الصفحات

مطشّر _ قصة قصيرة | شاهر جوهر


لا أعرف لِما أسموه "مطشّر" ، فللبدو في هذه القرية أمور لا تستوجب السؤال والاستفسار ، تفرض على مسمعك ووعيك التعامل معها فقط دون جدال . فكل ما أعرفه عنه أنه أصاب ثروة كبيرة على غفلة ، كيف ذلك ? لا أحد يعرف ، لكن ما يعرفه الناس عنه أن حياته انقلبت فجأة ، فبعد أن كان البرغل غذائه الأساسي بل الوحيد طوال السنين المقفرة من حياته ، أصبح لا يأكل اللحم المتبّل إلا في الملعقة ، كما استبدل للنوم سرواله الخشن المصنوع من الخيش القديم ببيجامة قطنية ناعمة ، وهذا انقلاب وتمرد واضح في هذه القرية.

"فمطشّر" الرجل الستيني ذو الطباع النزِِقة أصبح بين ليلة وضحاها من أثرياء القرية ، فراح يهتم ويراقب بكثب ما يقوله الناس عنه ، فالأثرياء في هذه القرية هم مثل السياسيين ورجال الفن في العاصمة ، ليست طباعهم وسلوكياتهم ملك شخصي ، بل هم مُلك للعامة. لهذا بنى بيتاً للمشردين وعابري السبيل على سفح الوادي ، وأوقد النار للضيوف ولوجهاء القرى المحيطة ، وقدّم لفقراء القرية ومساكينها الذبائح دون انقطاع ، فلم تنقطع رائحة اللحم من القرية طوال عيشه بينهم ، حتى صار اسمه موصولاً على كل الشفاه.
فاغترَّ في نفسه لأجل ذلك ، وتخايل في مشيه بين الناس ، فنبذ الناس غروره بقسوة ، فلم يعجبه الأمر ، وحتى يحيي ألسنتهم بالحديث عن تواضعه استبدل سيارته واشترى حماراً ، ركبه إبنه الأصغر وسار به أبيه بين الناس مُقصداً في مشيه . فجمجم الناس لرؤياه ، وراحوا يتهامسون فيما بينهم بصوتٍ عالٍ :
- أنظروا لهذا الولد العاق يركب الحمار تاركاً أبيه الشيخ العجوز متعثراً على قدميه ..
- يبدو أن جمع هذا الرجل للمال أنساه كيف يربي إبنه..
سمع "مطشّرّ" ذلك ، فأنزل ابنه عن ظهر حماره واستعجل هو في ركوبه ، فلم يمنع ذلك الناس من أن يتهامسوا من جديد :
- يا له من رجل لئيم ، يركب الحمار تاركاً ابنه الصغير يقوده .. أي أبٍ قاسٍ هو هذا الرجل ..
ومجدداً أسرع "مطشّر" وركب هو وابنه الحمار ، فصاح أحد العامة إليه :
- اتقي الله يا رجل في هذه البهيمة ، فقد أثقلت أنت وولدك ظهر هذا الحمار ، ان كان الله وهبك من فضله مالاً فذلك ليس مسوغاً لأن تتكبر على البهائم أيضاً..
راح ينفث نَفَسه متهدّجاً ،ودون أن ينبس ببنت شفه ، ترجل الأب والابن عن ظهر الحمار وقاداه من رسنه . فضحك الجميع وغلوا في ضحكهم لذلك ، ثم رفعت بعض النسوة من اصواتهن في الحديث :
- مطشّر يتمختر في مشيه مع حماره كما يتمختر الرجل مع عروسه .. أنظروا لهذا المجنون ، يسوق حماره دون أن يركبه ، قد خلق الله الحمار لنركبه لا لأن نتمشى معه في الاسواق يا "مطشّر" ، يبدو أن كثرة المال أورثتك العمى ..
لم يتمالك "مطشّر" نفسه ، فجدل رأس حماره وجرّه بحنق الى شفة الوادي وحمله بقهر وقذفه ، وفي غفلة منه التف رسن حماره حول كاحله فسحبه معه إلى عمق الوادي تتلقاه الصخور وتمزق جسده الهيّن أعواد القصب اليابسة .
هرع الناس لمساعدته ، وكل ما استطاعو فعله حمله في تابوت ودفنه في مقبرة القرية .. ولازال الناس لليوم يتحدثوا كيف بَطِرَ "مطشّر" في معيشته فأهلكه الله هو وحماره .

تمت في 5مارس / آذار 2017

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.