الصفحات

سُبحة جدي | د. كريمة نور عيساوي

لم تكن تعلم، وهي تنطلق كالسهم يخرق وجه السماء، أنها ستلتطم لا محالة بسحابة بيضاء، ترتق ما تفتق من ذلك الجسد المنخور، مع ربيع العمر الذي ولى. فتحت، كالعادة، جهاز التلفاز لتستمع إلى ما تبقى من أخبار الدمار. فكل الألوان مرت عليها اليوم بدءا من أول هاتف رن في السابعة صباحا، لابد أن
تحضري حالا، لقد توفي جدك. كادت أن تقع مغشيا عليها من هول الصدمة لولا أنها تمالكت في الأخير نفسها، فقد كانت تتوقع الخبر بعد آخر زيارة له عندما أمسك يدها برهة من الزمن وقال: كوني قوية كما عهدتك دائما، صبورة ومبتسمة على علقم الحياة، لا تجعليه يطفو إلى السطح، فمرارته تذهب حلاوة جمالك، قبلت يده فأمسكها بقوة، وقال: سُبحتي هذه لك إن رحلت، إذا شعرت أنك بحاجة إلي خذيها بين يديك، واذكري الله، سأسمع أنفاسك من تحت التراب، وستصلني حشرجاتك، سأكون معك في كل لحظة وحين. رددت لتوها إنا لله وإنا إليه راجعون.
لم يكن أمامها سوى بضع ساعات لتودع أغلى إنسان ارتمت في أحضانه لعشرات المرات تبكي حظها أو تزف إليه نبأ نجاح من نجاحاتها، فقد كان مستودع أسرارها، غيرت ملابسها على عجل، وهي لا تستطيع أن توقف سيلان دموعها على خديها، واتجهت مسرعة نحو محطة القطار، دخلت العربة، و في المقصورة وضعت الهاتف على الطاولة، وأطلقت العنان لذاكرتها لتجود بما شاءت من الصور المفرحة منها والحزينة عبر محطات حياتها الأليمة. لا زالت تتذكر عندما توفيت والدتها كيف أن جدها كان هو أول من تلقفها، وهي تدخل في غيبوبة امتدت أكثر من ثلاثة أيام، وكان هو أول من وجدته أمامها جالسا على حافة السرير عندما فتحت عينيها، وقد أخذ في يده ظرفا، وقال لهذه الدرجة أنت جبانة لقد وصل أمس خبر تعيينك في كلية الصيدلة بمدينة الرباط، أعرف أن بعد المسافة هو من جعلك تنامين، محاولا تجاوز وفاة الأم، وأثره على نفسها، فتبتسم، والدموع لا زالت تنهمر مدرارا.
تسمع صراخ طفلة صغيرة داخل المقصورة فيعتصر قلبها ألما، آلاء هنيئا لك حبيبتي ستنعمين الليلة بمجالسة جدي. تتذكر كيف أن جدها هو من كان يقودها في الكرسي المتحرك بعدما تعرضت لشلل نصفي من أثر حادثة سير سرعان ما ستضع حدا لحياة طفلتها آلاء، والتي كانت سببا في طلاقها من زوجها الذي لم يتحمل أثر الصدمة وهاجر.
تتذكر كيف أن هذا الجد قدم الشيء الكثير لأبنائه ولأحفاده، وتتساءل ماذا قدموا هم له؟ يمر بائع المشروبات داخل عربة القطار ، تستنشق عبق قهوة الصباح، وهي تتلقفها من يد جدها، وقد أعدها بنكهة الأعشاب، ستهدئ أعصابك وإن كنت أرفض إدمانك عليها. فتعتزم عدم شرب القهوة وفاء لروح جدها، و تخاطب نفسها أعاهدك جدي حبيبي لن أحتسي القهوة بعد الآن. لكن سأشربها بالحليب فتبتسم والدموع لا زالت تنهمر سيولا من عينيها، وإذا بيد تمتد نحوها لتُقدم لها بلطف وأدب كبيرين منديلا ورقيا، أتمنى أن تكوني بخير سيدتي، لا شيء يستحق كل هذه الدموع ما دمنا كلنا إلى زوال، لكن دعيني أخبرك... نظرت إليه وهي مشدوهة، لا تنبس ببنت شفة، كيف لم تنتبه لوجوده أمامها في المقصورة منذ انطلاق الرحلة، كان في مقتبل الخمسين من عمره، أسمر، عريض المنكبين، حاد العينين، أنفه أعقف، كان يمسك حاسوبا وبجانبه جريدة وحقيبة تدل على أنه شخصية لها مركز مرموق في المجتمع. ثم استدرك قائلا: أجمل ابتسامة تلك التي تأتي وسط الدموع، لديك أجمل ابتسامة رأيتها، قالت: شكرا. والتفتت للنافذة تمسح دموعها أو تخفي وجهها. توقف القطار نزلت مسرعة في اتجاه بيت جدها. وفي المساء وفي السابعة تحديدا رن جرس هاتف البيت، رفعت السماعة. ألو من معي؟ هل أنت صاحبة أجمل ابتسامة؟ أجابت مستغربة: من أين حصلت على رقم هاتفي؟ رد بهدوء: لقد تركت هاتفك بجانبي في مقصورة القطار ، سأنتظرك بشغف لأرى أجمل ابتسامة في هذا الكون. وضعت يدها في معطفها، وأخرجت سُبحة جدها البيضاء فأحست بسحابة بيضاء تحملها لعالم جديد.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.