الصفحات

الصمت | د كريمة نور عيساوي

فتح المذياع على صوت فيروز وهي تصدح بأعلى صوتها: حبيتك في الصيف، حبيتك في الشتي، نظر إليها، وقد استوت في الكرسي بجانبه، وهي في كامل زينتها المعتادة، وقد فاحت رائحة عطرها الباريزي، وأضفت على المكان رونقا خاصا. وقف في أول إشارة حمراء، نظر إليها محاولا أن يتفرس ملامحها، وكأنه يراها لأول مرة. كانت تتملكه لهفة شديدة لا تقاوم لرسم هذه الصورة الجميلة في مخيلته، وطبعها في ذاكرته. لم تنبس ببنت شفة، كانت تعيش في عالم آخر ، لم يستطع أن يغوص في عينيها العسليتين اللتين تشوبهما دمعة خفية، فقد كانت كالعادة ترتدي نظارتها الشمسية، والتي طالما طلب منها مستجديا ألا تضعها عندما يكون برفقتها،
كانت تجلس، كما عهدها، واضعة يدا فوق يد، وقدم ممدودة للأمام بعنفوان، والأخرى منطوية عليها. لم يتغير فيها أي شيء، سوى هذا الصمت المطبق الذي أصبح يخنقه في الفترة الأخيرة. رجع بذاكرته للوراء، ورآها منذ عشرين سنة مرحة، كثيرة الحركة، لا تمر دقيقة دون أن تتحدث بتلقائية، أن تضحك، أن تبتسم ملء فمها، أن تغني، أو أن تطبع قبلة دافئة على جبينه، محاولة شد انتباهه إليها. كانت في حركة دائمة، تُلون المكان بلون مزاجها الخاص، وتراقص الفضاء بنكهتها التي تجعل النهار يشدو فرحا لفرحها. كم كانت الحياة جميلة. كل شيء أصبح صامتا حتى عينيها يلفهما الغموض، وشفتاها مرهمتان بالجفاء. أصبحت أرضا يبابا بعدما كانت دائمة العطاء في حالة الفرح وفي حالة الحزن. تساءل في استغراب: ما سر هذا التحول؟ استفاق على صوت منبه السيارات المزعج. انطلق بسيارته، كانت فيروز قد انتهت للتو من أغنيتها. وبدأت نشرة الأخبار . أغلق المذياع، ونظر إليها، وهي واجمة كمومياء من عهد الفراعنة، حبيبتي لا بد أن نتحدث، لا بد أن نخرج من حالة الوجوم هذه، صمتك يخنقني، يكتم أنفاسي، يصيبني بالجنون. لم يكن يعلم أن ردة فعله العنيفة لها في ذلك اليوم المشؤوم حينما أمرها بالصمت أنها ستوصلها إلى هذه الحالة. حملقت فيه مقبلة على استئناف الحديث، انفرجت أساريره فرحا. أخيرا سنفتح باب النقاش والحوار. وكالعادة سأفحمها، وأرسم قبلة على خدها المتورد وترجع المياه إلى مجاريها. ردت بصوتها الشجي المعهود، والذي تحس بوخز في قلبك إذا ما كانت مجروحة: سأنزل عند الإشارة المقبلة، وصمتت من جديد. رد متعجبا: ألن أوصلك إلى العمل اليوم؟ فأجابت: أنا لا أعمل اليوم. عندي زيارة للطبيب. أي طبيب؟ خير عزيزتي. هل يؤلمك شيء؟ منذ أزيد من ثلاثة أشهر، وأنت صامتة، حاولت مرارا أن أبحث عن السبب. لم أجد مبررا ينتشلني من الحيرة التي أغرق فيها دون أمل في النجاة. لم أعد أستطيع الاستمرار في هذا التعب الذي أرهقني كثيرا . ردت وهي تهم بالنزول: فما بالك بمن عاش هذا الإرهاق وهذا التعب لمدة عشرين سنة، لنا لقاء في المساء لنضع النقط على الحروف. تفرس في ملامحها، وهي تنزل من السيارة مسرعة ليكتشف أنها جميلة جدا، وأنها تمتلك قواما رائعا. لأول مرة في حياته ينتبه لخصلات شعرها، وهي تراقص بعبث رياح الخريف الذي جاء قبل موعده. لأول مرة يرها وهي تمشي على استحياء. إنه يراها من الخارج. يراها وهي تنفلت من بين يديه؟ رآها كحلم يتبدد في السماء. ظل ينتظر أن تلتف كالعادة ملوحة بيديها، وطابعة في الهواء ابتسامتها المعتادة. لم تلتفت. انطلقت كالسهم وغابت تماما عن عينيه الساهمتين. تساءل مستنكرا: هل ملت من صمتي أم أنها اختارت العيش في كنفه؟ هل إلى هذا الحد كنت عبئا ثقيلا عليها؟ تسارعت دقات قلبه، وأحس بوخز شديد. لماذا الآن بعد أن تعودت على ضحكها وضجيجها وصخبها....

* كريمة نور عيساوي
دكتوراة في علم مقارنة الأديان
أديبة مغربية



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.