الصفحات

الانكماش |عطا الله شاهين

استيقظتْ ناتاشا من غفوتِها وكأنَّها لمْ تنم مدّة كافية، فقدْ كانَ الإرهاقُ مستقرّاً في مناطق مختلفة في بدنها، وما أنْ هدّأتْ المشهد حولها، حتى نطّتْ إلى هامتها صورة حبيبها وحسّه، اللذين لم تستطع التّكيّف معهما، بعد شجارٍ طويل في الليلة الماضية. انتبهتْ إلى حسّ حبيبها في حُجرةِ مكتبه، قومي أيتها الكسلانة. ينتظركِ عمل صعب، حاولي أن تغتسلي بطريقة أحسن، فرائحة الدّهان ماسكةٌ بكِ منذ يوم أمس. مضتْ دقائق وناتاشا تفكّر في المشهد نفسه. حبيبها
الذي يعمل مهندسا زراعيا في مختبر مركزٍ زراعي أعدّ القهوة ليخرجَ مسرعا إلى المختبر، يؤنّب حبيبتها ناتاشا معلّمة الفنّ التشكيلي، التي برحتْ عملها لتنكبّ للوحاتها، ساخرٌ من ولعِها الفنّ التشكيلي كما كان يقولُ أنها ركضتْ وراء أشياء ستنتهي بها إلى البؤس أو الهتر. مرَّرت ناتاشا كفّيها على رأسِها حاكة، ثم قامتْ من تحت لحافها وتوجّهتْ نحو الحمّام، بعد أنْ انتعلتْ حذاءَها المتروك. خرجتْ من فمِها صرخة اندهاش، ألهبتْ التّطفل في قلبِ حبيبها، الذي مدّ رقبته، ليشاهدَ حبيبته التي كانت ترنو إلى الحذاء، وأشارتْ بيديها صارخة لقد كَبُر حذاءي. لم يفهم حبيبها كلامها، وقال من دون أي اكتراث، نزق آخر.. لكن ناتاشا حلفتْ له أنَّ الحذاءَ قد كَبُرَ، وأنّ كُمّي الفستانِ قد طالا أيضا، وبنطالها باتَ يسحل جوانبه من الطّول. شرب الحبيب قهوته، وخرج بحقيبة عدّته صوب المختبر، تاركا وراءه حبيبته ناتاشا، التي عادتْ إلى غرفتها متغطية بالصّمت. أخرجتْ ناتاشا كلّ ثيابها، ثم لاحظتْ أنَّ الثّياب كلها قد كبرت، إلَّا ثياب العمل التي ترتديها في غرفة الرسم. حينها فكّرت مرّة أخرى، وقالتْ في نفسِها متعجبةً: هلْ الثّيّاب كبرتْ، أم حجمي الذي انكمش.
في المساء حين اجتمعتْ ناتاشا بحبيبها مرّة أخرى، وذكّرته بحادثةِ الصباح. ردّ عليها حبيبها بنبرةِ صوتِه المشحونة بالانتصار، ليعلن فيها سدادَ رأيه فيها، ثمّ عادَ لتكرارِ كلماتٍ تعوّدتْ على سماعِها ناتاشا مثل أنتِ امرأةٌ مهملة. هذه نهاية الانعزال والخربشة، فردّت عليه بصوتٍ خافتٍ بعد أنْ بدت عيناها تحمرّ: حالتي أحسن من حالةِ رجُلٍ يعيش مع التّربة والنباتات.. طيشٌ كبير أنْ يعيشَ المرءُ بين عيناتِ تُربةٍ. تعاركا مرّة ثانية، سبّها وسبّته، ثم سارَ إلى حُجرةِ مكتبه المكتظّة بحبيباتِ التُّراب. وهي ولجتْ إلى حجرتِها لتطفئ الضوءَ وتغفو بعد أنْ تذكّرت أنَّ وراءَها غداً رسماتٍ عليها انجازها. في اليوم التالي استيقظتْ ناتاشا من فراشِها لتلقى حبيبها قدْ تركَ المنزلَ مبكراً. أحسّت بالدّوخة حين بدتْ لها الحجرةُ ضخمةً كباخرةٍ، والتَّختُ كساحةٍ. قامتْ على رويّتها، رغبتْ أن تصلَ رجلاها إلى المسطبة فلمْ تقدرا، حينها فحصتْ المنظر، فلاقتْ أنّ المسافةَ بين رجليْها وأرضية الحُجرة تبعدُ ثلاثة أضعاف المسافة. أمعنتْ النَّظرَ في شُعاعِ الشّمسِ الدّاخل، والذي بدوره برهنَ لها بالحُجّة الدّامغة، أنّها لم تكن في منامٍ. تقلّبتْ على ملاءةِ الفرش، وهبطتْ بصعوبةٍ إلى أرضِ الحُجرة، عاديةً نحو كومةِ الثّياب. فاتضحَ أنَّ ثيابَها باتتْ كثيابِ ماردٍ. لمْ تناسب جسدها في تلك اللحظة سوى بذلة الشّغل. أسرعتْ نحو الباب خارجةً صوب الصّالون، كانَ كلّ ما يحيطُها اكبر حجماً من ذي قبل. اضطرتْ إلى عدم الذّهابِ في ذلك الصّباح مترقبةً حبيبها. بعد وقتٍ من الشكّ والانزعاج القاتل. ولجَ حبيبها إلى المنزلِ، ورآها قابعةً في إحدى زوايا الصّالون، فصوّتَ من فمِه قهقهة مرتفعة، آلمتْ أذنيْها اللتين بدتا تتحسسان الأصواتِ بشكلٍ أكبر. كانَ يقهقه ويده تمتدُّ صوبها منتصرا. رفعها كرضيعٍ وأجلسها على التّخت، وكانتْ ترنو إليه وهو يغيّر ملابسه، فرمى عليها سُترته التي خنقتها بحجمها الكبير، سامعة من وراء مسامات السُّترة صوتَ حبيبها المُدوّي بالقهقهة، والبارح شيئاً فشيئاً جوّ الحُجرة صوب الصّالون. في المساءِ لم تلق ناتاشا ثوباً ترتديه غير ثياب العمل المُتّسخة بالأصباغ الخاصة بها، ملتجئة إلى صقعة الجو. تكررتْ سخرية حبيبها بها مرة أخرى، فتدفقتْ هذه المرة صائحة، بصوتٍ يشبه حسّ الرضيع حين ينحب. فردّ عليها حبيبها بليّة أذن شديدة وهمسَ فيها حتى وأنتِ قزمة تُصممين على فظاظتكِ. عاشتْ ذلك المساء الليلة حزينة، وكثرُ كربُها حين حطّها حبيبها في تختٍ صغير للأطفال، كان يوفّره لولدٍ لم يولد.
في الفجرِ تفاجأ حين قعدتْ من وسنِها، وقد لقيتْ نفسها راقدةً على سطحٍ باردٍ وصرختْ مذهولةً حين رأتْ مقلةً كبيرة في ماسورة موجةٍ صوبها تشاخصها من الأعلى. اختفتْ المقلة، وبانَ من وراء الماسورة حبيبها مفترّا. همسَ فيها مبيّنا أنّه حطّها على منضدةٍ زجاجية، في مختبره داخل حجرة الأبحاث الخاصة به. لقد باتْ حجم ناتاشا صغيراً جدا، لدرجةِ انعدامِ مشاهدته بالعينِ المجرّدة. قبل أنْ يخرجَ حبيبها إلى المختبرِ في مركزه الزراعي، رمى صوبها بأوراقٍ من نباتات الخضار وهمسَ: هذا طعامكِ، تغذي فأنتِ بحاجة إلى أكلٍ كيْ لا ينكمش حجمكِ أكثر. بعد مرور وقت كافٍ وحين عاد الحبيب من عمله، لقي حبيبته ناتاشا ترقد ملتحفة ذراعها، وقد بهتَ محياها. نبّهها بدقاتٍ على الطاولة أفزعها من رقادِها. بدأت تلوح للمقلة التي تطالعها في حجرة مختبره. رغبت في الحديث معه، لكنَّ حبيبها لمْ يقدر سماعها، ثم تركَها بعد أنْ أطفأ نورَ الحجرة ، وقد سترَ جوّ الحجرة بسدنة دامسة.
في صباح اليوم التالي، قام الحبيب من سباته، أعدّ القهوة، شربها برفقة صوت جرس الكنيسة، وهو يفكر في حبيبته ناتاشا النائمة في غرفة المختبر. رنا إلى باب الحجرة مطولا قبل أن يقرر الولوج. قام نحوها ليشاهد ماذا ألمّ بحبيبته النائمة هناك. أشعلَ نورَ الحُجرة ، وحدّق فيها، لم ير شيئاً غير أوراق نباتات الخضار المقطعة. أطفأ حجرته، تناول حقيبة عمله وخرج من المنزل، وهو يفكر في محاضرته معاينة تجربته الأولى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.