الصفحات

طقوس اجتماعية | فاتن ديركي


في يوم الزفاف كانت علياء تنزل الدَّرج لتصل إلى قبو فيه صالون كبير لتزيين وتحضير العرائس.. استقبلها موظفو المركز بحفاوة.. دعيت للجلوس على كرسي الحمَّام لغسل شعرها أولاً..
كان كرسياً من نوع خاص, جلست عليه ليستقبل جسدها المتهالك ويحتويها بحنان.. ضمِّها بين راحتيه فأمنت له, سكبت عليه حملها الثقيل, وعلى رقبته أسندت رأسها واستسلمت لنعومة المياه الدافئة تغسل شعرها البني الطويل ..
تمنَّت أن تتغلغل المياه إلى داخل رأسها المكتظّ بالهموم والأفكار والذكريات , أن تنظفه برفق لترفع عن صدرها ذلك الحجر الثقيل الذي يمنعها من التنفس ..

عادت إلى الصالون الواسع لتجلس أمام مرآة كبيرة عرض الحائط, مستسلمة لمزيّنة الشعر وهي تعمل بخفة وإتقان..
المكان كان مليئاً بالنساء والفتيات , لكنها لم تكن لتسمع أصواتهن.. هي فقط تقرأ تعابير وجوههن من خلال المرآة وهن يضحكن ويمرحن ويثرثرن, ويحرِّكن أيديهن وهنّ يشرحن لعاملات المركز كيف يُرِدْنَ لتصفيفات شعرهنّ أن تكون..

لم تكن تعير اهتماماً لضجيجهن الأنثوي.. لأنها كانت تقاوم في رأسها ضجيجاً من نوع آخر.. ضجيجٌ يحفر في أذنيها بمعولٍ من حديد, ليصنع قبراً لأحلامها.. ضجيجٌ لآمال تموت, ولأمنيات تُهزم..ضجيج لأفكار متهاترة تهوي بها في عالم الحيرة والتشتت والضياع ...
أحسَّت وكأنَّها تتلاشى وسط زوبعةٍ ضخمة وهي تتخيَّل الطقوس الاجتماعية تنتصب أمامها كمخلوق له ملامح غريبة, يبتسم ابتسامة ساخرة وكأنَّه يجبرها على أن تبتسم له ابتسامة الخنوع.. ابتسامة الرضا المكلَّل بالهزيمة..
انتهت منها الصبيَّة المسؤولة عن ماكياج العروس.. وضعت أصابعها أسفل ذقنها ورفعته برفق لتتأمل ما أبدعته يداها .. نظرت إليها نظرة رضى وهي تقول: هاقد انتهيت..
تحلَّقت حولها النسوة والفتيات تتأمَّلنها بإعجاب.. ياه .. ياله من ماكياج رائع , كم هي تسريحتك مدهشة, يالك من عروس جميلة...
أعادتها تعليقاتهن إلى الواقع.. نظرت إلى وجهها المثقل بالخطوط والألوان..كانت تبحث في دهاليزه عن علياء الصغيرة.. آه.. ألا تنتهي حكاياتنا مع الأقنعة...؟!
في تلك اللحظة أضاءت في عينيها شرارة أشرق لها كيانها.. قالت وهي تقوم من مكانها بسرعة: سأذهب إلى الحمام..
في ذلك الحمَّام الصغير وقفت علياء تنظر إلى نفسها في المرآة.. كانت في تلك اللّحظة قد اتخذت قرارها.. في الحال فكَّت شعرها المرفوع بالدبابيس والمتوَّج بتاج العروس.. وضعت التاج جانباً, ثم مالت برأسها إلى الأمام وهي تفتح صنبور الماء.. أخذت تغسل وجهها وشعوراً بالانتعاش يمدُّها بالفرح والسعادة..
جفَّفت وجهها بمحارم ورقية كانت على جانب المغسلة في علبة أنيقة, وتسلَّلت بهدوء خارج الصالون بينما كان بعض النسوة يغادرون.. زجّت نفسها بينهن وخرجت دون أن يلحظها أحد..

في الخارج.. كانت أقدام الريح تهرول في أذنيها مطاردة فكرة ما بدأت تلوح في ذهنها , فكرة بدأت تنبلج كنور الشمس ساطعة قوية.. أسرعت تصعد البرج الذي يستقر في أسفله مركز العرائس.. وصلت إلى السطح, واستسلمت بخدر لنسمات الهواء تداعب شعرها ووجنتيها الرطبتين...
أحست بقشعريرة تسري في جسدها.. أخذت شهيقاً عميقاً وهي تغمض عينيها .. ياه كم من الوقت مضى دون أن تستنشق هذا الهواء..؟! إنه عبير الحرية.. عبير الحياة.. الحياة الحقيقية التي لا تفرض علينا أن نكون كما يريده الآخرون..الحياة التي تشبهها هي ولا تشبه أحداً غيرها ...

وقفت على سطح البرج الشَّاهق وهو يقف شامخاً وقد ركعت تحت قديمه المدينة
الصغيرة.. مدَّت يدها لترمي شيئاً تقاذفته الرياح..
أطلت برأسها من الأعلى, تراقب الطقوس الإجتماعية وهي تهوي إلى الأرض.. لتتطاير بعدها فراشات ملوَّنة تغزو الفضاء, ثم لتحطّ على ظهرها وترفعها إلى الأعلى حيث الشمس والقمر والنجوم..
هناك في أعالي السماء.. تبحث عن علياء الصغيرة التي نسيتها لوقت طويل لتعيد لها أجنحتها الزاهية لتطير بها من جديد...

من مجموعتي القصصية : رسالة اعتذار من طائر الفينيق .. من قصة : طقوس اجتماعية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.