الصفحات

ضياع_ قصة قصيرة | د.سوزان اسماعيل ــ سورية - اللاذقية

قصة قصيرة للنقد:
منْ أينَ أبدأُ حكايتي؟. هلْ منذُ لحظةِ مجيئي إلى هذا العالمِ حيثُ تمَّْتْ ولادتي على يدِ القابلةِ آمنة التي بشَّرَتْ أبي (مبارك .. بنت مثل القمر) فولّى وجهَهُ وهو كظيمٌ، فقدْ كانَ يتمنّى بكرَهُ صبيًّا يحملُ اسمَ والدِهِ . أمّا أمّي المسكينة فقدْ استقبلتني بدموعِ الانكسارِ والخيبةِ لعدمِ تحقيقِها حلمَ الزّوجِ .
أو منْ طفولتي المعذّبةِ.. فالاهتمامُ والدّلالُ لأخي ، فبعدَ أقلِّ من
ْعامٍ أقيمَتْ الأهازيجُ و الأفراحُ لمولدِهِ. أمّا منْ مراهقتي الشقيّةِ التي بدأتْ مبكّرًا، فبعدَ أيّامٍ قليلةٍ منْ دخولي سنتي الثانيةِ عشرة حتّى بدأَتْ مظاهرُ النّضوجِ والأنوثةِ تلفُّ جسدي، فأصيبَ والدي برهبةِ الخوفِ والعارِ، لمْ يلبثْ أنْ حوَّلَها لفرحٍ بتزويجي منْ قريبٍ لهُ يكبرُني بعشرينَ عامًا، كانَ العريسُ مقتدرًا وأصبحَ أبًا حنونًا وذو شأنٍ، لمْ أحملْ لهُ سوى مشاعرَ الرَّهبةِ والخوفِ، فكنْتُ زوجةً مطيعةً محبةً لأولادِها، أمّا الليلُ فكنْتُ معَهُ في خصامٍ دائمٍ، فطقوسُه تضغطُ على صدري وتثيرُ اشمئزازي... لمْ أتصالحْ معَهُ إلّا عندَ رحيلِ أبو الأولادِ.
أو أبدأُ منْ شيخوختي!!!.
سأسردُ قصَّتي منَ النّهايةِ..
صدري يعلو ويهبطُ .. بصعوبةٍ أستجدي الهواءَ، سريري هو الشّاهدُ الوحيدُ على تألّمِ جسدي، ووسادتي تعفَّنَتْ منْ دموعٍ لاتنتهي، وحيدةٌ قابعةٌ في بيتي.. كلّما نظرْتُ إلى الحائطِ أستحضرُ الذّكرياتِ، فصورُ أولادي ثابتةٌ منْذَ سنينَ طويلةٍ، هاجروا بفعلِ الحرب،ِ لمْ أشأْ أنْ أترُكَ حبيبي الذي كانَ يعيش مع زوجتِهِ الأولى وأولادِهِ أيضًا.
شاءَتْ الأقدارُ أنْ ألتقيهِ في مكتبهِ فقدْ كانَ محامي العائلةِ، يقومُ بمعاملاتِ حصرِ الإرثِ وتوزيعِ التّركاتِ، كانَ طويلَ القامةِ قمحيَّ اللّونِ، تسلّلَ البياضُ إلى خصلاتِ شعرِهِ فزادَتْه وقارًا وجمالًا، عيناهُ تتّقدانِ ذكاءً ترسلُ نظراتٌ أسرَتْني وأحيَتْ روحًا ذبُلَتْ وجسدًا محمومًا ومحرومًا.
تكرَّرَتْ اللّقاءاتُ بحجّةٍ أو بغيرِها، لمْ أطيقْ البعادَ عنْه، أنساني كلُّ ماحولي.. تزوّجنا.. صالحَني مع الحياةِ ومع نفسي.. تولَّهْتُ عشقًا.. وتدلَّلْتُ على الأيّامِ، كانَ يقولُ:
- لنْ أتركَكِ أبدًا... سأبقى معكِ لآخرِ يومٍ منْ عمري.
- لاتخشَيْ شيئًا.. أنا سندُك وحبيبُك.
لمْ ألتفتْ لغيابِ الأولادِ .. لمْ أكترِثْ لمشاعرِ الغضبِ والألمِ الذي كانَ يسكنُهم... عندما قرَروا الرّحيلَ، ورغِبوا بأنْ أرافقَهم، سألني ابني البكرُ: نحن .. أمْ هو!.
اخترتُه خوفًا على سنينَ عمري التي تنقصُ رويدًا رويدًا، وعلى مشاعرِ حبٍّ لأوّلِ مرّةٍ أعيشُها ولنْ تتكرَّرَ، وعلى عمرٍ قضيتُه بقلبٍ خاوٍ، وخشيتُ منْ وحدةٍ تلوحُ في نهايةِ حياتي.
قاطعوني؛ ابتعدوا؛ تركوني أتألَّمُ خفيةً، لكنَّهُ كانَ يجفِّفُ دموعي بيدٍ حانيةٍ.
- لاتهتمّي أنا معكِ.
لمْ ألبثْ سنينَ قليلةٍ، هنيهةٌ من عمرِ الزّمنِ، أقطفُ لحظاتِ السّعادةِ وثمارَ خيارِ العشقِ. بعدئذ وجدْتُ نفسي في صراعٍ مع زوجةٍ مجروحةٍ وأولادٍ لمْ يتوانَوا في استعادةِ أبٍ هاربٍ.
خيَّرْتُه.. فاختارَ!.
وهاانا ذا أتدثَّرُ بدوامةٍ النّدمِ، وألملمُ أطرافَ خيبتي .
بصعوبةٍ كبيرةٍ تصلُ يدي إلى الدّواءِ، تعثَّرْتُ وسقطَ، تشبثْتُ بالفراشِ خوفًا من سقوطي أيضًا.. ارتعشَ جسدي عندما لامسَتْني يدُ لمْ أنسَ عطرَها، نظرْتُ إلى وجهِهِ..ابني الكبيرُ حضنَني بعينيهِ الواسعتينِ ودفَّأَني بدمعتِه الحانيةِ.
- لن نتخلّى عنكِ.. أبدًا بعدَ الآن.
ابتسمْتُ له، وسألْتُ نفسي: هلْ يسعفُني الزَّمنُ!؟.
ضغطْتُ على يدِهِ بيدي المتجمّدَةِ، وشهقْتُ.

د.سوزان اسماعيل
سورية - اللاذقية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.