت الشخصية، لما اظهرته عنان من حرص على تصوير المشاهد كما لو كنت فيها، وعند تتبع الصور والاستعارات تجد أن لعقارب الساعة – عند عنان – أنيابا، وللنسيان – في عملها الأدبي – سراديب، ويبدو للذكريات رماد، وللانتظار مرافئ، وللفراش دفء، ولصوت كعب الحذاء النسائي غواية، وتجد أن ثمة داء اسمه الذكريات، وثمة حزنا في عيني الليل، وثمة جفونا تحتضن، وثمة أنيميا للحب، وستتأكد وأنت تطالع العمل الأدبي من عمق رؤى عنان في أن المرأة تحب بمقدار ما تكره، وأن الحياة تعني أن تبدأ مشوار أمل آخر وكأن شيئا لم يكن، وأن الجمال قد يكون نقمة أحيانا، وستعرف كيف يتحول غور الربيع حلما شاحبا.
وأنت تخطو خطواتك الأولى في عالم ” أغدا ألقاك” ستجد نفسك أمام عتبات تمهد دخولك ميدان العمل الأدبي من نوافذه، فصوت ” ريشيلو ” يحضر وهو يقول: ” لا يغفو قلب الأب إلا بعد أن تغفو جميع القلوب” و” غاندي” ينهض ليهمس: ” الرجل، ما هو إلا نتاج أفكاره، بما يفكر يصبح عليه ” ثم يبوح ” ساعة الغضب ليس لها عقارب”، ويقف (أمبروسبيرس) منتصبا قائلا: ” المصائب نوعان: حظ عاثر يصيبنا، وحظ حسن يصيب الآخرين” ويردد درويش: ” لا استطيع الذهاب إليك، ولا استطيع الرجوع إلي “، ويقول ” ألبرت اينشتاين”: ” المنطق يأخذك من أ إلى ب، والخيال يأخذك الى كل مكان”، أما عنان فتمهد بقولها: ” يوما ما .. كان الواقع قصة خيالية “.
ويتأكد مع هذا العمل ما ذهبت إليه جوليا كريستيفا حول تشرب النصوص وتشكل لوحات فسيفسائية داخل النص الواحد نتيجة التناص مع نصوص أخرى، فتحضر الآية الكريمة ” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا”، ثم تحضر كلمات الهادي آدم ” أغدا ألقاك”، لكن الأنثى هناك وإن كانت تسمعها بألحان محمد عبد الوهاب وصوت أم كلثوم كانت تلحنها بلحن خاص يتولى قلبها وتتولى معه أحاسيسها تلحينها وهي تنتظر قدوم غائبها كحلم جميل وكوقع الرذاذ على النوافذ، غير أنها لم تكن تدري أن القدر ينتظره عند الحد الفاصل بين خطاه وقلبها، ثم يحضر التناص مع راقصة بحيرة البجع، للموسيقي الروسي تشايكوفسكي، وتأخذنا عنان في هذا كله إلى مناخات متصوّرة تمنح نصوصها مزيدا من العمق والتوسع الدلالي والتصوري.
لقد أصرت عنان – وبقصدية واضحة فيما يبدو – على أن تمنح شخوصها صفة التعميم دون تخصيصها بأسماء محددة، لأن عنان تؤمن – في أعماقها – أن قصصها هذه تنسحب على كثير من ” نساء الأرض وذكورها ورجالها”، وهو ما يتأكد للقارئ عندما يمعن النظر في أحداث هذه القصص والنوافذ، التي جاءت بها عنان لنطل من خلالها على واقع أليم وألم واقع، بخطاب أنيق على المستوى الحكائي السردي متسلسل أبدعت في توظيف الاستباق والاسترجاع فيه فضلا عن المونولوج، بصورة تقترب كثيرا من أقصى طاقات معجم عنان اللغوي.
” أغدا ألقاك” تساؤل يستجلب الحلم من غيابة جب الواقع ويستنطق الحياة من فم حياة برسم الموت، وتظل ” النوافذ” التي استولت على النسيج الخطابي في البنى السردية كلها تقريبا، شموع أمل متوقدة ” في انتظار غودو”، ويظل العمل الأدبي هذا برمّته إجابة قلقة عن تساؤلات ضمنية حائرة تشبه تساؤلات الرسام الفرنسي غوغان في لوحته ” من أين جئنا؟ من نحن؟ وإلى أين نسير؟”.
إن الولوج إلى عالم العمل الأدبي هذا، إنما يشبه اختلاس النظر من نافذة مبللة بقطرات المطر نحو أعماق الإنسان، أنثى ورجلا، وإن ظلت ” الأنوثة المهدورة” – بفعل ذاتي أو فعل الآخر – الثيمة المسيطرة على العمل، وهو أمر لا يحتسب على عنان بمقدار ما يحتسب لها، ذلك أنها عطّرت المساحة بعطر الأنثى، وهل يستسلم رجل لشيء كما يستسلم لعطر أنثى؟!. ولعل اختلاس النظر هذا يدخل القارئ في نوافذ خمسة تتصدر العمل الأدبي، ليحاول الخروج منها فلا يتمكن حتى يدخل في سمّ خياط القصص السبعة التي تليها، مأسورا بكلمات مفتاحية يمكن استنطاق هذا العمل للخروج بها منه، وتتمثل في مجملها في انتهازية مقيتة، وأنوثة مهدورة، ورحمة منزوعة، ومحبة ساكنة، وخيانة مزدوجة، وولادة عسيرة، ووفاة صامتة، وحياة بلا حياة، مارست فيها كلها عنان فعل إغراء القارئ بالقراءة، ليستجلي خفايا البيوت والمشاعر والأسرّة، فمنذ أن يخترق القارئ حرمة النافذة الأولى سيتألم لألم رجل فضل الموت على موت برسم الحياة في دار مسنين، وعندما يراقب المشهد من النافذة الثانية سيعي قسوة التلاعب بالمشاعر وتقليب النساء كما لو كانت صفحات في كتاب قال عنه نزار قباني ذات يوم ” ليس هناك امرأة تغتصب اغتصاب، هل من الممكن أن تقرأ في كتاب، إن لم يكن مفتوحا أمامك الكتاب” وعندما تنظر من النافذة الثالثة يتأكد لك كم تسامح الأنثى على الرغم مما يعتريها من ألم لغياب حبيب أخلصت له، وعندما تختلس النظر إلى النافذة الرابعة تكتشف كم هي الحياة قاسية تلك التي تدفع أنثى لتعتاش من جسدها بعد أن استشهد زوجها، وعندما تروم الإطلال على النافذة الخامسة تدرك أن الأنثى الطيبة اللينة الدافئة قد تتحول – مع برود الطرف الآخر وهجرانه – ماسة قاسية تمارس الصد عقب الاحتواء والرفض بعد القبول.
وفي رحلتك مع القصة الأولى يتأكد لك هزيمة الحب وانتصار الحرب، وعندما تصطحبك القصة الثانية واضعة ذراعيك تحت إبطيها تكتشف كم للمال من سلطة حتى على المشاعر أو الروابط، وتكتشف مأساة الورود والأزهار في القصة الثالثة ونحن نغتالها باسم الحب وبذريعة الهدايا، وكأنك بعنان تلمح إلى اقتطاف زهرات الإناث من أغصانهن بفعل عبث العابثين، والموت خير من حياة مع جاحد كما تفهم من الرابعة، وبساطة أحلامنا لا تشفع لها في الخامسة عندما ينتزع حلم أنثى بحفلة عيد ميلاد، وترى الخيانة المزدوجة في القصة السادسة ففي الوقت الذي كان يخون فيه زوجته كانت تخون، وفي السابعة تكتشف أن حلما جميلا يتحقق كفيل بإزالة عبوسك، لتلج بعدها عالم القصيدة.
وعندما تروم تبيّن عناصر القصة تجدها مسجلة حضورها بفضائها الزمكاني (الزماني والمكاني) وبشخوصها وأحداثها وحبكاتها، وانفراجاتها، لكنك تشعر بضيق كلما عشت الشخصية، لما اظهرته عنان من حرص على تصوير المشاهد كما لو كنت فيها، وعند تتبع الصور والاستعارات تجد أن لعقارب الساعة – عند عنان – أنيابا، وللنسيان – في عملها الأدبي – سراديب، ويبدو للذكريات رماد، وللانتظار مرافئ، وللفراش دفء، ولصوت كعب الحذاء النسائي غواية، وتجد أن ثمة داء اسمه الذكريات، وثمة حزنا في عيني الليل، وثمة جفونا تحتضن، وثمة أنيميا للحب، وستتأكد وأنت تطالع العمل الأدبي من عمق رؤى عنان في أن المرأة تحب بمقدار ما تكره، وأن الحياة تعني أن تبدأ مشوار أمل آخر وكأن شيئا لم يكن، وأن الجمال قد يكون نقمة أحيانا، وستعرف كيف يتحول غور الربيع حلما شاحبا.
وأنت تخطو خطواتك الأولى في عالم ” أغدا ألقاك” ستجد نفسك أمام عتبات تمهد دخولك ميدان العمل الأدبي من نوافذه، فصوت ” ريشيلو ” يحضر وهو يقول: ” لا يغفو قلب الأب إلا بعد أن تغفو جميع القلوب” و” غاندي” ينهض ليهمس: ” الرجل، ما هو إلا نتاج أفكاره، بما يفكر يصبح عليه ” ثم يبوح ” ساعة الغضب ليس لها عقارب”، ويقف (أمبروسبيرس) منتصبا قائلا: ” المصائب نوعان: حظ عاثر يصيبنا، وحظ حسن يصيب الآخرين” ويردد درويش: ” لا استطيع الذهاب إليك، ولا استطيع الرجوع إلي “، ويقول ” ألبرت اينشتاين”: ” المنطق يأخذك من أ إلى ب، والخيال يأخذك الى كل مكان”، أما عنان فتمهد بقولها: ” يوما ما .. كان الواقع قصة خيالية “.
ويتأكد مع هذا العمل ما ذهبت إليه جوليا كريستيفا حول تشرب النصوص وتشكل لوحات فسيفسائية داخل النص الواحد نتيجة التناص مع نصوص أخرى، فتحضر الآية الكريمة ” وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا”، ثم تحضر كلمات الهادي آدم ” أغدا ألقاك”، لكن الأنثى هناك وإن كانت تسمعها بألحان محمد عبد الوهاب وصوت أم كلثوم كانت تلحنها بلحن خاص يتولى قلبها وتتولى معه أحاسيسها تلحينها وهي تنتظر قدوم غائبها كحلم جميل وكوقع الرذاذ على النوافذ، غير أنها لم تكن تدري أن القدر ينتظره عند الحد الفاصل بين خطاه وقلبها، ثم يحضر التناص مع راقصة بحيرة البجع، للموسيقي الروسي تشايكوفسكي، وتأخذنا عنان في هذا كله إلى مناخات متصوّرة تمنح نصوصها مزيدا من العمق والتوسع الدلالي والتصوري.
لقد أصرت عنان – وبقصدية واضحة فيما يبدو – على أن تمنح شخوصها صفة التعميم دون تخصيصها بأسماء محددة، لأن عنان تؤمن – في أعماقها – أن قصصها هذه تنسحب على كثير من ” نساء الأرض وذكورها ورجالها”، وهو ما يتأكد للقارئ عندما يمعن النظر في أحداث هذه القصص والنوافذ، التي جاءت بها عنان لنطل من خلالها على واقع أليم وألم واقع، بخطاب أنيق على المستوى الحكائي السردي متسلسل أبدعت في توظيف الاستباق والاسترجاع فيه فضلا عن المونولوج، بصورة تقترب كثيرا من أقصى طاقات معجم عنان اللغوي.
” أغدا ألقاك” تساؤل يستجلب الحلم من غيابة جب الواقع ويستنطق الحياة من فم حياة برسم الموت، وتظل ” النوافذ” التي استولت على النسيج الخطابي في البنى السردية كلها تقريبا، شموع أمل متوقدة ” في انتظار غودو”، ويظل العمل الأدبي هذا برمّته إجابة قلقة عن تساؤلات ضمنية حائرة تشبه تساؤلات الرسام الفرنسي غوغان في لوحته ” من أين جئنا؟ من نحن؟ وإلى أين نسير؟”.
رائد العمري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.