الصفحات

غوايات اللغة قراءة في مجموعة (تعرّت فانشطر الليل) للشاعر عبد المنعم الأمير | د. جاسم خلف الياس

لا شك أن الاشتغال في الشعرية ينهض على بلاغة الانزياح اللغوي قبل كل شيء، إذ إن اللغة تتمظهر في الاجتراحات البلاغية ( اللغوية ) المتقاطعة مع المعاني الوصفية التي تقبع في المعاجم، وبهذا يكون الصوغ الجمالي نتيجة لـ((استعارة كلام معين يفقد معناه على مستوى اللغة الأولى لأجل العثور على المستوى الثاني)) () وهنا يتماس توقّعان أو
يتقاطعان ضمن بنيتي الدلالة والتدليل:
الأول: التحول الدلالي الناتج عن الانزياح التركيبي الذي يعمد الشاعر إلى اختياره ضمن كون دلالي ونفسي معين؛ للانفتاح على دلالات محددة، يعمل على تفعيلها ذلك التعالق بين العناصر والتقانات التي يشترطها النص ضمن خصوصيته النوعية.
والثاني: الاشتغال التدليلي أو التأويلي الذي يعتمد التوليد المؤثث بموجبات الانفعال داخل العلاقات النصية ومستويات اللغة/الرؤيا. وهذا يتم بواسطة اجتراح مداخل قرائية لها القدرة على التفاعل مع النص وتذوقه ومن ثم اقتراح جمالية تأويلية تخترق سرانية النص، وتكشف الثراء الدلالي النصي لا اللغوي، كون الدلالة (نصي) والمعنى (لغوي) .
ولأن قراءة أي نص أدبي تقتضي التوغل في مفاصل النص والانفتاح على الموجهات القرائية التي تتيح التوصل إلى المسكوت عنه والمخفي والملغز وغيرها. فلا بد لهذه القراءات من التعدد قي كشف أسرار النص وجمالياته، وذلك من خلال فهم النصوص وتحليلها وفق مناهج وعلوم شتى منها الفلسفة وعلم الجمال والتصوف وغيرها. الأمر الذي يحتم على الباحث الألسني ضرورة الكشف عن العلاقات السياقية (التاريخية، الاجتماعية، النفسية) التي تدخلت في إنتاج ذلك النص؛ للوصول إلى شكل الكائن الجديد، الماكث خلف تشكيلته الخطابية. وعلى الرغم من أن هذا المدخل يبدو عاديا ومجترا في أغلب المقاربات التي تتناول النصوص الشعرية، إلا إنني رأيته ـ حسب ظني ـ يمتلك حضورا ضروريا في الفضاء النقدي الذي يتناول مجموعة ((تعرت فانشطر الليل)) للشاعر عبدالمنعم الأمير الصادرة عن دار افريقية/ تونس 2010. إذ تؤهل هذه المجموعة ـ بسبب كثرة المهيمنات النصية فيها ـ الباحث لتناول المجموعة في أكثر من بحث فالتقابلات الدلالية، والصور الشعرية، وتداخل الفنون، وتقانات السرد، فضلا عن الإيقاع، واللغة، والتناص، والاستهلال، والخاتمة وغيرها تثير الكثير من التساؤلات في الخطاب النقدي مما حضّتني إلى فكرة تناولها في دراسات متعاقبة، وبشكل تفصيلي في مقاربات قادمة.
قبل الإيهام / بعد الإغواء
تتناول هذه المقاربة اللحظات الجمالية في المجموعة، بوصفها صفة جوهرية في عملية التذوق. وبعيدا عن التفصيل في المرادفات الاصطلاحية لهذه اللحظة التي تتكرر في مثل هذه المقاربات ومنها التجربة الجمالية والخبرة الجمالية والموقف الجمالي والإحساس الجمالي والشعور بالجمال واللذة الجمالية والمتعة الجمالية وغيرها في تفاصيلها الكثيرة، سيكون دخولنا إجرائيا ويقع في منطقة الرمز وحساسيته في علائقيات تفضي الى وجود يضج بثنائية المباح/المحرم. ومن أهم هذه اللحظات الجمالية التي تستفز القارئ وتبهره في هذه المجموعة هي اللحظة التي تبعث السرور قبل الإيهام / بعد الاغواء في العنوان بوصفه العتبة الأولى والمفتاح المركزي للنص، إذ تتشكل دلالته في فضاء ايروتيكي عام / خاص، فضلا عن تشكل دلالات أخر تستجيب لكل ممارسة تلق جديدة .
العنوان
يقتضي التحليل النصي للمغامرة الايروتيكة في هذه المجموعة، الانطلاق من العنوان، إذ تمثل هذه المغامرة خطوة التواصل الأولى مع أفق التوقعات القرائية من خلال الإيحاءات التي تفعّل الذاكرة في خلق فضاء تأويلي، وكل قارئ حسب قراءته، وذخيرته المعرفية، ويتواصل هذا التفعيل بشكل أكثر فاعلية في عمق المتون النصية؛ ليتوصل القارئ إلى الدلالات الخاصة المحددة أو التدليلات المتعددة. فالشعر في مستوييه الإمتاعي والإقناعي هو ذاكرة الحلم في فضاء الإبداع المتواصل، لا بوصف الذاكرة فعلا ماضيا يخضع لسلطة الغياب، وإنما فعلا حاضرا يستجيب لسلطة الحضور، والتفاعل بين اللغة والذاكرة هو الكفيل بصنع تلك الأحلام، وهذا أحد الروافد التي تقود الشعر إلى الإنفلات والتمرد وكسر المعايير ونمذجتها.
وبعيدا عن التنظيرات المتكررة والمجترة في نظرية العنونة وعلاقاتها بشعرية النص، سنسعى الى الدخول في المنطقة الاجرائية مباشرة ، كون تلك التنظيرات على اتساعها تتوخى مسارا شاملا يتمثل في تحليل (( العلامة اللغوية التي تتقدم النص وتعلوه، ويجد القارئ ما يدعوه للقراءة والتأمل، ويطرح من خلالها على نفسـه أسئلة تتـعلق بـما هو آت، والمـبني على ترسبـات المـاضي، ويصـيغ لنفسه منها أفقـا للتوقـع)) (). فالدلالات التي يمكن أن يبثها عنوان المجموعة ((تعرّت فانشطر الليل)) في مستواه التركيبي من جهة، وتردده الصوتي الذي جاء في مفردتين زمنهما ماض (تعرَّت) و(انشطرَ) من جهة أخرى، تكمن في اجتراح التقابل الافتراضي لهاتين المفردتين، لا في سبيل الإثبات أو النفي ضمن بنيتين زمنتين متضادتين (ماضي/ حاضر)، وإنما في سبيل تواصل تتابعي أو تراتبي نحو (كان، يكون، كن) . فالفعلان الماضيان (تعرّت) و(انشطرَ) لا يفصلها سوى (الفاء) مما يوحي بحركية الفعل وعدم استقراره. ويمكننا مقاربتهما ـ ضمن الاجتراح المفترض ـ بوصفهما فعلين مضارعين (تتعرّى، ينشطرُ) ، في جمل افتراضية متعددة من مثل ( تتعرّى كي ينشطر) أو (تتعرّى حتى ينشطر) أو (تتعرّى لينشطر) أو (تتعرّى فينشطر) . وفعلين طلبيين ((تعرّي، انشطرْ)) في جملة (تعرّي، وانشطرْ أيها الليل) . أي إن القارئ بإمكانه أن يهتك بأسوار ذلك الزمن ومحدداته ويحركه باتجاه أزمنة متعددة وهي تمثل صرخة عذاب داخلي. إلا إن فاعل الفعل (تعرّت) مضمر جوازا تقديره (هي). وهنا يتجسد فعل الغواية الشعري، لحظة تعالق فتنة الجسد قبل التعري، بلحظة التشهي بعد التعري.
الإهداء العام
إن هذه الاجتراحات الافتراضية أعلاه تعمّق صيغة (الإهداء) بوصفه العتبة الثانية والموازي النصي الجريء الذي يحمل إيروتيكيته وحراكه العالي ضمن المنظومة الجسدية ((إليها.. وهي لما تزل تعرّي أنوثتها أمام دهشة طفولتي....المجموعة ص4)). فالتعري والانشطار يندرجان في دلالة العنف الجسدي ويحيلان إلى المحظور والمحرم. وإن اقتراف أحدهما يؤدي بالضرورة إلى اقتراف الثاني؛ لارتباطه الشديد به. ويشكل هذا التكثيف اللغوي الذي جاء في ثلاث مفردات تمظهرا حركيا في كل الاتجاهات التي تحاول فضح المسكوت عنه، إذ لم يعد بإمكانه البقاء في منطقة الخفاء، فتبدأ الأسئلة بفرض خياراتها، وتبرعم تخيلاتها، وقد يكون أحدها : لماذا ربط الشاعر التعرّي بالليل حصرا ؟ هل هذا المسكوت عنه هو الميثاق القار بينهما ولو في الفضاء الشعري تحديدا؟ هل يشكل هذا الفعل تعويلا على وهم أم التواطؤ عليه ؟ هل تجاوز الشاعر الذاتي والخاص إلى العام والمشترك؟ وغيرها من الأسئلة المفترضة.
المدخل
أما المدخل بوصفه العتبة النصية الثالثة التي تمنح القارئ فرصا أكثر للغوص في أعماق النص، فتشكل بنيته السطحية قطيعة بينه وبين العنوان والإهداء، وتشكل بنيته العميقة ـ وهي التي ربما قصدها الشاعر ـ تعاقبا ثانيا في وفرة الفضاء الايروتيكي بسرانية تغري بانغراس التوله في الانفعال الأنثوي بشتى الطرق، فالعلاقة بين عبلة وعنترة من جهة، والحرب من جهة ثانية، كانت تحمل سماتها الايروتيكية في نية وصول عنترة إلى عبلة بواسطة شجاعته التي تخوله الحصول عليها، بعد أن وضع والدها شرط الموت أمامه، فتحداه لغرض الإنوجاد في فضاء ذلك الانفعال بأي شكل من الأشكال، حتى وان قاده ذلك الانفعال إلى الألم، فكثيرا ما يؤدي الألم إلى المتعة ويمنح الإنسان فرصا في دعم الانسجام والتوازن في الحياة وتحويل الإخفاقات والإحباطات إلى قوة. وقد تمظهر هذا في المقطع الأول بعد أن ترك الشاعر نهايته مفتوحة على التأويل (أما الآن.....) وهذا الفراغ في تشكيله البصري عند القراءة، والقطع الصوتي عند الأداء بشكل مسموع، يوحيان إلى تهويل أمر ما، ولا أظن الأمر يبتعد عما ذهبنا إليه، فالبياض والصمت قد زادا من بنية المسكوت عنه، وهذا ما فعّل التلقي والتأويل بمزيد من الدلالات التي أثرت قدرة المتلقي وجرأته في اقتحام النص واختراقه والتوغل في باطنه :
(( قال الناقد: كان قديما/ عنترة/ يبصر بسمة عبلة/ في ضحكة سيف/ أما الآن .....المجموعة 5 ))
الإهداء الخاص
أما الإهداء الخاص فيشكل العتبة الرابعة فيما لو تجاوزنا العناوين الداخلية وعلاقتها بمتن القصيدة، فذلك يتطلب منا جهدا مضاعفا، سنحاول تناوله في مقاربات قادمة تخص هذه المجموعة. وقد خلت المجموعة إلا من إهدائين :
أولا: الإهداء الذي تصدر قصيدة (نورس) وجاء تجسيدا وليس تجريدا (إلى فاطمة)، إذ عمد الشاعر إلى إيهام المتلقي وهو يرسم جدلية الخفاء والتجلي، فأخذ يصرح ويلمح، يعلن ويخفي، ووضع القارئ في مستويين: ما يقوله ويبوح به ويعبر عنه، وما لم يقله ويبقى في حاضنة المسكوت عنه. فهل (النورس) الذي مل قيد الأفق لينطلق عاليا هو (فاطمة) التي أهدى القصيدة إليها؟ هل الأفق الأول هو جسد الشاعر وصراعاته واحتراقاته ؟ والأفق الثاني هو افتراض تخلق في فضاء تلك الاحتراقات؟ أم كلاهما تشابكا في كون إيهامي، عمد الشاعر فيه إلى التغييب الدلالي وتشتته ولا نهائيته ومراوغته وإرجائه وتغريبه؟ ما التقنيات التي أتاحت للشاعر فرصة الابتعاد عن المنمط والقار وهو يخفي ما يريده من خلال المراوغة وإسقاط الألفة عن الأشياء؟ وغيرها من الأسئلة التي ستتوالد كلما عاودنا قراءة المجموعة.
إن تكرار مفردة (نورس) بصيغة لازمة شعرية ثلاث مرات تمنح القصيدة ـ فضلا عن إيقاعها الخارجي ـ إيقاعا داخليا تكمن دلالته في التلميح والمراوغة، ولا نبتكر جديدا إذا قلنا: إن التلميح أبلغ من التصريح في المشغل الشعري في كل لغات العالم. فهذه المراوغة تصنع فضاءاتها في شعرية تختزن نضجا ووعيا وتمردا على ما هو متعارف عليه، وتكتنز رؤية تتخذ من المشروع الحداثي وصيرورته التجريبية تحولات حتمية رافقت المتغيرات الحياتية وهي تواصل جمالياتها مع الأسلاف وتنفصل إبداعيا عن فضاءاتهم، إذ تؤسس هذه الشعرية خصيصة تعمل على تأثيث أحاسيس القارئ بالترقب والقلق وتبقيه في نشوة مستمرة بين الخفاء والتجلي، وقد عمدت هذه الخصيصة إلى تجاوز المألوف في الذاكرة القرائية واجتراح تشكيل شعري مغاير يقوم على الإدهاش من خلال لغة تتطلع إلى خلق لغة جديدة من داخل اللغة وهي تتبنى مغادرة جماليات الأساليب المعتادة، لتحقق التحولات التي تمنح النص خاصية الفعل والزخم التأويليين وهما يتجهان ضمن مسار قرائي مغاير، وفي خصب يتنامى على ضفاف النصوص وأعماقها.
((لنورس
ملّ قيد الأفق فانطلقا
وراح ينسج من أحداقه أفقا....المجموعة 7)).
((لنورس
منح النعناع نكهته
ووشوش الورد
حتى أيقظ العبقا....المجموعة 7)).
((لنورس عاشق
مازال يسكنه بيت
تمرّغ في أحضانه نزقا.....المجموعة 8)).
الثاني: الإهداء الذي تصدر قصيدة (فنجانها) وجاء بصيغة تجسيدية أيضا (إلى عصام الديك)، وحين نحاول كشف العلاقة بين الإهداء ومتن القصيدة، نخمن أن هنالك حوارات قد دارت بين الشاعرين حول القصيدة الأولى (نورس)، فما تضمنت القصيدة من كلمات وجمل عمد الشاعر إلى حساسيتها، جعلت انزياحها يتغاصن بدلالاتها السيميائية، لتمنحنا إغواء جديدا في ثنائية قبل الإيهام/ بعد الإغواء، وهنا تكمن جمالية هذا التغاصن:
(( فنجانها!!
حلم على
خدّ المساءات انسفحْ
وحكاية
عن شاعر
عشق الجمال ولم يبحْ
ألقى مراسي قلبه
نسج الكناية واتشحْ
................
................
عن تونس
والبحر قبل وجنتيها وانسرحْ
................
................
كيف استباح (الكسكسي)
على فمي طعم البلح ..... المجموعة 32،33 )).
ولو أردنا الوقوف عند كلمة (الماء) و(الكسكسي) و(السحر) لتجاوزنا البنية السطحية لهذه المفردات في معناها القاموسي إلى البنية العميقة في دلالاتها المنزاحة، وفي هذا المستوى من التحليل سنغادر دائرة التمظهر اللغوي القار ونكسر حدودها وننحاز إلى جوهر الشعر في كل تحولاته الدلالية. وبناء على كل ما تقدم فان اللحظات الجمالية في العتبات النصية تتجسد في ثلاثة مواضع لا يمكننا فصلها بسبب تداخلها الشديد، وهي بالتأكيد تمثل عناصر القيمة الجمالية في النص الشعري، وهي (الموضوع الجمالي والوعي الجمالي والعلاقة بينهما). ويمكننا ربط الموضوع الجمالي باللحظة الجمالية التي تتعلق بالمؤلف وهو يختار ما يسرنا عند إدراكه، ليمنحنا البهجة واللذة ونحن نتلقى العنوان كما هو معطى بكل الخواص الآسرة للحس والخيال. أما الوعي الجمالي فيرتبط بلحظة القارئ وطريقة الإثارة التي تحدث في الوعي فتجلب الانتباه، فقد لا يكون أكثر من موجة صغيرة Ripple على سطح الخبرة، وقد يكون موجة عظيمة Great Wave وتحدث توترا فيها وتعمقها. أما العلاقة بين الموضوع والوعي الجمالي فهي لحظة اندماج بينهما، إذ تصبح العناصر الحسية والشكلية للموضوع مندمجة مع رغبات ومشاعر المدرك، والنص في مثل هذه اللحظات يكون نتاج التفاعل المبدع بين الشاعر والمتلقي الذي يشحذ خياله لكي يمنح الحيوية والنشاط للمعطيات المنقولة إليه ().
التجربة وأسئلة المخيلة
إن التحولات اللسانية والأسلوبية والصورية والإيقاعية والرمزية التي يوظفها الشاعر عبد المنعم الأمير عبر صياغات جدلية معرفية، وتكثيف شعري وبنائي متمرد في تشكيله البصري، قد حققت مراوغة ومغامرة في تجلي الأثر الانطباعي للقارئ العادي، والأثر التحليلي للدارس في الآن نفسه. هذه التحولات هي التجربة الجمالية التي تكفلت بها أسئلة المخيلة، وهي تقارب أو تكشف تجربته المعيشة حسب عمقها ومستوى نضجها. وهنا تؤدي المغامرة الخيالية الحرة دورا فاعلا في (( تحررها من الخبرة بوصفها رافدا أساسيا للإنجاز، فهي في كشوفاتها الجمالية بعيدة عن ضغط الخبرة واندغاعاتها نحو تقنين أفق الخيال بما يناسب ضروراتها ومداخلاتها، لكنها ـ أي المغامرة ـ تشارك الخبرة / التجربة ، في تلك الحلقة المعينة من حلقات الفعل التي تكتسب صفتها الإبداعية والجمالية من إنجازات الخيال الحر كقوة إبداعية منظمة، لا من الكيان العام للخبرة بوصفها تجربة موضوعية)) ().
وهنا يتجلى فعل المخيلة حين ندرك جمالية الاشياء بعيدا عن واقعيتها، فالنص يمتلك إشارات توريط عديدة تكمن خلف عباراته المنعرضة، فعندما نعمل على تحريك عجلة المخيلة في واقعها المتجذر ضمن توصيفات خارجة عن التقليدية للتراكيب الإيقاعية التي تفرض مناخا انسيابيا هادئا، والتراكيب الصورية التي نجد فيها من الغموض ما يمنحها الانزياح نحو وعيها الشعري، تتخلق لدينا ـ في تلك اللحظة ـ محمولات مشاكسة تقود إلى فضاء تدليلي يصعب ترسيم حدوده بعيدا عن الدلالة الكلية للنص:
((فأوقد الماء في كفيه منتشيا
وسَرَّ أوجاعه للبحر
واحترقا.....المجموعة 10)).
فالقيد الذي ملّه النورس في الإستهلال النصي، والكف التي انتشت باتقاد الماء في الإقفال النصي، جعلتهما التجربة الجمالية واحدة خارج النمط القار، وذلك عن طريق ربط أدائها بالمخيلة المغامرة، التي تقود إلى المجازفة والابتكار. ويكرر الشاعر انوجاد هذه الصورة الشعرية في قصيدة (رطب الكلام)، تحقيقا لرغباته المكبوتة، وهي تشكل شعورا جماليا يخاطب فيه الشاعر لاوعينا بوساطة اللغة السرية:
(( يا موثقا بالصمت،
أية غيمة،
لم تجترحها في يديك
جداول..... المجموعة ص 12)) .
وتتأكد لنا الرغبات المكبوتة وهي تتعامل مع سرية اللغة بشحن الإحساسات بكل تفاصيلها ، كي تتجلى مكامن السحر والجمال في جعل النص نسيجا متشابكا وناتجا بالضرورة من تقارب الوعي والتجربة، المتخيل والواقع، لتتحول فيه الخبرة الى واقعة شعرية تنبني ــ في هذا النص ــ تحديدا على تراكم تلك الرغبات التي عززتها (لا) النافية للجنس، وهي تعمل على تجريد الشاعر ــ وبحرقة ــ من ظل (النخلة) / (الأنثى) التي يعتقد أنها لو وجدت، لكانت حانية عليه:
((لا نخلة تحنو عليك جذوعها
وخطاك في هذا الهجير
مقاتل.....المجموعة ص 13)).
وتتعالى صرخات الشاعر احتجاجا في قصيدة (لماذا أتيت؟) وهو يقدمها لنا في أنموذج شعري، باذخ بمكونات الفعل القصصي، فـ(الحدث) المحوري في القصيدة يتشكل ــ كما يبدو ــ في (الزمن) الماضي، وقد تجلى ذلك في (الأفعال الماضية) التي اتصلت بـ(التاء المتحركة) بوصفها الضمير الدال على الشخصية (نثرت، عدت، كنت، أتيت، رحت، أغرقت، هيجت، سكبت، أشعلت) ، فضلا عن استبطان الزمن بتقانة (الاسترجاع) لنقل بعض التفاصيل الدقيقة للشخصية. ولكن هذا الزمن لا يبقى يجتر الافعال التي حدثت في زمن مضى، بل يتحول إلى زمن حاضر تحتل الدلالة النصية مساحة التلقي وتفترشها. أما الأفعال المضارعة (تشرب، تأوي، ترمي، تداعب، تعزف) فقد تداخلت في القص مع الزمن الماضي، ولم تؤثر على الحاضر إلا في الدلالة وحدها. وعودة الى الفعل الإيروتيكي في هذه القصيدة نرى أن الشاعر قد أصيب بهوس (سرانية الأنوثة) التي تمارس تمظهراتها بعنف في غواية الشعر، إذ تمارس هذه السرانية مغامراتها الجمالية في لذة خارقة تشعل جسد النص لتحقق عظمة الخلق الإبداعي، فالمجازات والتشبيهات والثنائيات جاءت متوترة وقلقة وهائجة، يندلق منها كل ما هو مدهش وغريب، للانعتاق من قوانين اللغة، ثوابتها اللسانية والتمرد في فضاءات الارتياد والانفتاح على الشعرية الساخنة وتخصيب خضرتها:
(( فأغرقت كل دروبي اشتهاء
وهيجت بحر دمي المتعب
وأشعلت ألف حريق بصدري
لماذا أتيت؟!
بجاه النبي.... ص 15، 16)).
وفي ختام المقاربة بودي أن اذكر القارئ بأنني لن اكتمه سرا حين أقول: لقد أبهرتني هذه المجموعة الشعرية لتشابك مهيمنماتها الأسلوبية، مما جعلني أؤجل كثيرا منها إلى مقاربات قادمة، على أمل دراسة كل نتاج مشغل عبد المنعم الأمير الشعري، والتمتع باللحظات الجمالية الأخر.

المصادر:
الكتب
بنية اللغة الشعرية، جان كوهن، ترجمة: محمد الوالي، ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء ، ط1،1986.
لسانيات النص، نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري ، الدكتور أحمد مداس، عالم الكتب الحديث، أربد عمان، 2009:
المغامرة الجمالية للنص الشعري، الاستاذ الدكتور محمد صابر عبيد، عالم الكتب الحديث، أربد- عمان، 2008.
الدوريات
عناصر القيمة الجمالية، د. رمضان الصباغ، مجلة البيان،ع 333، أبريل 1998.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.