الصفحات

صورةُ فتاةٍ نسيتُها تماما وفصص أخرى | عطا الله شاهين

1
صورةُ فتاةٍ نسيتُها تماما  
بينما كنتُ أفتّش ذات يومٍ في محفظتي البالية، وجدتُ صورةَ فتاة كنتُ قدْ تصوّرتُ معها للذكرى، قبل عقودٍ من الزّمن، لكنني نسيتُها تماما ولم أعدْ أفكّر بها، فقلتُ في ذاتي لو أن زوجتي ستراها الآن، فلنْ تصدق بأنني ليس على علاقة بتلك الفتاة التي ربما هرمت مثلي فقمتُ وأخفيتها في مكانٍ حتى لا يحدثُ أية مشكلة تافهة، مع أنني تصوّرتُ مع تلك الفتاة من كثرة إلحاحِها عليّ في ذاك الوقت، لكي تظلّ كلما اشتاقتْ لي تمسكُ الصورة وتقول ما
أجمل تلك الذّكريات، فالصورة ستبهتُ مع الأيام، أو أنّ الفئران ستأكلها إنْ وجدتها ذات يومٍ..

2


لأنَّني أُحِبُّها
ذات مساءٍ ماطرٍ ألحّتْ عليّ صديقتي كي أخرجَ، لابتياع علبة سجائر دخّانها المفضّل، وسرتُ تحت وابلِ المطر، وكنتُ حينها أرتجف من شدّة البرْدِ، وتمزّقتْ الشّمسية التي كنتُ أحملُها من هبوبِ الرياح القوية، فرميتُها في أقربِ حاوية، وتابعتُ سيْري حتى وصلتَ إلى الدُّكّانِ، لكنّ الدُّكّان كانَ مغلقا، وعلى بابه رأيت ورقة كُتبَ عليها بأنّ أحد أقارب صاحب الدُّكّان توفى، وأنه يعتذر من الزبائن فامتعضتُ قليلا، وسرتُ إلى دكّانٍ آخر، وحينما دخلتُ إلى داخله كانت ملابسي مبللة تماما، وسألتُ صاحب الدُّكّان عن الدُّخانِ المراد شرائه، فردّ البائعُ للأسف يا أستاذ، لقد نفذ للتو، فمددت يدي إلى جيبي وتناولتُ الموبايل بعصبية، واتصلتُ بالصديقة المستدفئة تحت اللحاف، وقلتُ لها لا يوجد من سجائركِ، فقالت: اشترِي أيّ علبةِ سجائر تكون شبيهة من سجائري، فأعطاني البائع علبة سجائر من النوع الفاخر، ودفعتُ له ثمنها، وعدتُ بخطواتٍ مجنونة، رغم أن المطرَ لم يتوقف وتللت ملابسي تماما، وحينما دنوتُ من الجسرِ الذي يوصل إلى بيتي رأيته منهارا من شدّة السيول، ووقفتُ هناك تحت المطر ِمندهشا، وقلتُ ماذا سأفعل؟ وبعد لحظات توقّفتْ سيارة بجانبي، وكانت تقودها امرأة، وفتحت زجاج نافذة سيارتها وقالت لي: اصعد سأوصلك إلى البيت، فجلستُ بجانبها وشكرتها، وقالتْ ما الذي يخرجكَ في جوّ كهذا؟ فقلتُ لها بأن حبي لصديقتي أرغمني على الخروج لشراء علبة سجائر لها، فقالت يبدو بأنك تحبّها، فهززت رأسي المبلل، وقلتُ لها أجل إنني أُحبّها، ولأجل حبّي لها خرجتُ أسير تحت المطر، وحينما وصلتُ إلى البيتِ، شكرتُ تلك المرأة، وفتحتُ بابَ منزلي بسرعة ونزعتُ ملابسي المبللة، وأتتْ صديقتي، وقالتْ لقد تأخّرتَ، فقصصتُ لها ما حدثَ معي، لكنني لم أجْرُؤْ على القولِ بأنّ امرأةً أوصلتني إلى البيت، فلأجلِ الحُبّ خرجتُ في ذاك المساء أسيرُ تحت المطر، رغم أنني ما زلتُ أحاول إقناعها لكيْ تكفّ عن التدخينِ، لكنْ دون جدوى، لكنني بعد أن بدّلتُ ملابسي رحت أتساءل بيني وبين ذاتي هلْ معقول حبّي لها أجبرني في هذا المساء للخروج تحت المطر لابتياع سجائر لها، لا بدّ أن حبّي لها جنوني.
3
هذا أنا الميّت
دنوتُ من الحشد الذي أحاط بالجثّة المرمية على رصيف الشارع، وشوشت في أذن شيخهم: هذا أنا الميّت، ولكنّه لم يعرني اهتماما وتابع يرفع الغطاء عني ويتفحّص الجروح، وهو يتمتم يا لطيف.. ربنا يرحمه.. عاودت الدنو منه ووشوشت له مرة أخرى ثانية: ذاك أنا الميّت.. دفعني بيده دون أن يرنو صوبي.
كنت أنا الميت مشوّه الملامح، فالحادث كان مخيفا.. كان حادثا بحجم الألم أو أكثر. وكانت دمائي تغطّي هامتي وصدري، وكنت أتتبّع حركات موظف الحوادث الذي كان يجري أبحاثه وقياساته.. قلت لضابط المرور ذاك أنا الميت.. لكنّه نهرني واستخفّ بي واستعان بزميله ليطردني من جانبه.. كان في الناس بلَحينة مجنون الخربة، كان واقفا عند هامتي من الجثّة، رنا صوبي وشخص بنظره في سحنتي وصار يصرخ هو، ثمّ أطلق ساقيه للنسيم ولحقه الحشد ومن ورائهم كانت سيارة الامبولانس وسيارة الشرطة تصدران الصوت المخيف.. كنت مع جيفتي بمفردنا، وقد خلت الدروب من الناس ولزموا دُورهم، فما كان لنا إلاّ أن نؤوب إلى المنزل اليد في اليد..
ذات البوليس ولكن ببذلة مغيرة، وذات البشر، ولكنّهم تقدّموا في السنّ كثيرا، ونفس الفضوليين، ولكنّهم هذه المرّة كانوا يدخّنون سجائر اللفّ، ويدنون أكثر من الجيفة، المعلّقة في شجرة التوت رغم رائحتها.. دنوت من المسؤول المحلّي، وقلت له هذا أنا الميّت، قهقه في هزء، وأشاح عنّي بسحنته، فتابعت التقدّم نحو الجيفة المعلقة على الحبل الأسود الذي ابتعته بشواقل والعقدة التي عزمتُ على أن تكون ثابتة، والغصن المتين، الذي كنت أقدّر أنه سيحمل وزني، وحينما استدرت، وجدت ضابط الأمن مسودّ السحنة، وقد أطرق في الأرض، فدنوت منه ووشوشت في أذنه لم أُعذّب، كانت دقائق معدودة انتهى بعدها كلّ شيء، صاح في سحنتي ودفعني بقوة وجعل يسحبني ويقذع لي في القول كنت على وشك الابتعاد عن مسرح الأحداث، حينما صادفت فرأيت فيه نجاتي، قلت لبلَحينة ذاك أنا الميّت فأسرع ناحية الحشد وأطال تفحّص الجيفة، ثمّ صرخ بصوت عالٍ وتفرّق الجميع في البشاتين ولم يقو ضابط الأمن الطاعن في السنّ على الرجوع إلى جيبه فرمى بنفسه في الجدول وغاب إلى الأبد ها نحن بمفردنا.. أنزلت الجيفة من الشّجرة وحضنتها ثمّ رجعنا إلى الدار اليد في اليد
كنت على الوادي وكان اليوم عاصفا، وكانت جيفتي مرمية على التراب، تصفعها المياه.. انتظرت طويلا أن ينتبه الناس إلى الحادث المخيف، كانت الجيفة غائصة في الوحل، تمنيت أن يمرّ من ينقل النّبأ، ولكنّ العاصفة كانت تدفع بالجميع خارج دائرة الحادث. كانت الكوابيس تزداد حدّة وكانت الضفة فارغة والتيارات تزداد قوّة وعنفا وقرص الشّمس كان يغرب، ولم يعد لي من رجاء في أن يجتمع الحشد حول ججيفتي وأن يصرخ فيهم بلحينة هو، كان الطّقس قارسا وجيفتي بدأت تتجمّد وكنت أموت على التراب الرطب كما تموت الضفدعة المنتفضة على الضفة.. رجلاي كانتا تتجمّدان وتتفتّتان وتذوبان في التراب وتحملهما التيارات إلى الأعماق.. أنا أتوه.. وباتت التيارات قوّة قاهرة تطوف بيني وبين جسدي الميّت.. هتفتُ في الخواء ذاك أنا الميّت لكن هيهات..
4
حديث صباحي عاديّ لسيدتيْن هرمتيْن
كنتُ أقفُ ذات صباح بارد في موقفٍ للحافلات، وعلى المقعد بجواري جلست سيدتان طاعنتان بالسّن، تتكئ كل واحدة منهما على الأخرى، كانتا تتحدثان عن ما يُسمى بالربيع العربي في دولنا العربية، وكيف أن ثورات الربيع العربي فشلتْ، فقاطعتها السيّدة التي بدت متفهمة أكثر في السياسة، وردتْ عليها لماذا ثورات أمريكا اللاتينية نجحتْ، وكانت تتحدث بانفعال؟ فصمتتْ الأخرى ولم تدر بما تجيبها، وقطع حديثهما وصول الحافلة وصعدتْ السيدتان وجلستا في مقعد الحافلة ولم تتفوها بأية كلمة، أما أنا فجلست خلفهما، فنظرتْ إحداهما صوبي وقالتْ نحن لم نتحدث في أي موضوع، فقلت لها: لم يعد الحديث في السياسة ممتعا، فابتسمتْ تلك السيدة، وقالتْ الله يرحم زمن عبد الناصر.. ونزلت من الحافلة وقلت حتى الطاعنين بالسنّ يهتمون بالأوضاع السياسية، لكن حديثهما الصباحي كان عاديا، مع أن السيّدة الأخرى كانت منفعلة مما آلت إليه أوضاع دولنا العربية..
5
عاتبته قبل موته، لأنه لم يقرأ الكتب التالية
حينما أتت تلك المرأة المثقفة ذات مساء لزيارة صديقها المثقف، الذي على شفا الموت، قامت بمعاتبته لأنه لم يقم بقراءة كتب تستحق القراءة، فقال لها عن أية كتب تتحدثين؟ فقالت هناك أكثر من عشرين كتابا تستحق القراءة سأقول لك بعضا منها، أنصحكَ قبل موتكَ أن تقرأها، فردّ عليها لكنّ الأطباء أعطوني مدة شهرين، وربما بعدها سينال مني الموت، فقالت له تستطيع قراءة على الأقل عدة كتب، فعليكّ أن تقرأ ة كتاب 1984 لجورج اورويل، وكتاب فرانكشتاين لماري شيلي، وكتاب المحاكمة لفرانز كافكا، وكتاب السيدة دالوواي لفرجينيا وولف، وكتاب لوليتا لفلاديمير نابوكوف، وقلب الظلمات لجوزيف كونراد، ومدار السرطان لهنري ميلر، وسيارة العقيدة للكاتب إلياس كانيتي، فقال لها: هلْ سأتمكن من قراءة تلك الكتب قبل موْتي؟ فقالت له: إيّاكَ أن تموت قبل قراءتها، فقال لها: أعدكِ بأنني سأقرأ معظم الكتب، التي ذكرت لي إياها وأنا على فراش الموت، فسرّت تلك المرأة المثقفة منه، وقالت له: أنا حزينة لوضعكَ الصّحي الغير مطمئن، وحينما تقرأ تلك الكتب قُل لي ما رأيكَ فيها، فأنا أعجبتُ جدا بقراءتها، لأنها تظلّ ملتصقة بذهني وهي بالتأكيد ستلتصق بذهنكَ..
6
ثلاث قصص قصيرة جدا
حروب لم تتوقّف
ضجرتُ  من حديثِه عنْ الحُروب، منذ معرفتي به قبل أكثر مِنْ عقديْن من الزمن، وهو لا يوقفُ عبابَ الكلام عنْ الحروب، حتى صرتُ أحسُّ بأن حياتي باتتْ رمساً سأسير إليه بعد مدة من الزّمن، أيتها الحروب أما يستوجب بكِ الآن أنْ تنتهي؟
هناك مَنْ لا يجدوا فُتاتاً
المرأةُ البدينة التي تأكل الشّطيرة بنهم ويسقط من حول فمها الأكل، تجعلني أحزن على مساكين وطننا، الذين يموتون من السّغب كل يوم، ولأنها لا تكف عن أكل شطيرة اللحم بذاك النّهم، فقد بدّلت مطرحي بإدارة محيّاي نحو البناية.. لكنّ البناية عكستْ إليّ المرأة البدينة النّهمة، فأرغمتُ على السّيْرِ صوب منطقةٍ فارغة.
حلم حزين
وجدتُ تلك الدُّروب التي رجعتُ إليها مليئة بالغبار، مقفرة تلك الطرق التي خطوتها بعد مولدي، متآكلة الأطراف واجهات البيوت التي عرفتها، الأزقة ليست هي الأزقة، والمواطنون ليسوا هم المواطنون، وصديقتي تبرّأت منّي واستهزأت من باقة الزنبق، التي أتيت بها، أما سقيفتي فقد استوطنتها مجموعة من الخنازير البرية وعبثتْ بمحتوياتها. ياه كلُ ذلك يحدثُ في المنام وأنا لم أزل أتنفس في غربتي الحزينة..
7
فتاة ساحرة اسمها ناتاشا

قال مدير معرض اللوحات بعد أن رأى لوحته، وكانت الخادمة قد شدّت على الطاولة الخشبية العتيقة شرشفا حريرياً ناعماً، ثم وضعتْ في خفة فائقة فناجين القهوة أمامهم، وأمام المدير وضعت كأساً كبيرة من الفودكا، وأعادت ترتيب زهور التوليب الحمراء وهي تثبتها على يسار المدير:
رسمة رائعة
أشار برأسه ولم يكن شعره مصفّفا كما يجب
تكلّمَ المدير عن أشياء أخرى، ابتسمت فتاة ساحرة الجمال كانت تجلس بجانبه كان فنجانها المليء بالقهوة حتى حافته أكبر من فنجانه ساحرة الجمَال كلمة غير دقيقة، في الحقيقة كانت عيناها ساحرتين، وكان شعرُها الأشقر المجعّد ينسدل على ظهرها نصف العاري، وكان ليلك الشفاه فوق شفتيها الناعمتين غير مقزز وكانت أسنانها صفراء ليست بنظيفة، فعلمت بأنها مُدخّنة شرهة، أما ساقاها فكانتا كانتا ماذا؟ لا أدري بالتحديد على أية حال لم يكن مدير المتحف ينظر إلى ساقيها، ربما اكتفى بصدرها شبه العاري، وبدا من ظهورها غير العادي أنها كانت تتقصد ذلك
مرة أخرى قال المدير دون أن يفترّ لي:
ممتازة
أشارت برأسها مرة أخرى، ولاحت ابتسامة عادية من جديد على سحنتها المرهقة، لم أعد أكترث بأسناني غير النظيفة. قال المدير أشياء مثل تناسق الألوان واللمسات الأخيرة بينما كانت جارته ناتاشا تفترّ
في حركة جنونية أبعد المدير زهور التوليب الحمراء بيده، فاستعدت للخروج وهي أبعدت مقعدها في حذر نهضَت. تريد أن تعرف إذا كان المدير سيعلق لوحتها في معرضه في الأسبوع القادم أم لا؟ نظرت في خجل إليه، وقبل أن يتحدث بادرها كمن تذكر شيئاً مهملا
ورسمتكَ أنتَ يا ..هي الأخرى رائعة
تملكه ذهول كابوسي أفقده الكلام، راح ينقل نظرات حائرة وشاردة بين المنتظرين في الصالة المفتوحة أكان يستمد منهم المدد أم يتذمر؟ يدري ولكنه صحا على صوت الساحرة الجمال الناعم
هل يحكي الآن عن لوحته؟
كان يتراجع إلى الوراء متحسسا دربه إلى الباب، بينما تومئ ناتاشا بعينيها صوبه.
عطا الله شاهين




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.