الصفحات

الروائي الفلسطيني حسن حميد

الروائي حسن حميد أديب فلسطيني تنحدر أصوله من قرية كراد البقارة قضاء صفد، ولد في دمشق عام 1956, يحمل إجازة في اللغة العربية من جامعة دمشق، ودبلوم دراسات عليا في رياض الأطفال، وماجستير في التربية،عمل مدرسا وا شتغل في الصحافة الأدبية، وهو الآن رئيس تحرير الأسبوع الأدبي صحيفة التحاد الكتاب العرب في سوريا."لمزيد من المعلومات راجع مقالة الشاعر احمد دحبور حول مجموعة الكاتب القصصية" حمر الكلام" في مجلة رؤية الشهرية عدد" 28- أذار- 2004"،


 صدرت له إحدى عشرة مجموعة قصصية وثلاث دراسات .

كما صدرت له خمس روايات هي:-

1. السواد آو الخروج من البقارة.

2. تعالي نطير أوراق الخريف.

3. جسر بنات يعقوب.

4. الوناس عطية.

5. أنين القصب.

6. النهر... بقمصان الشتاء التي نحن بصددها.

وهذه الرواية أي "النهر... بقمصان الشتاء" هي العمل الوحيد الذي ينشر للكاتب في فلسطين، و يبدو أنها تشكل ثلاثية مع رواية جسر بنات يعقوب وأنين القصب.

وهذا ما تؤكده مقالة الدكتور عبد المالك مرتاض المنشورة في صحيفة الرياض السعودية في 3-3-2005 حول دراسته عن رواية "أنين القصب" هذا العمل الروائي ثنائية تكمل إحداها الأخرى، وقد اعتمد الدكتور مرتاض على عدة أمور لاثبات هذه الثنائية، وهي موجودة أيضا في الرواية الثالثة التي نحن بصددها، مما يؤكد أنها ثلايثة متكاملة ومن هذه الأمور:-

"هذا الكتاب فيه مجموعة كتب، وصل الي بالتوارث عن ثلاثة عشر جدا من أجدادي" ص7 من رواية جسر بنات يعقوب،

" هذا الكتاب من كتب لافضل لي فيه، ولا يد، كتب أشبه بالسير الذاتية لاناس عاشوا الأحداث و عاينوها" ص17 من رواية أنين القصب.

وما ورد في أنين القصب" هر ما استهل به الكاتب رواية " النهر... بقمصان الشتاء" استهلالا حرفيا،

ومع اننا لم نقرأ الروايتين الاولى والثانية هنا في فلسطين لأنهما لم تصلا الى وطننا الجريح الا أن هذا الاستهلال موجود في الرواية الثالثة التي نحن بصددها."

كما استشهد الدكتور مرتاض بامور اخرى في الروايتين الأوليتين اللتين لم نقرأهما وهي موجودة في روايتنا هذه ومنها:-

راهبات الدير تظاهرن بملابس الرجال، وهروب حنا من الدير خوفا من الغواية.

الدير والرهبان وقرية الشماصنة.

الاحداث تدور في سوق الخالصة، وفي القرى المجاورة لها.

استعمال الحواشي والتذيـيلات.

سرد بعض الحكايات عن امور مثل، نزاء الثيران، وخصيها، وشم الفتيات، مبارزات الديكة، ، الحاوي وملاعبة الافاعي، وهي امور موجودة جمعيها في الرواية الثالثة، وهذا ما يؤكد ان الكاتب اي كاتب قد يبقي يحوم حول عمله الاول يأخذ منه، يزيد عليه او ينتقص منه، وكأنه يكتب جزءا من سيرته الذاتية، او من سيرة من احاطوا به، ومن اولى من الفلسطنيين خصوصا اللاجئين منهم من ان يعتمدوا على الذاكرة المحكية ليكتبوا عن وطن سلب منهم، وليؤكدوا باستمرار هويتهم التي يحاول كثيرون تغيـيبها، وحقهم في وطنهم الذي يحاول كثيرون ايضا سلبهم حتى مجرد الحلم به.



لقد اعتمد الكاتب على الذاكرة الفردية والجماعية لاناس عاشوا في هذا الوطن كبقية الشعوب التي تعيش في اوطانها، ولكنهم اجبروا على الرحيل عنه ليبقوا يحترقون بنار الشوق الى هذا الوطن الذي يعيش جزء منهم ومن بينهم الكاتب على مرمى النظر اليه، دون ان يتمكنوا من دخوله، او التمشي حتى في مدن وقرى ومزارع قد يكون بعضهم ولد فيها وترعرع.

والقارئ للرواية يجد ان الكاتب ركز على ان فلسطين هي ارض الديانات السماوية، ارض التعددية الحضارية، لذا فان الاحداث تدور في الدير وفي المسجد، للشيخ دور فيها، وللراهب والراهبة وقد، تعرض كلا اتباع الديانتين الى نفس الصراع والى نفس الاخطار ، وتبادلوا الحب نفسه، وتـقاسموا شظف العيش، ويلاحظ ان احداث الرواية كانت في أ واخر العهد العثماني، وزمن الانتداب البريطاني، وفي النكبة الاولى لم يرحم الغزاة ايا من الطرفين اللذين هما ابناء شعب واحد، هذا الشعب الذي قاوم الانجليز بمسلميه ومسيحيه.

وهكذا جاءا استهلال الكاتب لروايته في الصحفتين 11 و 12 ليلخص لنا مضمون الرواية كاملا، لذا فان روايته كما جاء صفحة 11 ا شبه بالسيرة الذاتية لقرى، ومدن، وازمان، وراوة ورهبان وراهبات، ورجال دين، وعصاة، وغرباء، ونساء حالمات وثكالى يتحدثون عن ازمنة اصطبغت بالهجر، والاذى، والخوف، والدماء، وعن امكنه صارت عناوين للفجائع والاحزان العميقة. والكاتب حسن حميد الذي ولد خارج فلسطين اعتمد في روايته هذه وفي ثلاثيته على الرواية الشفوية التي بحث عنها طويلا، لذا فهو يقول كتب وصلت الي بعد بحث طويل، وتعب ازلي ، وخوف ابدي من ان تكون قد تفرقت ايدي سبأ، طاردت اصحابها، وبحثت عنهم ، فجعت بموت الكثيرين، واغتراب الكثيرين ايضا، واحتراق ما دونوه، او خراب ذواكرهم، ولم انجح الا قليلا ، لكن القليل كان كثيرا.صفحة(11)




زمن الرواية : يمتد زمن الرواية من اواخر العصر العثماني ، عبر مرحلة الانتداب البريطاني ، والنكبة الكبرى التي حلت بالشعب الفلسطيني في العام 1948، وقيام دولة اسرائيل ، واجبار مئات الاف الفلسطينيين على ترك بلادهم، واللجوء الى الدول المجاورة، والتشتت في مختلف اصقاع الارض، ثم قيام حرب عام 1967 وما كان لها من نتائج، حيث وقع ما تبقى من فلسطين واراضي عربية اخرى تحت الاحتلال الاسرائيلي .

ومع ان الكاتب وصف واجاد الوصف ، الا انه من بعد الصفحة 250 ، أي الفترة التي اعقبت النكبة الكبرى مر عليها مرا سريعا ، ولم يعطها حقها كما اعطى الفترات السابقة لها .

حلم العودة :

انتهت الرواية بوصية كعدي بن شتيوي لاطفاله بان يدفنوه بجانب والديه قرب دمشق عندما يموت " وان ياخذوه ووالديه … معهم .. ان عادوا الى الشماصنة " ص 290 .

وانتهت الرواية بتذييل اخير : " مند ذلك الحين ، واولاد كعدي يحسون بان اجراسا تطوق اعناقهم ، تقرع في آذانهم ووصية تقول لهم : متى سيكسرون بلاط القبر .. ليعودوا بالعظام .. الى الشماصنة .

أي ان القضية تـنتـقل من جبل لجيل ، وان من مات خارج الوطن لاجئا فان رفاته لن يعرف الراحة الا بالعودة الى احضان الوطن

محمد موسى سويلم قال:

بدأ الراوي بنشر الغسيل على الحيطان من حكايات للاديرة وقصص الرهبان والهبات التي تقدم للاديرة والكنائس ، ثم انتقل ليدق باب الحب والعشق والهيام والغزل ووصف الاحبة واللقاء والعناق، وكأن الرواية الفلسطينية قد افلست من روايات الابطال الجرحى والشهداء والثوار ولم يبق سوى روايات العشق والحب والضم الى الصدور ووصف المفاتن … ترى هل هناك المزيد؟ .

حب وعشق ومدت النهاية المحزنة ترى اين الروحانية والعبادة والصلاة والخشوع والرياضة الدينية والتفكر والخدمات الانسانية والاجتماعية؟ ام على قلوب اقفالها الغيبة والنميمة والغيرة والحسد والخوف والقهر والحيرة والعذاب … الخ، مصطلحات بثـتها الرواية، قاموس واسع من المعاني، ترى ما يعني هذا في حياة الدير والمسجد في ارض لا اظنها ارتوت من دماء الابطال .

ثم بدأ الراوي في رحلة قدر لها ان تضع النقاط على الحروف... في رحلة قدر لها ان تكون معاصرة في القلوب والوجدان والاقلام، وان تكون مادة خصبة في تاريخ الامم والدين وعنوانا للشعراء والموسيقيين وصناع القرار .

كتبت الرواية بدم اناس لم يغيبهم التقاليد والعادات التي ما انزل الله بها من سلطان، مثل الوشم وزيادة الاوليات والدعاة للخصب واضاءة الشموع في النهار وكثيرا من تلك العادات ، الا ان تلك العادات لم تكن عائقا امام الوعي بهموم الوطن والمواطنة ورفع الظلم عن البلاد والعباد والتضحية بالمال والولد والنفس .

دقت الرواية بابا من ابواب التخاذل العربي في قضية الدفعاع عن قدس الاقداس، وعن ارض داسها الانبياء وفتحت بابا واسعا من التعاون العالمي بكل قوته في زرع ورعاية الافكار الصهيونية على تلك الارض، وقدمت من اجل هذا الزرع كل الوسائل لتمكينه من العيش والزرع في هذه الارض، وقامت بخلع كل ما يمكن ان يعيق هذا الزرع بحجج واهية .

ثم وصفت الرواية بابا لن يغلق باذن الله الا وهو باب الوحدة التي عجزت كل انظمة الارض في زعزعتها او النيل منها، وهي وحدة الشعب الفلسطيني مسيحيين ومسلمين، والتعاون الوثيق بين المسجد والكنيسة في رفع المعاناة عن الاهالي في فترة عز فيها العطاء، وفي اشد حلكة للظلام ، وحدة ستبقى الى ما شاء الله .



الرواية واحة من واحات مليئة بسرد الذكريات حلوها ومرها، جمعت بين عادات ومعتقدات من الوعي واللاوعي ، الامل والحب والحنان الغربةة والشتات والضياع، سير من حياة اناس عاشوا من اجل البقاء في علام مليء بالكره والغضب ، سرد في اهات العذاب ، تذكرني الرواية حين كنت اصل الى الحاشية او التذييل بقصص امي حين كانت تقول فتكم بالحكي او برجع خرافنا او نسيت ، احكيلكم …

في نظري ابدع الراوي في رسم لوحة زيتية للواقع الفلسطيني لمرحلة ما قبل الشتات، ثم عاد ليرسم لوحة في خضم الشتات نفسه، وزينها بلوحة ما بعد الشتات ترى من يرسم لوحة العودة والشتات؟ .


عزام ابو السعود قال :

اذا كانت " حواديث " وقصص المدينة والقرية الفلسطينية ، تـتـناقلها الالسن جيلا بعد جيل ، واذا كانت هذه القصص تشكل جزءا من تاريخنا الشفوي ، فان تدوين هذه القصص وتدوين التاريخ الشفوي هو عمل قومي علينا ان نحرص على القيام به ، حتى لا يضيع كما ضاعت الارض ، وكما تكاد تضيع القضية .

لقد استمتعت في الاسبوع الماضي بقراء رواية " النهر... بقمصان الشتات " للكاتب الفلسطيني حسن حميد ، والحقيقة انها لم تكن رواية واحدة ، وانما هي سلسة روايات من حكايات اجدادنا وابائنا واهل بلدنا ، ادخلها كاتب حاذق ، وبتسلسل متناسق في عمل روائي واحد ، وضع له حواشي وهوامش، تربط القصص ببعضها، وتـفسـر الاحداث ، وتتمم القصة الشعبية لتدمجها في الرواية بشكل ممتع وغير مسبوق في كتابة الرواية بشكلها التقليدي ، لتدخلها ضمن اطار زمني يحكي احداثا تاريخية مرت بها القضية الفلسطينية ، منذ نهاية الحكم العثماني ، فالانتداب البريطاني ، فالثورات الفلسطينية ، والنكبة والنكسة ، تحكي الهجرة والاغتراب ، تحكي قصص الدير والجامع ، تصور الهجرة اليهودية وبناء المستوطنات الاولى للمهاجرين اليهود ، تصور المذابح التي اقترفت بحق شعبنا ، تصور الحب والحياة والموت ، تصف عاداتنا وتقاليدنا .

وان كان شتيوي ودندي هملا بطلا الرواية الرئيسيين المتيمين بالحب ، واللذين شاعت قصة حبهما العذري حتى لاكتها الالسن ، فلم اعرف الا في نهاية القصة ، ما إذا كان شتيوي مسيحيا ام مسلما، فقد عشت من خلال الرواية في جو فلسطيني بحت ، يشير الى التوافق والتفاهم والتلاحم الاسلامي المسيحي ، لان الرواية انتقلت بنا بين الدير والجامع ، بين الراهب عطايا والشيخ المصباحي ، نقلتنا من سوق " الخالصة " التي هدمت واقيمت مكانها كريات شمونه ، الى قرية الشماصنة ، الى جسر بنات يعقوب وقرية نعران في الجولان ، مرورا ببنت جبيل في لبنان ، وبوسطن في امريكا ، ومناطق في اقصى شمال فلسطين ، نتعرف على الحياة بها قبل النكبة ، وقبل النكسة من خلال تسلسل العمل الروائي.

لقد دون حسن حميد في هذا العمل ، جزءا هاما من تاريخنا الشفوي ، وأخذه كما يقول ممن بقي على الحياة من الرواة، وتعب كثيرا حتى جمعة ، وحزن كثيرا لأنه وجد بعض الرواة قد غادروا هذه الحياة ، لكنه وثق لنا في النهاية رواية تاريخية لاحداث تمت في الثلثين الاولين من القرن الماضي ، وفي منطقة لم يكتب الكثير عنها ، ووصف لنا كثيرا من الاماكن ، واكثرها تم تدميرة واصبح أثرا بعد عين ، وصف لنا حياة القرية ، ووصف ما يتم في حمام النساء ، في اليوم المخصص لهن بالقرية ، بصورة جميلة واقعية غير مسبوقة ، ووضع جميع ذلك امامنا بشكل روائي مشوق ، لقصة حب تكاد تضاهي قصصنا القديمة كعنترة وعبلة ، وقيس وليلى ، وباسلوب يستحوذ على القاريء ويشده فيجعله لايترك الكتاب حتى يصل الى اخره.

لم استمتع بالقراءة منذ مده طويلة كما استمتعت بهذا الكتاب ، واعترف ان هذا اول عمل اقرأه لحسن حميد رغم ان له قرابة العشرين عملا قصصيا او روائيا او بحث.

خليل سموم قال:ـ

• رواية شيقة ، رائعة ، محزنة، واقعية ، مستقاة من صميم تاريخ فلسطين وشعبها ، عشية بداية الانتداب البريطاني ، وتشريد معظم ابناء الشعب الفلسطيني عن ارضه ووطنه عام 1948 وما قبله .

• انها عرض ادبي لجزء من تاريخ شعب ، يبين من خلاله الكاتب بكل وضوح وبساطة الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الفترة .

اخطاء مطبعية

* بلغ عدد الاخطاء الطبيعية "26" خطأ ، فهي كما يلي :

1. اخطاء في مكان وجود الشدة على حروف الكلمات .

2. اخطاء في اغلاق الاقواس بعد الانتهاء من الكلام ، حيث عكست اتجاهات الاقواس .

3. وضع شده لا لزوم لها على حرف الكلمة.

4. اخطاء في كتابة كلمات مثل : صفحة 170 " غربا" والصحيح غرباء .

5. نسيان كتابة كلمة : صفحه 283 " حتى اصيب بخيبة امل " اذ يجد شيئا " والصحيح لم يجد شيئا .




ملاحظات عامة

1. حجم الكتاب مناسب والورق جيد، والكلمات واضح، ولون الغلاف مريح للنظر، وصورة الغلاف معبرة، حيث انها مأخوذة من صميم الرائع، وهي منظر لمدينة فلسطينية تقوم شرطة الانتداب البريطاني فيها بتفريق مظاهرة لفلسطين ولكن كان الافضل وضع شرح عن الصورة في بداية الكتاب.

2. عنوان الكتاب فيه غموض، وقد حاولت جهدي ان افهم المقصود بالعنوان لكنني لم انجح في ذلك.

3. عناوين الكتاب القرية ممتازة وسهلة وتتلاءم مه الممنوع.

4. جاء في نهاية الكتاب قائمة باسماء الكتب التي اصدرها المؤلف وهذا شيء جيد ولكن، لماذا لم يكن هناك موجز تعريف بالكاتب؟ .

5. الرواية يفهمها بسهولة كل قارئ عربي فلسطيني. ووصف الاحداث و الاشخاص و الاماكن فيها ممتازة . وقد اكثر الكاتب من استعمال التشابيه البسيطة والواضحة والجميلة والتي تجاوز عددها المئة تشبيه وهذا مما زاد في توضيح المعاني.

6. الحوار في الرواية توفر بقدر جيد و هو سهل ومفهوم.

7. لقد وصف الكاتب بالتفصيل كثيرا من العادات والتقاليد الشعبية الفلسطينية وكان رائعا في وصفه. وكذلك عدد الكاتب كثيرا من المميزات الطبيعية التي كانت تتصف بها بلادنا قبل انتدابها من قبل الانجليز.

8. لقد احتوتت الرواية و صفا لحوادث مهمة من تاريخ الشعب العربي الفلسطيني، وهذا مما يزيد معلومات القارئ، منها ما جرى لقرية العباسية من مجزرة و نسف بيوت على اصحابها، حوادث استشهاد الشيخ المصباحي ووفاته، و الشيخ عز الدين القسام ، وعبد القادر الحسيني، تهجير سكان قرية الشماصنة الى سوريا، حادثة استشهاد شتيوي ودفنه في سوريا بجانب زوجته دندي.

9. وقد احتوت الرواية ايضا على مجموعة من قصص الحب معظمها حب فاشل: دعموش و ربيحة، عطايا وهيلانة، هيلانة ورباح، نجوم ومثقال، فتحية ونديم, و اخيرا قصة الحب العظيم المؤلم بين شتيوي ود ندي, والتي شغلت حيزا كبيرا من الرواية.

10. المتكلمون في الرواية هم: غطاس, الكاتب نفسه, الراهب غطاس, الشيخ المصباحي, وشتيوي. و كان نصيب الأسد في الكلام للراهب عطاياوشتيوي.

11. لقد بين الكاتب في الرواية كيف ان رجال الدين المسيحيين والمسلمين في القرية التي جرت فيها احداث الرواية الرئيسية لم يقتصر دورهم في تلك الفترة من تاريخ الشعب العربي الفلسطيني على الصلاة والوعظ والقاء الخطب فقط، لكنهم شاركوا بكل جرأة و تضحية في مقاومة الاحتلال.

12. جاء في الرواية ذكر لبعض القرى مثل: الخالصة والعباسية وقد فتـشـت عليها في بعض الخرائط والكتب فوجدتها ولكن ومما يؤسف له فان قرى تقع بجوارالقرى المذكورة ، مثل : الشماسنة ، والعفيلة ، والمرج ، والصاحلية ، والناعمة ، فلم اجدها في الخرائط والكتب المتوفرة لديّ، وهي : موسوعة فلسطين الجغرافية لفلسطين والقرية العربية الفلسطينية لشكري عراف، والمواقع الجغرافية في فلسطين لقسطندي نقولا ، وموسوعة بلادنا فلسطين لمصطفى مراد الدباغ ، والموسوعة الفلسطينية ، وخارطة فلسطين قبل عام 1917 لخليل التفكجي ، والصادرة عن جمعية الدراسات العربية في القدس .

13. واخيرا ، لقد بدأ الكاتب روايته بوصف احداث جميلة من واقع المجتمع الفلسطيني ، وأنهاها بوصف احداث مؤلمة لاحوال الشعب الفلسطيني، وهذا ما حصل بالفعل لفلسطين وشعبها .

محمود عبد النبي قال :

جاءت البداية في هذا الكتاب متواضعة بالاستهلال ، وبالقراءة للكتاب لاحظت فيه وصفا كثيرا والكاتب يجيد الوصف ، العبارات متسلسلة ومترابطة واقصد بالوصف الكثير الاطالة كوصفه للسوق وما فيها، والوقائع التي تحدث فيها، وكذلك اطالة وصف الحمام ونشاطاته ، ولم افهم أمورا معينة بالكتاب وشعرت انها ملصقة بصفحاته كالهامش ، والحاشية والتذييل .

عبر الكتاب عن حقبة زمنية معينة، فجاء فيها الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية انذاك ، كما جاء فيه عملية سياسية اجتماعية بالتقاء المصالح، ولكنها على المستوى الفكري البسيط لدى المجتمع في ذلك الوقت، ومثال ذلك الثور والبقرة ص 14حيث بعد انتهاء المهمة ياخذ هذا من ذاك القمح والشعير والذرة الصفراء ، وص 15 تاسرنا بعادات وتقاليد قد اضمحلت بمرور الزمن كطقس الحناء للفتاة.

ومما جذب انتباهي بعض الجمل والمواقف كتخفي الراهبات بزي الرهبان حتى لا يطمع بهن طامع ص 64 ، اذن هو ليس بشيء جديد لنا في عصرنا ، يبدو ان الناس او الشعب يتشبثون بالتفاهات والافات ليورثوها الى خلفهم ، للاسف الشديد هذه ظاهرة لا زالت تعيش في كينونتنا واصحابها يكثرون في قطاع الشباب ذوو الطاقات الكلامية الرثة اللامتناهية .

وبنقلة الى الحب والذي جاء على اشكال مختلفة من المآسي كان سببا وراء التحاق الاشخاص بالاديرة .

وشعرت في بعض الاحيان بالافتقار لتفاصيل او عملية تسريع للاحداث مثل عودة ربيحة وموت نعيمة وامها وام دندي ، وايضا زواج دندي في جملة واحدة ص 175 ، لم يكن لامؤثرات ولا دلائل يستدركها القارئ ، او يستطيع التنبؤ بها ، كما وشعرت بان الرواية هي كمثل رواية بعضها متصل كوجه حب شتوي ودندني والبعض الاخر ياتي مباغتا لمنطق التسلسل كحادثة العباسية ص 151 والحمام ، واحسست بان الرواية رواية شتوي ودندي، وان هناك فقرات رغم اهميتها لاتشدني وقد تكون اهم من قصة شتيوي ودندي كالعباسية، واقتحام اليهود لها والثوار وغير ذل، الا ان التوجيه بالكتاب كان منحازا لقصة من الحب العنيف .

واخيرا، نرى ان كل الاحداث خرجت ودخلت من والى الدير، وكان الدير ملاذا للناس وخلاصا للبعض وهروبا للآخر، اما عن عنوان الرواية فلم افهم العلاقة بين العنوان وفحوى الرواية .

موسى ابو دويح قال :

لا ادري لمذا اختار الكاتب هذا الاسم " النهر... بقمصان الشتاء " لرواية ، حيث ان جميع العناوين التي في الرواية ، خلت من هذا العنوان ، وجاءت العناوين فيها حسب الترتيب التالي: استهلال ، في سوق الخالصة ، ربيحة ، الراهب عطايا، شتيوي ودندي ، ليالي القمر ، خطة دندي ، الشيخ المصباحي ، الرحيل الى المريكا ، العباسية ، الحمام ، زواج دندي من غير شتيوي ، الخوف في الدير ، العودة من امريكا، زواج دندي وشتيوي، رحيل الشيخ المصباحي ، شتيوي الملاك ، دروب الحزن ، الدير مرة اخرى ، الخروج من الشماصنة ، على الطرف الشرقي من النهر ، الاخرس شامان ، موت شتيوي .

فالرواية كما يقول مؤلفها أ شبه ما تكون سيرة ذاتية لأناس عاشوا الاحداث ، او هي وصف لما كان عليه اهل فلسطين ، وشمالي فلسطين بالذات ، مسلمين ونصارى، في الفترة الواقعة بين 1930و1970 تقريبا ، في حياتهم من جميع نواحيها، المعيشية والاجتماعية والعاطفية والنضالية ، وما لاقاه الشعب الفلسطيني في تلك الفترة من قتل وتشريد وشقاء وعذاب ، وشظف العيش وقسوة الحياة .

ولقد ركز الكاتب على الشخوص والامكنة تركيزا ظاهرا، فجاءت الشخصيات في الرواية حية واضحة ، يراها القارئ تتحرك امامه كانه يشاهد فيلما على الشاشة، وابرز الشخصيات شتيوي ودندي والراهب عطايا والشيخ المصباحي ، واما الامكنة فهي في شمالي فلسطين بعد صفد وقرية من الحدود اللبنانية ، والنهر اي نهر الاردن وطبريا والجولان وبنت جبيل في لبنان وغيرها كثير .

ولقد تناول الكاتب في روايته اعمال الثوار الفلسطينيين في الثلاثينات والاربعينات ، وحرب 1948 واحتلال اليهود لجزء من فلسطين ، ومساعدة الانجليز لليهود وتمكينهم من اقامة دولة اسرائيل، وتناول ايضا نكسة 1967، وما كان فيها من تشريد ، ولكنه اقل من التشريد في نكبة 1948 ، ووفق الكاتب في اظهار العلاقة بين المسلمين والنصارى ، وهي علاقة تقوم على اساس العيش المشترك بينهما، حيث راينا ان الدير كان يستعمل ملاذا امنا للثوار ، ومخزنا حصينا لسلاحهم ، وهذا يدل على ان نصارى الشرق ، عاشوا مع المسلمين في امان ، ولقد اكتسبوا من المسلمين – نتيجة العيش الطويل كثيرا من تقاليدهم وعاداتهم ، فهم يدافعون عن شرفهم وعرضهم دفاع المستميت ، فهذا سمعان النصراني والد دندي يفلح على شتيوي اي يقرنه مع البغلة، ويحرث عليه لمجرد انه هام بابنته دندي ، وهو يعلم ان حب شتيوي لدندي حب عذري عفيف طاهر شريف ، وما ذلك الا لان الاسلام رسخ في النفوس ان المرأة عرض يجب ان يصان ويحافظ عليه ، ولا يجوز ان يمس ابدا ولو بحب عفيف طاهر .

وجاء السرد في الرواية خاليا من كل تزمت ديني ، سواء كان التزمت من النصارى او من المسلمين ، فانت لا تكاد تعرف الشخص المسلم في الرواية الا من خلال بعض الاشارات التي تاتي خلال السرد عرضا ، فانا ما عرفت ان شتيوي مسلم الا من ابريق الوضوء في اخر الرواية ، وقبل موته بقليل ، وليس هناك في الرواية ما يدل على ان دندي نصرانية ، لولا علاقة ابيها سمعان مع الراهب عطايا، ومشاورته له .

فالعيش في الرواية بين المسلمين والنصارى عيش طبيعي ، لا بغض فيه ولا كراهية ، فهذا سمعان والد دندي ، لم يقل للراهب عطايا ان شتيوي مسلم لاحق له في زواج ابنتي دندي ، وهذا الراهب عطايا لا يستنكر زواج دندي من شتيوي المسلم ، بل ويرغب فيه ويشجع عليه ويباركه كما باركه الشيخ المصباحي عند حصوله بعد العودة من امريكا .

واخيرا كاتب الرواية حسن حميد ملم بالنصرانية وطقوسها اكثر من المامه بالاحكام الشرعية الاسلامية ، وهذا ما يظهر واضحا في روايته .



سمير الجندي قال :

بدأ الكاتب روايته باسلوب قصصي شبيه بالقصص الشعبية ، حيث بدأ روايته في وصف دقيق للسوق ، فلم يترك شاردة ولا واردة ، الا وتناولها بتجسيد حقيقي ، واقعي ، فصور لنا زوايا السوق ، وما تحتويه ، واسلوب تعامل الناس في تلك السوق ، كما نقل لنا بعض الصور عن عادات كانت سائدة في تلك الفترة مثل وشم البنات ، مستخدما لغة قوية ، جزلة ، متكئا على الصور البلاغية ذات الدلالات العميقة مثل " امشي فتمشي معي الدكاكين الخشبية ، والتنكية ، والحجرية ، كما تمشي الاشجار ايضا . وكان يتحدث تارة بضمير الغائب وفي نفس اللهجة ينتقل لضمير المتكلم " الالتفات " بقدرة تـنم عن دراية جيدة في استعمال اللغة، وقد اطنب الكاتب في اكثر من محل مما افاد الهدف القصصي افادة عظيمة.

احداث الرواية :

جاءت متراكمة متميزة تعج بالحركة والانفتاح مما جعلها مشوقة ، تشد القارئ من البداية حتى النهاية، تارة تكون الحبكة فيها مفككة وتارة متماسكة ، فقد قصد الكاتب ان تكون الحبكة مفككة حيث ان الاحداث متعددة ومختلفة، فهو ينتـقل من حدث الى الاخر الى فكرة الى لفتة او تعليق، وهذا يشير الى التدفق والعفوية لدى الكاتب .

لكنه في اجزاء اخرى من الرواية اعتمد على الحبكة المتماسكة التي تـندرج فيها الاحداث ، لبنة لبنة ، في شكل مخطط ومبرر له .

الشخصيات :

كانت شخصيات الرواية متعددة وكثيرة، ومنها الشخصيات النامية المتطورة مثل شتيوي الذي استطاع ان ينتصر على المكان والزمان اكثر من مرة ، فقد تحول من انسان ريفي يعيش بقرية " الشماصنة " التي لا يعرفها الا اهلها او القرى القريبة منها استطاع ان يسافر اول مرة الى بنت جبيلفي لبنان، ويغيب في العمل مدة سنة ليجمع ثمن أ ساور الفضة لمحبوبته لا لشيء الا لانه راي في الحلم انه يقدم لها تلك الاساور، وعاد بعد ان حقق هدفه، وفي المرة الثانية تحدى والد محبوبته المتغطرس بعد طلبه المطلب الاعجازي بان يقدم مهرا لدندي عبارة عن جرة مليئة بالذهب ، الا انه وافق على هذا الطلب وسافر الى بنت جبيل وعمل بجد ونشاط وواجه كل الصعاب والاحزان بوفا من احبهم واحبوه في تلك القرية وسافر مع ( فتحية ) الى امريكا وقضى فيها سنوات طويلة،رجع بعدها الى الشماصنة ليجد والده قد توفي ووالدته ايضا والراهب عطايا وتغيرت البلاد واصبح هناك اناس غرباء يسألونه عن وجهته ويفتشون امتعته في مدخل القرية .. ولكنه عاد ومعه الذهب الى محبوبته التي وجدها قد تزوجت وطلقت اثـناء غيابه، وقد خلفت ابنة ( زينة ) ولكنه يتزوجها ويعيش معها هي وابنتها، وينجب منها ولدا يسميه باسم ابيه.

ومن الشخصيات النامية الراهب عطايا الذي يترك اسرته الغنية ليعيش في الدير بعيدا عن حياة والديه رغم الجاه والترف، لانه غير راض عن سلوك والده ووالدته، فهو لا يريد ان يرى والده يقوم بقتل والدته امام عينيه بسبب سلوكها الشائن مع شخص غريب . ولكنه عندما يعيش بالدير يصبح رسولا للسلام والمحبة وناصحا ومرشدا لاهل القرية، وبعدها مناضلا معاونا للثوار ومتعاونا ايضا مع الشيخ المصباحي امام المسجد بانيا معه تعاونا مشرفا بين الدير والمسجد لتحقيق هدف واحد وهو مقاومة المحتلين ومعاونة الثوار، وهناك شخصيات مسطحة مثل مثقال قاطع الطريق الذي لم يتغير حتى يقضي نحبه ووالد دندني ووالد شتيوي ووالدته ووالدتها .

البيئة المكانية والزمانية :

امتدت البيئة المكانية وتنوعت بين الدير والمسجد والقرية وبنت جبيل والميناء والباخرة وامريكا .

فالدير بيئة حددها الكاتب في أنها ملاذ للمعذبين والهاربين، فالذين توجهوا إلى الدير لم يكن توجههم بسبب الأيمان، وانما لانهم لهم قضايا ما تلاحقهم مثل الراهب عطايا ورشيد وفريحة، فقد نجح الكاتب في توظيف المكان بصورة مبدعة معبرة عن أهمية المكان بالنسبة للانسان فكان ملاذهم في كل وقت ، صورة القرية وهدوؤها وحياتها الريفية في البداية وكيف تدرج في الأحداث حتى وصل ما وصلت اليه الحالة من بؤس وشقاء بعد ان حضر الإنجليز ومعهم اليهود، ففجروا قرى كاملة مثل " العباسية " وطردوا سكان القرى بالإرهاب والقتل والدمار، فصار الموت في كل مكان والأمن اصبح مفقودا .

البيئة الزمانية :

امتد الزمان في الرواية منذ اواخر العصر العثماني، وذلك عندما ا شار الى العملة التي استعملت في ذلك الحين ص 81 ( البارة ) وهي عملة عثمانية، ثم تدرج الزمن حتى وصل الى 1948 مرورا بالاستعمار الانجليزي الذي جلب اليهود وقدم لهم كل التسهيلات من سلاح وارض وتدريب، في الوقت الذي كان يلاحق اهل البلاد والثائرين على انهم قطاع طرق، لقد قام الكاتب بتصوير الفترات الزمنية بكل اقتدار وبتسلسل فائق النجاح اتسم بالتشويق والاثارة والعاطفة .

استخدم الكاتب الفعل الماضي كثيرا خاصة في الفصول الاخيرة من الرواية، وان دل ذلك على شيء فانه يدل على عاطفة الكاتب الجياشة مع كل حرف من حروف الرواية .

قصص للكاب

هدهدة



رآها للمرة الأولى، في ذلك المساء الفضي، حائمةً مثل حمامة أمام محلات الألبسة المضاءة. تنتقل من محل إلى آخر بتمهل، وحضور، ودهشةٍ. بدتْ كما لو أن زينة المحلات مربوطة بها أو معلقة عليها.
أحسَّ، وقد راقبها طويلاً، كما لو أنها تترك نثاراً جميلاً من الرقة واللطف فوق الأرصفة التي راحت تلين وتتلوى بهدوء تحت قدميه، وهو يتعقبها كالمشدوه.
أيقن، وبعد أن رآها تبادله النظر، أنها تعنيه تماماً، وأنها ـ بجسدها البديع ـ جديرة بأن تكون موضوع لوحته القادمة. تأكد، في لحظة واحدة، وقد رآها تركز نظرها عليه، أنها عرفت فيه ذلك الفنان الموهوب الغامض، فامتلأت نفسه بمشاعر هفهافة حلقت به حتى لكأنه راح يشعر بأنه ينزلق فوق الأرصفة، بين الناس ككرة صغيرة من الزجاج!!
مشتْ طويلاً، ووقفتْ طويلاً، وهي تتباهى بخطوتها القصيرة الواثقة، وبالتفاتاتها الرهيفة الحانية. كانت تلمس برؤوس أصابعها الطويلة أطرافَ أوراق النباتات والشجيرات المصطفة بمحاذاة الرصيف، فيلمس هو عليها كالممسوس.
شعر، وقد دنا منها أكثر مما يجب، أنه يشمُّ شذا شعرها القصير المتراقص فوق رقبتها البيضاء الطويلة، وأن أرنبة أنفه المحمرة من برودة المساء الخريفي الهادئ، قد لامست طرف قرطها الماسي اللامع القريب منه، فانتشى، وصفق قلبه بفرح قلما عرفه من قبل، وتأكد بالملامسة، أن في صدره قلباً لهوفاً يدِّقٌّ لها!
اقتنع أو كاد بأنه راق لها، فواصل التحويم حولها. كان وإياها يتنفسان هواءً مشتركاً، ويمشيان على رغبة واحدة مقسومة إلى نصفين، وهما يدوران في الشوارع العريضة والضيقة. كانا كمن يرتّب كلُّ منهما روحه للقيا، والمساهرة، واللحظات الحميمية.
ولم يدر أيٌّ منهما لماذا، وكيف، ومتى.. بدأ رذاذ المطر الخفيف يلفُّ كل شيء من حولهما. أحسّا، وكأنهما يعيشان مشاهد سينمائية مشتهاة بعدما راح الناس يستعجلون الخُطا متفرقين ذاهبين إلى بيوتهم، وبعدما صارت أصوات إغلاق أبواب المحلات ضجيجاً يعلن عن انتهاء يوم من أيام المشاهدة، والبيع والشراء.
بدا الاثنان، وفي لحظة مفارقة عجيبة، وحيدين فوق رصيف لامع ضيق، لا هو يمضي فتمضي، ولا هي تستدير فيعود. في تلك اللحظة، تبادلا النظرات الحيية الرقيقة مواجهة. وهمتْ هي متقدمة نحوه بخطوة واحدة، وتقدم هو نحوها بخطوات كثيرة. كانت تشدُّ واحدهما للآخر ابتسامة خجول ونظرات يقظى خائفة، ودونما استمهال، أخذ كفها طيَّ كفه وهزّها، فاهتزت الروحان، وشاع الدفء بينهما، وراحتْ هي تحكي له عن المدينة ووحدتها، والبرودة التي تلفّها دائماً. وراح هو يراقبها بإمعان وحذر وخوف كي لا ينكسر اللقاء. كانت أقدامهما راقصة، والرصيف دافئاً مستسلماً لوقع خطاهما الطرية، وقد تماشيا كفّاً بكفٍّ كمن إئتلفا منذ أمد بعيد.
ودَّ هو، وقد رأى النباتاتِ والأشجارَ فرحةً، لو يأخذها إلى قلبه في ضمة واحدة. وودت هي، وقد أحسّتْ بدفء أصابعه لو تذوب فيه. وشردا معاً، وكلُّ واحد منهما يحلم بالدهشة القادمة.
كانا وحيدين مع المطر، وقد انشغلت الدنيا كلُّها عنهما، ينسُلان الخُطا، والأحاديث الهامسة، والرغباتِ العتيقة التي لم تقف بعد على مساء ندي أو هدأة شاسعة، لتلوح للنهارات الحرون الدامعة تلويحة الاشتهاء.
رجاها، وهما في الطريق، أن تبني معه هذا المساء، وأن تطرد خيباته الكثيرة، وأن تكون ـ ولو لمرة واحدة ـ كالمطر بعدما جفت روحه ويبست!! أو أن تكون كالسماء.. الوصول إليها صعب، ونسيانها صعب. ورجته، وهي ترامش بعينيها، أن يمنحها لحظة دفء واحدة بعدما عذّبتها المدينة بوحشتها القاتلة، وأن يبدّد أساها، ويمحو أحزانها الولود، وأن يقطع خيط لهفتها للآخر كائناً من كان، وأن يكون هو، لمساءاتها القابلة، السيدَ الأخير.
كان الحديث بينهما نشيجاً أو يكاد، نوافذَ لا حد لها، وصراخاً داوياً لروحين غلبهما البكاء.
كانا بحديثهما يتقاربان، فيتنفسان بعمق شديد، وبهجة بادية.
رقَّ لها، ورقّت له!؛ وانقطع الكلام..وخارت قوة الجسدين، فهبطا معاً فوق طرف الرصيف البعيد المعتم، فوق الغبار المبتل، وفوق آثار الخطا التي عبرت به قبل قليل!!
شعرا، وهما في توحدهما النادر، بلحظة النشوة البعيدة المنال، وأن الهواء الشفيف الرائق يخصهما وحسب، وأن زهوة المساء فراشهما الدافئ الوسيع. ولم يطل بهما الوقتُ كثيراً حتى أحسّا بأن غيبوبة ما أو لطافة آسرة أخذتهما بعيداً في الطمأنينة أخذتهما بعيداً في الطمأنينة الوارفة، فانقادا إليها تحت خدر أليف ناعم. ولم ينكشفا على الخلق صباحاً إلا جسداً واحداً طرياً منطفئاً فوق رصيف محبر بالبهجة الدامعة؛ جسداً واحداً طرياً منطفئاً لرجل أشيب قصير عاثر، لا بيت له، ولا دفء، ولا أصحاب!! يفترش، في كلِّ ليلة، هواجسه الشرود، وخيالاته الحنون.. لينام في مدينة ممعنة في صدودها الحزين، وبرودتها الراعبة!!

حمّى الكلام!!

ــ1ــ


الآن،
بات أقدم سجين في هذا القاووش الحجري الرطب المعتم، الذي حفظ هيئته، وثقوبه، وعروق حيطانه، وظلمته، وحشراته، وطعامه، ومواعيد مرور الشمس عليه، كما حفظ وجوه ساكنيه، وقصصهم أيضاً!!
لقد آمن ساكنو القاووش بأنه سيعدم هذه الليلة أو الليلة القادمة، لذلك باتوا لا ينامون إلا بعد أن يساهروه إلى آخر الليل مودعين، مشجعين، أما الأسباب فلا يعرفها أحد منهم، كلُّ ما عرفوه أنه سيعدم بسبب الكلام المُرّ الذي أغضب الآخرين، ولم يسألوه ماذا قال، وهو لم يضف شيئاً على قوله:
ــ »لساني قادني إلى هنا«!!
كان، ومنذ عشرين سنة، ينتظر اللحظة التي سينسلّ من بينهم بغتةً إلى موعده المضروب، وقد ابيضَّ شعره، وانبرى جسده ورقّ، وذوى عوده، وتضاءلت رؤيته، وازادت رعشة يديه وشفتيه. الآن، بات يعطف على الجميع، ينصح هذا، ويواسي ذاك، مصبراً مشفقاً. يقوم بكل أعمال القاووش، ينظف البطانيات والحصر، ويكنس الأرضية، ويجمع الأوساخ، ويفرغ الدلاء من قاذوراتها النتنة، ويغسل الثياب، والقصعات، والأواني؛ كان لا يهدأ على حال، ولا يعرف طعم النوم أو الراحة طوال وقت النهار؛ وفي الليل، وحينما تكثر المنغصات، وتبدأ حفلات التعذيب، يذهب طيّ العتمة يُعذب طواعية، بدلاً من أي منهم، فهو ميت! إن اكتشفوه ضربوه وأعادوه، وإن لم يكتشفوه سألوه وضربوه ثم أعادوه أيضاً!! كان يعطي ثلاثة أرباع طعامه لرفاقه، يقول لهم:
ــ »خذوا، فأكلي خسارة،
لن أبقي لهم سوى عظامي.. وأنفاسي فقط«.
كان منظره، وهو عائد من حفلات التعذيب، مرعباً، وموحشاً وقد لفَّ جسده الدم، وعلاه الورم، فلا يتألم أو يئن لاعتقاده بأن ما ينتظره أصعب وأشرس، لذلك فهو يوفر كل هذا لذلك الوقت، وفي لحظة ضعف بادية يستجيب لعطف أصحابه ومواساتهم لكي تشفى جروحه سريعاً ليقوم بأعمال القاووش صباحاً. كان يبدو كمن يودّ أن يموت قبل أن يعدموه فعلاً، ومع ذلك، كان أكثر ما يزعجه، وينغص عليه هدأته، ساعات الفجر، حيث يتعالى، في الخارج، وقع الأقدام الراكضة، والأصوات الزاعقة، وصليل المفاتيح، وإغلاق الأبواب بحدّة، وفتحها بضجيج عالٍ، كان يحسُّ بأنهم أتوا ليأخذوه في الموعد المنتظر، لكن وما أن تنهض الشمس حتى يخفت ضجيج قلبه الهلوع ليباشر حياة يوم قادم، وبدل أن يغفو أو يستكين ينشط في إيقاظ أصحابه بحماسة بادية، لكأنه يخبرهم بأنه نجا مرة أخرى، وأن حياته حقنت بأمل جديد.
وعند الظهيرة يكون التعب قد هدّه تماماً، وأخذ أصحابه في غفوة لابدّ منها، فينكمش في زاويته يراقبهم واحداً واحداً، وقد غفوا، فيحسّ بدموعه تسحُّ على خديه حارة موجعة، لأنه سيفارقهم عما قريب، وقد ألفهم حتى باتوا أهله، بعدما رحل والداه حزناً وقهراً عليه، وقد أدركا بأنهما افتقداه للأبد!!


ــ2ــ


الآن، في هدأته،
يلتهمه طيف وجه هنومة الأسمر الناحل، وهمسها الطروب، ينهض وجهها دافئاً طرياً كالصباح، فتبدو ابتسامتها البيضاء نافذة لرضا الروح، وتترامش عيناها النديتان صبيباً من العسل المذاب، ويغصُّ. يشعر بأن الحياة جديرة أن تعاش مرة أخرى من أجلها، بل من أجل أن يمشي على الدرب الموصل إليها فقط!!. ويتساءل: من يدري، هل ظلت على وعدها أم أنها طارت كالعصافير الجميلة الجفول؟! يتذكر أيام كان يواقفها قرب مدخل الدرج الوسيع تحت بيتهم تماماً، في العتمة الكاشفة، يسمع دقَّ قلبها، وتلاهثَ أنفاسها الحرّى وهي تتخافت وتعلو باضطراب شديد، ويرى جمال ضحكتها المكتومة، ويستعيد الهمهمات التي كانت تحكي أكثر من الكلام (آه، كم كره الكلام)، ويحسُّ ببرودة أصابعها البليلة بالرجفان وذوب كفّها الصغيرة طي كفّه في لحظة أغنى من الوقت وأحلى من فضة السكر.
تبدو خلالها ألوفةً مثل قُبرة، ونافرةً كنحل شرود، ينظر إليها كالمشدوه، يودّ لو يلمّس على شعرها الطويل الأسود، ولو يأخذها إلى صدره فيطفئ حبيبات العرق الصغيرة اللامعة فوق شفتها الوردية العليا، يدنو منها أكثر، لكنها تطيّر إلفتها في لحظة واحدة، فتفرغ مثل طيور الحمام، وتغمغم بالوداع واجفةً، تُفلت كفها من كفه، تناوله حفنةً من ورق دالية الدار، وتمضي، وقد بدا طولها زينة يموج كهودج من ريش النعام، ينتبه على عجل كمن يستفيق من حلم فيجمجم منادياً، يرجوها أن تتريث قليلاً، أن تبقى.. لكنها لا تلتفت أو تستدير، تترك له رنين خطوها، ولذع كفها الدافئة، ومشهد الإياب النحيل!! لحظتئذٍ تصيرُ أحلى وهي تبتعد وتنأى كلما تخافت خفقُ نعليها وانطفأ فوق درج الرخام!!
يتذكر كيف واعدها بأن يملأ الدار بصخب الأولاد وضجيجهم، وكيف واعدته هي بالدفء والرضا والأمان، لكن الأيام كرّت بقسوة فأخذت منه هنومة وعالم الأحلام؛ هنومة التي يسكره شميمها كالوليد، وتبعثره طلّتها كرفٍّ من طيور القطا القبول.
هي وحدها، الآن، التي تشده إلى خارج هذا المكان الذي ألفه، ولأجلها وحدها.. يتمنى لو أن القدر يساعده.. لكي يراها ولو مرةً واحدة، وبعدها لا شيء!! ويزمّ شفتيه، ويدعك وجهه بيباس أصابعه، يتلمس الجروح التي شقّها في وجهه بعدما علم برحيل والديه، ويهزُّ رأسه، وتتلامع عيناه بطيف من الدمع الحنون، يعود ليفرش بصره على وجوه رفاقه، وقد استسلموا لخدر النوم اللذيذ، يرى نباتات النعناع والحبق الهاجعة قرب الباب التي اشتراها من سجّانه بالكثير من المال؛ تلك النباتات التي رافقته منذ عشرين سنة، والتي كان يستبدلها بغيرها كلما خرّبها سجّانه، من أجل أن يحصلوا منه على المال مرات ومرات؛ لقد عرفوا سرَّ جنونه بالحبق والنعناع، فابتزوه! تلك النباتات التي كان سيفرش بها مدخل الدار وعتبات الشبابيك، يتذكر الآن كم كان يغيظ هنومة عندما يحدثها عن الحبق والنعناع، عن الطراوة والرائحة، والنعومة والجمال، فتحسُّ هي بالغيرة.. وتتمتم:
ــ »سترى.. لا حبق ولا نعناع،
لن يأخذك أحد مني«!!
ويخنقه الدمع، فيهزُّ رأسه كمن يساقط الذكريات التي يودّ لو تلتهمه في هذه الوحدة الرائقة؛ لكن ضجةً معتادة تقتحم باب القاووش، تطوي الذكريات وتبعدها!!


ــ3ــ


الآن، ولأول مرة، ومنذ عشرين سنة، يرى حراس القاووش وهم يدخلون المكان مبتسمين على غير عادتهم، يبدون، في لحظة واحدة، كأنهم خلق جدد تماماً، خلق لا يعرفون النهر والقسوة، أو الضرب والسباب. وجوههم ملأى بالود والحبور، ناعمة ضاحكة، وأيديهم رخية طرية، وعيونهم راعشة بالفرح، كأنهم استردوا ريق الحياة في هذه اللحظة بالضبط!!
ــ »فماذا حدث«؟!
إنهم يهمهمون بكلام متداخل، وبصخب عالٍ:
ـفيضجّ القاووش بكل من فيه، يختلط السجّان بالسجناء، لا تمييز بينهم، ولا فرق؛ وحال من العناق الحميم تجمعهم. نفر من السجَّان يعانقون رفاقه، منهم من يعانقونه هو أيضاً، لعلهم أخطأوا!! ورفاقه يعانقونه بمودة خاصة، لعلهم أخطأوا أيضاً، أجل لقد طيّر الفرح صوابهم، سيعذرهم حتى ولو قبّلوا حيطان القاووش الوسخة، أو حواف الدلاء القذرة، فهم سيخرجون!! سيخرجون إلى أمهاتهم، وزوجاتهم، وأولادهم، وحبيباتهم.. سيرون الدنيا مرة أخرى!! ويعيشونها في تجربة أخرى!! تأخذه الحال أيضاً، فيعانقهم واحداً واحداً، فهو سيفتقدهم كثيراً، فبعد خروجهم لمن سيكنس الأرضية، ولمن سيغسل الأواني، ولمن سيعدّ الطعام؟! لاشك، أن عقله سيطقُّ إن لم يعدموه وقد غدا وحيداً. يواري دمعه الحزين، ويودعهم بأسى شديد؛ يودّ لو أن خروجهم يتأخر ليلة واحدة فقط لأن سجّانه سيأخذونه فجراً للإعدام، سيكون مشهد الاقتياد صعباً، وبشعاً، وحزيناً، وهو في وحدته الشاسعة، سيقول لهم إن خروجهم خدعةٌ، غايتها أن يأخذوه مبلولاً بوحدته وعزلته الفاقعة؛ سيرجوهم أن يبقوا ليلة واحدة؛ بل ساعات فقط.. كي لا يبقى بلا سندٍ، أحسّ أن لحظات سجنه بدأت الآن فعلاً! فهمَّ أن يقول لهم شيئاً، أن يتقرب منهم، لكنهم ينهالون عليه تقبيلاً وضمّاً، وهم يتمتمون:
ـ »وأنت، يا عم عباس، ستخرج أيضاً«!!
ويسمعهم يحمدون الله، ويباركون لأنفسهم، ينتبه للحديث، يأخذه سحر الكلام؛ لأول مرة، ومنذ عشرين سنة، يحسُّ بأن الكلام يعنيه، ترتعش شفتاه، ويتراجف وجهه كلّه، تلفّه الكلمات:
ـ »ستخرج، ستخرج«!!
يعي الكلمات المتكررة؛ يحس بحرارتها، إنهم يقصدونه هو تماماً، تدور به الأرض، تهتز تحت قدميه، تضجّ حيطان القاووش وتتداخل، تدور هي أيضاً، لا.. النوافذ العليا الصغيرة الضيقة هي التي تدور؛ كلّ شيء يدور حوله، حتى أطرافه تدور أيضاً؛ ويبهت الرجل، تتوقف عيناه عن الحركة، يغيب عن الوعي، يخرّ جسده على الأرض هامداً لا حركة فيه، يسنده الرفاق ويتحلقون حوله، يرشون وجهه، وصدره، ويديه بالماء لكي ينهض أو يستفيق، تتداخل أصواتهم وتعرّش فوقه، ويعلو ضجيجهم، وتشحب وجوههم وهم يلهجون بالرجاء ألا يفسد العم عباس فرحتهم، ألا ينهي المشهد بهذا الموت الفجائي، أن يتحرك، أن يقول كلمة تريح أعصابهم، لحظات قاسية مرة تلفّهم بالخوف والذبول، يرعبهم المشهد، وتأخذهم الظنون؛ يتمنون ألا ينهوا تجربتهم في السجن بموت الرجل الذي أحبوه؛ الرجل الذي لن ينسوه أبداً.. يداورونه، ويحاورونه، ويلمّسون عليه بإشفاق شديد، تمتدّ بهم الحيرة وتستطيل، ولكن فجأة، يزايلهم القلق، فيتنفسون بعمق حين يفتح العم عباس عينيه، يراهم متحلقين حوله في جمعة واحدة، والهلع حشو وجوههم ونظراتهم، يبتسم وهو يسألهم باقتضاب:
ـ »سنخرج.. جميعاً«!
فيهزون رؤوسهم بالإيجاب، ويتصارخون مكررين:
ـ »سنخرج جميعاً«!
ساعة أو أقل، وينشغل الجميع بالخروج، يبدون في حالات غريبة متعددة، منهم من يرقص ويغني، ومنهم من يتأمل ساهماً، ومنهم من يثرثر بأي كلام، أو يتلهى بأي شيء..
وعند هبوط الليل، يطلقهم القاووش واحداً واحداً مثل طيور طال عليها وقت الشتاء، يخرجون كالفارين من النار أو الحرب، يركضون لاهثين، كأنهم يطردون بعضهم بعضاً، لا يلوون على شيء، فلا تُلفت انتباههم الحدائق والسيارات، ولا نوافير الماء، وحركة الناس، ولا مخاصرات العشاق في الظلمة الخافتة.. ينفرون إلى بيوتهم مرة واحدة.
كان العم عباس آخر الخارجين، بعدما حاول إقناع مأمور السجن، أن يبقى حارساً، أو مستخدماً، أو أي شيء، فلا أحد له في الخارج، لا أب ولا أم، لا أخ ولا خال.!! فلماذا يخرج، ومن أجل من؟! ويرفض مأمور السجن بقسوة ناهرة، ويحار بأمره، لكن إلحاح العم عباس عليه؛ يدفعه إلى أن يبقيه قليلاً، فيأمره بالجلوس، وينشغل عنه بآخرين. لحظات، وعلى حين غرة، يهبّ العم عباس واقفاً، يقول للمأمور:
ـ »لا، سأخرج«!!
وعندما يسأله المأمور:
ـ »لماذا..«؟!
يقول له بصراحة:
ـ »لكي أرى هنومة«!!
ويمضي في هدأة الليل شبحاً أو يكاد، يجرُّ خطا واهنة عاثرة، لم تألف المشي الطويل منذ زمن بعيد، يمشي فيتعب، يستريح قليلاً ويمشي قليلاً، وطيف هنومة يتقافز أمامه مثل الحلم، يمشي فلا يدري إلى أين تقوده الطرقات، فالمدينة تغيّرت كثيراً، وما عاد يعرف اتجاهاتها. يتمنى لو أنه يستطيع قراءة اللافتات وأسماء الشوارع، لكن نظره يخونه هذه المرة، يطلقه إلى البعيد حيناً وإلى القريب حيناً آخر فلا يعود بشيء سوى الضباب والغبش، وأخيراً، يطوي شهوة المشي، وينام في حديقة أسره عشبها الندي حتى الصباح.
وفي الصباح، رأى الشمس، والضوء، والنباتات، والأشجار، والأبنية، والنساء، والسيارات، فأحسَّ بنشوة الحياة، ومضى في بحثه عن هنومة، أيقن، وقد رأى نفسه على واجهة أحد المحلات، بأنه مخلوق من عالم آخر، لا يشبه الناس في شيء، وأن هنومة لن تعرفه أبداً، لهذا ذهب إلى حمام السوق واستحم فاستعاد بعض نشاطه وحيويته، وهناك أيضاً قصَّ أظفار يديه وقدميه، وشعر رأسه الذي قلَّ كثيراً، وحين اطمأن إلى أنه صار في صورة مقبولة عاود البحث من جديد. تاه وضاع مرات عديدة، وسأل كثيراً إلى أن وصل إلى الحارة، وهناك عرف العبدولي، الرجل العجوز صاحب دكان السعادة الذي عرفه أيضاً، فرمى تحته كرسيه الخشبي، وسقاه شاياً بالنعناع!!
وقبل أن يسأله عن بيتهم، وعن هنومة، وقبل أن يرجوه أن يملأ له كأسه مرة ثانية.. أحاط به ستة رجال، عرفهم فوراً من رائحتهم، فانقاد لأسئلتهم، ونهرهم، وقسوتهم، وأخذوه، على مرأى من أبناء الحارة، والعبدولي؛ العبدولي الذي صرخ بهم:
ـ »لم نره بعد.. لعنة الله عليكم«!!
وهمهم من حوله بعض الناس:
ـ »لعله هارب«!!
وهناك في القاووش عرف أنهم، اكتشفوا الأوراق التي خبأها تحت فراشه، تحت البلاطات الصغيرة، أوراقه التي كتب فيها مشاعره، وأفكاره كلها بوضوح شديد، وبالأسماء الصريحة!! فقد باح بكل شيء، ووصّف كل شيء، ولام أناساً كثيرين، ونعى مصير آخرين.. بعدما ظنّ أنه ميت لا محالة، وقد نسي أن يأخذها معه حين أفرجوا عنه بعدما أعمى قلبه فرح الخروج.. المفاجئ!!

بائعة الصبار

ـ 1 ـ


حين تواعدنا للقاء مساءً،
بعيداً عن عيون الناس وسط عتمة مطبقة في الطرف البعيد من المدينة، قرب زاوية بيتهم الطيني اللائذ بشجيرات الكينا العالية، كنتُ قد أعددتُ نفسي، قبل ساعات، لهذا اللقاء.. فوقفت حائراً، قلقاً، ساهماً، أسمع حفيفَ أوراق الأشجار العاصفة، ونباحَ الكلاب اللجوجة، وزعيقَ السيارات المتدافعةِ وسط المدينة، والنداءاتِ العاليةَ والخافتةَ لحارس مكبّ الرمل القريب.
كنتُ أسمع وشوشات ثيابي كلما تحركتُ، وقد استحالت حواسي كلُّها إلى عين واحدة ترقب ذلك البابَ الخشبيَ الكالحَ اللون.. لينشقَ عنها.
رجفةٌ ملعونة تهزني، فأقبضُ عليها، لأبقى على صحوي.


ـ 2 ـ


بدأتُ أهجسُ، وقد تأخرتُ كثيراً، بأنها نسيتني، نسيت الموعد، أو أنها لأمر أنثوي صرف تشاغلت عني لتعذبني، أو أنها استغرقتْ فعلاً بأمها العجوز التي مرمرتها بمرضها الطويل المزمن.
[كانت تقول لي دائماً، ورعشةُ البكاء تخنقها، إنها ـ وفي لحظات عجزها ـ ترجو دودَ جسدِ أمِها أن يساعدها عليها، ليكفَّ عن فتح الثقوب الجديدة في جسدها المتماوتِ الهش. ترجوه أن يأكل من طعامها، ويدعَ أمَّها كي لا تغدو وحيدةَ في مدينةٍ واسعةٍ ملأى بالغصّاتِ والغرباء].
أحسستُ أنني أطلتُ في وقوفي، وأن الريح الباردة تغلغلت في عروقي، فأدعكُ وجهي براحة يدي، وأضبطُ أنفاسي، وأطردُ ارتباكي وقلقي.. فأنا في موعد لا كمين.
[أتلهى بأغنيةٍ ألوفٍ تتحدث عن الصبايا اللواتي يقطفن التوتَ البريَ بالسلال، واللواتي يغتسلن على الغدران خِلسةً، وحارسُ البساتين الذي يستمع إلى قصص عشاقهن، والذي يرى أطرافاً من أجسادهن الطرية البيضاء خِلسةً أيضاً].
وهي لا تأتي!!
طيفٌ من الحنين يأخذني إليها.
أرسمُ وجهها في العتمة المديدة. أدقق في غمازتي خديها، في لون وجهها المشرَّبِ بالخمرة الدافئة. أعيدُ تفاصيلَ مشهدِ رؤيتي لركبتها المستديرةِ الراجفة، وحرجها الشديد مني حين طار طرفُ ثوبها مع الهواء اللعوب في ذلك المساء الصيفي البعيد.
أمسحُ وجهي بأطراف أصابعي كما مسحتْهُ هي بأطراف أصابعها بكل ذلك الحنو البديع. فأتمتمُ لنفسي بصوتٍ خفيض، ربي من أين لها كلُّ هذا البهاء، وهي معذبة محطمة لا تصل إلى لقمتها إلاَّ بسلم!! فجأة، أكفُّ عن التمتمة. يتناثر طيفها كالهواء، ألغي أنفاسي، وأمحو انتظاري.. حين أرى الضوءَ يشقُّ عتمةَ الباب الواطئ ذي الصوت الحزين، الضوءَ الناحل الذي يقودها إليَّ رويداً رويداً!!
يا إلهي،
إنها تدنو نحوي كهودج الريحان، طويلة، تميلُ يميناً وشمالاً كصفصافةٍ ملآنةٍ بالحنين لنهر جفَّ أو كاد. تدنو ببطء شديد كأنها تمشي على حرير أهدابها، وأنا أرجو الله أن يساعدها على أن ترمي أحزانها خلف خطاها. تدنو كمن يبتعد وينأى، فيخفقُ قلبي ويصفقُ للمرأى الجميل، والقدوم الهامس النشوان. تصل إليَّ، فآخذها إلى صدري وأهمهمُ بالسلام. تهبط فوق (قرامي) الحطب وادعة وجافلة كريش النعام. وأهبطُ قبلها متمنياً لو تفترش قلبي أو باطن كفي فتغفو أو تنام. أراها أنثى من كفوف الورد طرواة وندى. صامتة مثل فزاعةِ الحواكير التي أتعبها السهرُ الطويل. أسألها عن أمِها، وعن شحوب وجهها.. فتساقطُ الكلماتِ حزناً على حزن.. وتبكي، فألملم دموعها بخفيفِ أنفاسي، وأرجوها أن تكفَّ عن هذا الارتعاش الطويل المرّ، وأن تصبر، فالدنيا الجميلة آتية.
ترامقني بعينيها الرامشتين النديتين، فأشدّ على يدها، وتشدُّ على يدي.. وتشهق!!


ـ 3 ـ


[كانت وحيدة أمها العجوز. وكنت كبيرَ إخوتي. عرفتُها وعرفتني.. أنا في عملي، وهي قرب الرصيف في عملها وراء سحاحير الخشب الملأى بأكواز الصبارة. تنادي برهيف الصوت على صبارتها مرغِبةً المارة أن يشتروا كلَّ ما لديها لكي تعود إلى أمِها المتعبة قبل حلول الظلام.
مرة واحدة، تأخرتْ حتى انعتم الليل، ولم تبع كلَّ صبارتها، فعادت إلى البيت خائبة لتجد أمها في وضع مرعب موحش، خارج الباب، وقد سحب نصفها الحيُّ نصفها الآخر المشلول. في ذلك المساء أوقدت أحزانها التي لم تنطفئ للآن، بعدما رأت سيلاً من الدود المخيف قد خرج قسراً من جسدها، وما عاد يعرف طريق عودته.
فأعولت وناحت، واستنجدت بالله، والناس والمشافي، لكن دون جدوى. ظلَّ جسدُ أمها نصفين!! واحد يأكل من الآخر، وواحد يحمل الثاني، واحد معافى، وآخر كالرماد!!
واستسلمت للخاتمة التي ستعلن عن انغلاق باب البيت بعنف شديد حين ترحل أمُّها إلى عالمها الآخر، عالم الخوف، والنسيان، واللاأوبة.


ـ 4 ـ


لا أدري، الآن، لماذا كنتُ أحسُّ أن صوتها كان يرقُّ وينحل كثيراً حتى يبحُّ كلما مررتُ بها، أو كلما تحايلتُ على نقودي لتبقى، فأشتري منها. لا أدري لماذا كنتُ أحسُّ بأن صوتها المتهدج يخصني، وأن بحتها المعذبة هي لي وحدي. كنتُ أشاغلها كثيراً، وأنا أعطيها النقود لتبيعني واحداً من أكوازها الناضجة، وأساومها كثيراً لأسمع صوتها،وأحيرها في الاختيار لأرى أصابعَ يديها الطويلة وهي تنتقي الأكواز أو ترتبها، ولكي أصرفَ نظرها العميق النفاذ عن وجهي، لألمحَ طرفَ أذنها القريب مني من تحت منديلها النيلي، أو لأرى ذلك الخيط الفضي الكابي اللون من نقاط عرقها الدقيقةِ اللامعةِ المنحدرةِ من أعلى جيدها الأبيض إلى داخل ثوبها الشفيف الوردي.
ولا أدري الآن كم من المرات مررتُ بها، وكم هي الأحاديث التي تبادلناها على عجل، وكم هي المحاولات التي تقصدتُ فيها ملامستها لأدركَ حقاً أن في صدري قلباً يدقُ لها؟ ما أدريه هو أنني لهفتُ لها فألفتها، وأنها أشعرتني بأنني أعني لها شيئاً آخر غير البيع والشراء، ولولا ذلك لما سمحتْ لي بأن أساعدها مرات عدة، وفي آخر النهارات، على ضبط سحاحيرها الخشبية الصغيرة وترتيبها.


ـ 5 ـ


حين جاءتني على موعدها، شهقتْ قبل أن تقول كلمة واحدة، فضجَّ قلبي بالخفقان، ولفني الأسى، خفت أن تكون أمها قد ودعت الدنيا بصمت وصارت وحيدة. أسألها، فتجيب بالنفي بإيماءة من حاجبيها الرفيعين. ترمي شلال شعرها، ومنديلها النيلي الناعمَ الملتفَ حول رقبتها فوق كتفي.. فأغمرها بلهاثي، وأهمس لها بأنني لن أتركها وحيدةً أبداً وقد صارت دنياي. سأقتسمُ وإياها كلَّ شيء.. الأحزان، والمواجع، والدروبَ، وأفراحنا القابلة. أعدها بأن أكون لها الثوبَ أمام الآخرين، والمحزمَ على الأيام، أن أكون دالية العمر المحلومة. وأرجوها أن تطير أحزانها، فترجوني أن أذهب، فالدنيا برد، وليلُ المدينة غدار، وأنه من الواجب عليَّ أن أجهزّ نفسي للسفر إلى أهلي لأطمئن عليهم، وليطمئنوا عليَّ، وأن لا أشغلَ بالي بها، فهي ماتزال قوية. وتغصّ!!
أنظر إليها بحرقة، وتنظر إليَّ بانكسار وأسى. تأخذ عارضيَّ بين كفيها الطريتين، تنفخُ في وجهي، فتذيبني لطافتها، وتلاحم خدها بخدي للحظات هاربة، ثم تنهضُ حذرةً عائدةً نحو ذلك الباب الذي يشقه خيطُ الضوء الواهي الضعيف، كأنها تخاف من عشرة إخوة غلاظ يقفون لها بالمرصاد. تمضي وهي توصيني أن أسلم على أمي، وأن أحكي لها أخباري وأخبارها في المدينة الواسعة، العطشى للحنان. أبدو، وقد ذهبتْ، كالذاهل تماماً، كالمخدر العاجز عن الحركة، أراقبها وهي تقطعُ تلك المسافة القصيرة ما بين وقوفي وباب بيتها المضاء. أدعوها، في اللحظة الأخيرة تماماً، أن تقف لأقول لها كيف لي أن أذهب بعدما بعثرني ريقها الحلو. أرجوها أن تقف لأقول لها إنها سيجتني بحنوها البري البكر. لكنها لا تلتفتُ أو تستدير. تشقُّ بابَ الضوء وتدخل، فينغلق الباب عليها وعليَّ. ويختفي الضوء، فتنعتم عيناي. أرتعش وقد لفتني البرودة، ووحشةُ الافتقاد، أمتلئ بها، بغيابها المرّ. أنتبه إلى أنني سأفارقها، فتتراقص قدماي، ويضجُّ صدري بما فيه. أشتاق إليها وأحنُّ، فتأخذني جرأةٌ لم أعهدها في نفسي، أمدُّ الخُطا اللحوحة نحو ذلك الباب الخشبي العتيق..
أصل إليه. أُواقفه مواجهة. وأنثر بصري عليه. وألمس بأصابعي مساميره، وإطارَ الحديد. أتقاوى أكثر، فأنقره نقراتٍ خفيفةٍ.. لكن ما من مجيب. أنقره ثانية وبعزم جديد، ومن دون جدوى. أحسُّ بغصّة وجفاف في حلقي. أحسُّ بانهمار برودة المساء في قلبي. أتجرأ أكثر. أدفعُ الباب بلطف شديد، فينفتح. يغمرني الضوءُ المتساقط من عمود الكهرباء. أدهشُ فالمكان ليس بيتاً، إنه حائط طيني في وسطه بابٌ لبستان واسع الأرجاء، كثير الشجر. أبحث عن بيتها هنا وهناك، يتطاير بصري إلى كلِّ الأنحاء.. فلا أجده. لا بيوت هنا ولا ناس. أقعُ في حيرتي. ألوّب طويلاً، وأبحث كالمجنون عن دفئي الذي كان بقربي الآن. أهمهم، وأنادي عليها راجياً أن تبدو لتريح جسدي الذي أنهك تماماً، ونفسي التي التاعت. أرجوها أن لا ترحل وقد أحببتها حباً يكفي شجرة لوز يبسانة لتزهر، لكنها لا تبدو، فأخرُّ على الأرض في جثوة واحدة.
أعودُ، وأتوازع الدروب، أهبط ذلك المنحي، أهبط أهبط أهبط أهبط.. فلا أجدها، أدور هنا وهناك، شجرة تأخذني إلى أخرى، وسياج يقودني إلى سياج.. وما من أمل.
فجأة، أسمع صدى صوتها يقترب مني، يتردد في جنبات البستان، فتبتهج روحي. تنداحُ فيَّ قوة جديدة لا أدري من أين أتت،أنشط في البحث، والمناداة، والدوران. أحسُّ بأن صوتي راح يتداخل وصدى صوتها. إنها تنادي عليَّ مناداة العاجزِ الحزين. أواصل ركضي المجنون في المكان الفسيح. أناديها بكلِّ صوتي، لكنها لا تدنو، ولا تبين. يظلُّ الصوتان يتلاقيان ويتداخلان بترجيع شجي بعيد. أظلُّ على عطشي، أطارد بجسدي ونداءاتي صوتها، وتظلّ هي بعيدة، ويظلُّ البستان واسعاً، ومظلماً، وبارداً على مخلوق وحيد.. صار بلا روح أو يكاد!!


مؤلفاته:اثنا عشر برجاً لبرج البراجنة ـ قصصزعفران والمداسات المعتمة ـ قصصممارسات زيد الغاثي المحروم ـ قصصطار الحمام ـ قصصدويّ الموتى ـ قصصالسَّواد ـ روايةهناك.. قرب شجر الصفصاف ـ قصصمطر وأحزان وفراش ملوّن ـ قصصأحزان شاغال السَّاخنة ـ قصصقرنفل أحمر.. لأجلها ـ قصصحمّى الكلام ـ قصصجسر بنات يعقوب ـ روايةتعالي نطيّر أوراق الخريف ـ روايةألف ليلة وليلة ـ دراسةالبقع الأرجوانية ـ دراسةالمصطلحات ـ المرجعيات ـ دراسة الأدب العبريكائنات الوحشة ـ قصصالوناس عطية ـ روايةأنين القصب ـ رواية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.