الصفحات

البالوعة | صفيّة قم بن عبد الجليل

ـ سيدي! أرجوك فلستُ ممّن تظنّ! أمهلني... قُدني إلى بيتي... تعرفْ هويّتي... أرجوك... أرجو...
تلعثمت وماتت الكلمات في جوفها... صاح في وجهها: "من عساك تكونين؟! متسكّعة دون بطاقة تعريف في مثل هذه السّاعة المتأخّرة من اللّيل... هذا إن لم تكوني من بنات الهوى المبتذلات! هيّا، انهضي ووفّري عليّ وعلى نفسك وجع الرّأس... انهضي، كدنا نصل!
ـ إلى أين تقودني؟! بربِّك... أرجوك... إنّني سيّدة محترمة... لها شأنها... إنّني أبعد النّاس عن الفضائح، فَلِمَ تفعل بي هذا الصّنيع؟! أرجوك... أرجوك... أطلق سراحي وغدا آتيكَ ببطاقة تعريفي لتعرف حقيقة أمري وإنّي لك من الشّاكرين!
ـ أيّ غباء! غدا! غدا! أطلق سراحك! لا، والله، أهذه دعابة سمجة؟! لا... لا... لا... انهضي وإلّا...

تحاملت على نفسها ونهضت ودموعها تنزف... سارت أمامه، زادُها قهرٌ وغبن وامتهان وخضوع!
مشت كسيرة ذليلة... أيّ ليلة غبراء قاتمة هذه الّتي غادرت فيها بيتها وهي الّتي أضحت أخت أيّوب بل كتلة صمّاء من الصّبر! أيّ شيطان مارد هذا الّذي رمى بها بين براثن هذا الوحش الآدميّ! أيّ نحس أصابها وهي التي يعتبرها القاصي والدّاني في صدارة المحظوظين الذين أغدق الله عليهم ألوانا من النجاحات!
لطالما آمنت أمُّها بأنّ عينا شرّيرة بل عيونا حاقدة تحسدها على عديد النّعم الّتي ترفل فيها! وكثيرا ما نصحتها بأن تشتري " أمّ البوية "ـ الحرباء ـ و"الفاسخ والفاسوخ " وتخلطها مع "الوشق والدّاد والجاوي" وتبخّر بها جميعا البيت ـ دوما ـ حتّى تُذهب عنها عيون الحسّاد الذين كلّما رشقوها بنظرة حاقدة نغّصوا طيب عيشها وقلبوا مسرّاتها جحيما وتدانيها تنائيا...
" مسكينة أنتِ يا أمّي بل هنيئا لكِ! ما أبسط علاجك لأعصى المشاكل وأعتاها! الخلافات الزوجيّة الحادّة مردّها عندك حسد الحسّاد وعلاجها جاوي ووشق وداد! والعِلل المزمنة مرجعها عين شرّيرة تزول بالرّقية والتّعاويذ! والفشل في الأعمال والخسارة في الأموال و... مردّها حنق الكاشحين وعدم رضاهم عمّا جقّقناه من نجاح!"
لطالما حاولتُ إقناعك ـ عبثا ـ بأنّ لكلّ ظاهرة مسبّبا وأنّ المرء مسؤول عن أعماله ونتائجِ ما قدّمت يداه! وكنتِ دوما تجادلين وبأغلظ الأيمان تُقسمين على أنّ العين حقّ، دليلك في ذلك حدسُك وتجربتكِ وما رواه لكِ أبوك الشيخ الزيتونيّ الجليل من سِيَر الأوّلين والآخرين!
آه! لو لم أطعك منذ الوهلة الأولى لما وصلتُ إلى ما أنا عليه الآن! سامحكِ الله! حبُّكِ للسّتر طغى على كلّ الاعتبارات الأخرى... " كوني بئرا عميقة لا يُدرك غورَها أحدٌ... اسقي مَنْ حولكِ ماء زلالا وخبّئي حَمَأَكِ في جوفك! تلك هي سمات المرأة العاقلة النّاجحة... لا تتركي أحدا يشمت بك... صوني عرضك وبيتك وعائلتك بالكتمان... ابلعي بنيّتي... ابلعي... ابلعي... ابلعي..."
عملتُ بنصائحكِ حتّى أمسيتُ بالوعة، بالوعة كبيرة، عميقة الغور، ضمّت إليها كلّ القاذورات البشريّة والنزوات المجنونة: أنانيّة بلا حدود واستغلال فاحش على كلّ المستويات وإهمال حدّ نسف الوجود واحتكار كلّ الحقوق وتحلّل من كلّ الواجبات وإلجام اللّسان وتكريس العبوديّة في أبشع صورها وهيمنة السيّد في أرذل مظاهرها... تقنّع وتزييف وتجديف...
كنتُ دائما، عملا بنصائحكِ الثّمينة أبتلِع غيظي وألمي وسخطي وحنقي وأدكّ ثورتي وندمي وأسحق كبريائي وأَنَفَتي وأرجم عقلي وأتَغابى وأتنازل وأضحّي... وأعمل جاهدة على أن تتّسع البالوعة أكثر فأكثر، لتخفي كلّ القذارات الممكنة وغير الممكنة بل المتوقّعة! وكنتُ، كلّما اكتظّت البالوعة بما حوت وجاشت بشتّى التّفاعلات أخمدتُ جاهدة أوارها وأخرستُ حفيف تجشّئها وعطّرتُ المكان بأطيب ريح حتّى لا يتضوّع إلّا أريج الندّ والنسرين والعنبر... وبمرور الزّمن ودُربتي، صار الامتصاص والابتلاع عادة بل فنّا أُتْقِنُهُ وأتفانى في ابتداع شتّى أساليبه وأدواته...
"عشرون عاما ونيف وأنتِ تبتلعين وتبتلعين وتبتلعين ... ولا تجرئين حتّى على التّقيّء رغم الغصّة والمغص والاختناق وعُسْر الهضم ـ خوفا وخشية ـ بل إنّكِ لَتُنَظِّرين ـ رغم أنفكِ ـ لأحدث طرائق الابتلاع وأيسرها حتّى صِرْتِ رائدةً بلا منازع!
الفضل، كلّ الفضل لأبيكِ الّذي ما زال صوتُه الغليظ الأجشُّ يلاحقكِ أينما حللْتِ: " الزّواج ستر وعافية، من الآن حتّى اللّحد... لا أريد مشاكل ولا بقاء لكِ بعد الزواج في بيتي... زوجكِ هو المسؤول عنكِ... أطيعيه كلّ الطّاعة، طاعة عمياء ولا تعصي له أمرا... رِضائي عنكِ مشروط بهناء زوجكِ... ولْتَكُنْ لكِ في أمِّكِ أُسْوة حسنة: إنّها ما أغضبتني يوما وما رفضت لي أمرا... "
تراءت لها صورة أُمّها مستكينة خاضعة راضية وأبوها يزمجر ويصيح لسبب ولغير سبب كأسد ضار فقد رشده، يأمرها بأمر ثمّ لا يلبث أن ينهاها عنه، كأنّه يختبر مدى طاعتها وتحمّلها! وقفزت إليها صورة أخيها الأكبر وهو يصيح ويتوعّد ويسبّ ويشتم أختها الكبرى، لأنّه عاد إلى البيت ولمّا يجهز الطّعام! وكانت وأمّها تهرولان في غيرما اتّجاه وتتوسّلان إليه أن اصبر قليلا فالطّعام سيكون جاهزا ولا ريب وتعتذران إليه عن هذا التّأخّر الّذي مردّه غياب القوّامين على البيت دون اقتناء لوازم الطّهي!
أفاقت على صوت العون وهو ينهرها ثالثة أو رابعة... أو عاشرة! كانت تسيرُ أمامه بلا وعي، تدوس شريطا طويلا ممِلّا من الذّكريات المرّة وتطوي مراحله طيَّ مَنْ يريد أن يتخلّص من أدرانه إلى الأبد ومهما كان الثّمن!
كم سنة، تركها زوجها ـ الّذي أحبّته على قدر كرهها له اليومَ ـ وحيدة تعتني بستّة أطفال تنظيفا وتمريضا وتدريسا وترفيها، وهو في مكتبه أو جالس أمام التّلفاز يترشّف قهوته أو يحتسي شايه أو يطالع جريدته أو يحادثُ إخوته وأصدقاءه!
كم سنة من العمر قضّتها تطهو وتغسل وتكوي وترتّب وتنضّد البيتَ والحديقة وهو بالمقهى يُجالس الرّفاق ويتبادل الطّرائف والنّكات ويُدخّن النرجيلة... ولا تحظى هي حتّى بكلمة استحسان تشدّ أزرها وتبدّد كربها !
كم يوم من عمرها القصير، تعطّرت وتزيّنت وتأنّقت له، فلم تحظ بغير النّقد والتجريح والاعتراف الصّريح برداءة ذوقها وقبح منظرها وبلادة مخبرها!
كم من شتاء قارس ضروس، احتضنت فيه وحدتها وتوسّدت خيبتها وتطهّرت بدموع صمتها ووجعها!
كم من ربيع دافئ جميل، قضّته بين قضبان بيتها، ترعى أبناءها وبيتها والسّندبادُ يجوب البلاد وخارجها، يكتشف الدّنيا ومعالمها، قرير العين، مطمئنّ الفؤاد! أوَ لم يترك بيتا عامرا وزوجة خدوما بلا أدنى حرج؟! ....

 صفيّة قم بن عبد الجليل.
ـ من نصّ: "البالوعة " من مجموعي السابع الذي سينشر قريباـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.