الصفحات

غـياب أخـــرس | عادل المعموري

(من مجموعتي القادمة الركضُ في الفراغ )

ماذا تفعل في هذا المنزل لوحدك ..أتترك كوابيسك تتفرع فوق جدران الصبر ..أما زلتَ تفكر بامرأة هجرتكَ منذ زمن بعيد؟ ..كنتَ تعرف أنها ستفارقك لا محالة ..تطلعاتها لم تكن تعطيك العذر في مهنتك المزرية قبل أن تصبح مدرسا لامعا، تركتكَ تقتات كل يوم على كومة ذكريات متهرئة ،تمسك بحصى الرغبة لعله ينسيك وخز الوحشة والشعور بالفراغ تلك الشجرة التي زرعتها في أول يوم دخلت بيتك امرأة .
الشجرة كبرت ارتعشت أغصانها وتلبّسها يأس البقاء ..تراقبها كلما وقع بصرك عليها
..تحصي أغصانها وأوراقها ورقة ورقة ..طوال بقاءك في داخل المنزل ..عينا ك لا تفارقانها .دمامل أفكارك نمت على عمرك ..تجاعيد وجهك غزتها أشواك الريح ..عزفَ على لون عطرك مطر أهوج بعثر خطواتك على أطراف الغياب ..كرهتَ كل النساء بسبها ..راهنتَ على البقاء بلا امرأة ..جمعتَ كل الصور وأحرقتها ..ومزّقتَ كل رسالة حب كتبتها لكَ ..أجبرتكَ على الطلاق ..ورحلتْ متأبطة رجل آخر يحقق لها أمنياتها بالثراء والترف والعيش الرغيد ..لماذا صرختَ عندما حملت حقائبها ورحلت عنك؟هل كنتَ تحبها.. كم بكيت تلك الليلة عندما رأيتها تمسك بيد رجلا آخر؟
تلك الأصابع الرهيفة كم مرت عليها شفتيك ..أنفاسك كانت تداعب زغب الجسد الجائع ..وأذناك ينهمر عليها عذب الكلام وهمس المشاعر ..هل كانت مشاعر كاذبة ؟متى ستدرك أن الصمت ينمو على قارعة النسيان ؟و أن صراخك لا يجدي نفعاً تحت سقف الخديعة ..من أجل كل هذا كنت ترفض أن تجلس في البيت ..ساعات اضافية تقضيها مع الطلبة ..تواظبُ حتى في أيام العطل على أن توقف نزيف الرقود ..المدرّس الأوّل
في الثانوية ..الجميع يحبك، طلبة ومدرسين ..لاتألو جهدا في الارتقاء بمستوى طلابك ..من فيهم سيرتقي بك في عالم النسيان .من سينسيك وجعك المزمن ؟تلك الفراشة التي تحوم حولك متى ستعطيها ثمرة الحب ..هل ستنسيك وجع الأيام ؟أنت جائع منذ زمان.. هل بقيت لديك رغبة لتحلم بصبية ترتعش على ايقاع كلماتك و محاضراتك المشوّقة ..هل كانت تتسمَّع لهمس شفتيك وتطوف مع نظرة عينيك ؟هل شعرتَ بأنفاسها المتهدجة ورعشة جسدها الفائر ؟
نسيانك يتفوق على العلم والمعرفة ،مثل جسمك عندما يختض لمرآها ..هل شاخت روحك واندلقت عصارة أيامك لتنهي كل شيء يتعلق بالمرأة ؟..الضوء المنبعث من عينيها الشهلاوين أتعيد لروحك الضالّة بعض كبريائها ؟..وحده الصمت الذي بينكما .. يتكلم ..قال كلاما كثيرا ..كم حاولتَ أن تتجنبها وتشيح بوجهك عنها .. شفتاها الصافيتان كنبع ماء عذب كانتا تهمسان لك وحدك ..عيناك نجمتان تشفّان عن أسى خريف يورق بالغواية ..عندما خرج الطلاب من القاعة بقيتَ لوحدك تنظر في رزمة الأوراق التي أمامك ..بيدك القلم تمرُّ على الأوراق ورقة ورقة .
.تقفُ هي عند رأسك تضم كتبها إلى صدرها ..تريدُ أن تقول لك كلاما ..تخونها العبارات وتتدهدج أنفاسها ..تنظر إليك ..عيناها في وجهك تماما ..
_أستاذ ..رفعتَ رأسك نحو منبع الصوت ..التقت عيونكما ..ارتعشتْ الشفاه ..سادت العالم فوضى غريبة ..اختلّ نظام الكون ..توقّف القلم عن الكتابة ..انهمرت الأمطار وزمجرت الريح ..تكسَّرت الحروف فوق قوافي البوح ..استجمعتَ قواك ..اعتدلتَ في جلستك ..تصنَّعتَ الصرامة والهدوء :
--نعم ..ماذا تريدين ؟
_أنا ...أنا.
_تكلّمي ماذا هناك ؟..الجسد يتكلم والشفاه تختلج والعيون تصرخ ..إلاّ اللسان فقد غاب كنجمة بعيدة في ليل بهيم ..
_ عفواً....مع السلامة أستاذ ..قالتها وانسحبت تجرجر خبيئة الأيام في سلة عشق أخرس ..هي تدرك أن مافعلَتْه يُغني عن الكلام ..فقد وصلت الرسالة ..الحب يرى ويسمع له عينان وشفتان .ولكن لاتنطقان ..عدتَ تنظر من جديد للشجرة العجوز تتلمس بيدك أوراقها ..تسأل نفسك ...هل ستزهر من جديد تلك الأوراق الصفر..هل ستقف أيها الجذع المتهالك ..شامخاً كما كنت ؟..هل ستقفْ في مواجهة اليأس ولا تنحني ..
لماذا حبك شجرة هذا العالم ..وأن الأنهار ستمر عبرك لتقفز في جزر الهوى ..هل سيورق الربيع في مرابعك من جديد ؟..ليس كعادتك في هذا الصباح فقد قرَّرتَ أن تمد جسور الوصل بينك وبينها وتنهي كل اختلاجات الروح ..تزينتَ وتعطرتَ وارتديتَ أجمل بدلة عندك ..كنت مزهوا ..يتسلل فرح جميل بين جوانحك ..روحك تنهض من جديد ..قدماك الآن تعبران كل الكواكب والخلجان ..سنابل الفرح تتمايل على ياقة قميصك المنشَّى ...دخلتَ القاعة ..تفحصتَ وجوه الطلبة كلهم واحدا واحدا ..أخفضت رأسك ..وعدت من جديد تحصي الجالسين ..لم تشاهدها بينهم ..اعتراك حزنٌ دفين ..غادرت البسمة شفتيك ..انتهى الدرس وغادرت القاعة ..تبعتكَ زميلة لها..نادتكَ في الرواق :
_أستاذ ..أستاذ ...
_نعم ..تكلَّمي ؟
_(بسمة) لن تأتِ اليوم للمحاضرات المقرَّرة .
__لماذا ؟!
_كانت ُمتعبة لانشغالها مع المدعوين .... لقد تمّت خطوبتها ليلة أمس ..عقبالك أستاذ !
قالت ذلك ونظرة الشماتة ترتسم فوق شفتيها وانسحبت عنك ،كي تبقى وحيدا تجتر أحلاما موءودة لم تسعها تلك الذاكرة التي أضناهاالشوق العتيد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.