الصفحات

صمت أبو سعيد | وليد.ع.العايش

عصافير الدوري مازالت بلا ريش ، تنتظر قدوم مولود المساء لتحتفل مع أشعة الشمس الهاربة ، يومها كان المطر يغازل تلك السمراء بغنج ، يلفها بذراعيه المتعبتين ( هل يتعب المطر ) ... تساءلت دون جواب ، لم أكن قد بلغت السابعة من رشدي ، وكان حينها أبو سعيد يرافقني الرحلة التي بدأت للتو ، الدرب إلى المدرسة بعيدة ، الوحل يملأ الأفق الشاسع ، شجيرات أم زهير لم تنج منا ، نملأ جيوبنا بحبات التين أو المشمش ثم نفر كما تلك
العصافير الخائفة من رعد الشتاء ، في كل مرة تلاحقنا بعصاها ، لكن سنها لا يمكنها أن تلحق بنا ، هكذا تمضي الأيام ، شجرة الكينا الكبيرة سنا وطولا تطل علينا ، ربما كانت تبتسم مما نفعل ، الحذاء البلاستيكي ( المبخوش ) يترك الماء يتغلغل إلى أقدامنا الصغيرة ، إنه البرد ، ولكن قهقهة تطل من بعيد تجعلنا ننسى الإحساس به ، حتى حرارة الصيف لم تكن قادرة على الولوج إلى أحداقنا ، هكذا تمضي الأيام ، لتمسي سنينا ذات عيون ، افترقنا يوم سافرت في بداية سن المراهقة ، لكن ذكريات أبو سعيد سافرت معي ، لم تفارقني في رحلتي الطويلة الأنياب ، عندما أسدل الليل جلبابه معلنا أنه قرر النوم ، كنت أطرق باب أبو سعيد ، تغيرت الملامح ، أصبح لديه أولاد ثلاثة ، الشيب وصفه يومها بأنه مجرد عبث ...
_ لم تتخل عن فصولك يا أبا سعيد ...
_ يا صاحبي ، قل لي هل تغيرت أنت ؟ ...
صمت يومها أمام كلماته التي انهالت على رأسي كما كان المطر ينهمر علينا في طريقنا المعتاد إلى المدرسة ...
_ كيف سرقت البيض من ( القن ) لأمك ، أتذكر ذاك السوط الجلدي ، ربما مازالت علاماته على ظهرك ...
قالها واتجه برأسه صوب السماء مقهقها بضحكته التي حافظت على براءتها ...
_ يالك من ولد عاق ، كم من مرة سرقت القروش من بقجة أمك ... هل نسيت ...
_ أيام يا صاحبي ، كيف مضت ، أتصدق ( كأنني اليوم في حلم ) النسيان لا يفيد ولن يفسد ورود تلك الليالي ...
في بداية العقد الرابع كان يجب على أبي سعيد زيارة الطبيب ، قررت مرافقته كما كان يرافقني في مثل تلك الظروف ...
_ ليتني لم أرافقه ، ليتني لم أر الطبيب ذي الوشاح الأبيض ، بل ليتني كنت بدلا عنه في تلك اللحظات ...
هكذا كنت أحدث نفسي ، انهمرت الدموع في غفلة مني ، حاولت إمساك الخيوط ، لكنها فرت من بين يدي ، كما تفر عروس في ليلة زفافها ، لكن أبو سعيد كان يكشف عن ضحكته المعتادة ...
_ لا تخش يا صاحبي ، فنحن لم نخلق كي نبقى ...
احتضنته كما طفل صغير ، تحولت الضحكة إلى شريان يبكي بقسوة ، امتزجت الدموع لتنسج لوحة غريبة رأيت ظلالها مربوطة بحافة السماء ، تغير كل شيء ، أم زهير غادرت الحياة ، غالبية أشجار المشمش والتين أمست سرابا ، ذاك الحذاء البلاستيكي انتقل إلى عالم آخر ، صبيحة يوم ملأه الغبار ، كان جرس الهاتف يدق بقسوة ( لن أرد عليك أيها اللعين ) ... رميت به في حاوية الغرفة ، من بعيد سمعت صوتا ينادي علي : ( يا صاحبي لم نخلق كي نبقى ) ... سكت حينها ، وربما صمت شخص ما ...
...............
وليد.ع.العايش 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.