الصفحات

أسفل الجسر_ قصة قصيرة | عبدالله مهداوي - المغرب

جال بعينيه الذابلتين في المكان.. أكياس بلاستيكية سوداء متناثرة هنا وهناك إلى جانب أطفال غطوا في رحلة نوم عميقة هاربين من شعور خانق.. الروائح الكريهة تزكم الأنوف.. أخذ مكانه الخاص كالعادة إلى جانب السارية العريضة ، وقبل أن يمد يده إلى جيبه نظر إلى الأعلى...هذا الجسر دائما يحول بينه وبين السماء وشمسها الدافئة وأولئك العابرون لا يناله منهم إلا ضجيج سياراتهم وما يلقون به من أزبال تتناثر على ضفة النهر ، فتزيد من قذارة المكان..لا أحد منهم يأبه لحاله وحال هؤلاء الذين يبيتون إلى جانبه في العراء.. هم مجرد أوساخ وقادورات ابتلي
بهم المجتمع .. تذكر كيف ركله بالأمس أحدهم وهو يطرده من أمام باب دكانه، كاد أن يسقط على الرصيف لولا امرأة مسنة أمسكت به وهي تستغفر الله وتنظر إلى صاحب الدكان في استغراب ، ثم أخرجت من محفظتها قطعا نقدية ناولته إياها وكأنما تواسيه..
تنهد تنهيدة عميقة وهو يردد في نفسه أن لولا الحاجة للزم أسفل الجسر ، لكن من أين له بالقوت ولوازم الهروب من هذا الواقع الذي وجد فيه نفسه منذ وفاة والده وتزوج أمه من رجل بذل كل جهده ليرمي به في الشارع . تذكر كم مرة تعرض للاغتصاب ، وأياما قضاها بلا طعام ، وليالي ممطرة لم يذق فيها طعم النوم من شدة الخوف والبرد.. كان هو الآخر يأمل في حضن دافئ وأسرة تأويه وبذله نقية ومحفظة جميلة ومقعد في المدرسة إلى جانب أطفال الدرب الذي عاش فيه زمنا .. لكن..
التقط كيسا قديما من الأرض ، نفضه من الغبار ، ثم أخرج من جيبه أنبوبة غِرَاء أفرغها فيه. نفخ في الكيس نفخا كأنما يصب حسرته داخله. وقبل أن يغمس أنفه فيه نظر إلى الأعلى من جديد .. أخذ نفسا عميقا أول ثم ثانيا.. عاود النظر إلى الأعلى وواصل النفخ في الكيس واستنشاقه.. بدأت عضلاته في الارتخاء شيئا فشيئا إلى أن صار غير قادر على النفخ والإمساك بالكيس.. حاول النهوض، خارت قواه. أمسك بطرف السارية فانزلقت يده ووقع على الأرض.. حاول فتح عينيه، كان الظلام يحيطهما .. ارتخت شفتاه وسال لعابه قبل أن ينطلق في رحلة نوم عميقة إلى جانب الأجساد الأخرى هروبا من شعور خانق.
وفي الضفة الاخرى من النهر جانب السارية المقابلة اسفل الجسر نهض طفل آخر، جال بعينيه الذابلتين في المكان كأنما يحاول اكتشافه من جديد، وقبل أن يمد يده إلى جيبه نظر إلى الأعلى فاغرورقت عيناه بالدموع .. التقط هو الأخر كيسا ، نفضه ، أفرغ انبوبة الغِرَاء بداخله، ثم نفخ فيه نفخا كأنما يصب حسرته داخله، ودون أن يعاود النظر إلى الأعلى دفن كل وجهه في الكيس...

عبدالله مهداوي
 المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.