الصفحات

من " أزهار الخشخاش " | صفيّة قم بن عبد الجليل، تونس.


... عندما تتصحّرُ أيّامي وتبيضُّ لياليَّ وتكتظّ بكَ أنفاسي ويستبدّ بي الحنينُ إليكَ... أهرعُ إلى لقائكَ لقاءً به تبتلُّ جوانحي وترقص جوارحي: أهيّئ لي ولكَ مجلسا أبهى من مجلس هارون الرّشيد وأشدَّ سحرا من مجلس بلقيس وآنق من مجلس " مدام دي ستايل"! أتدري لماذا؟! لأنّه سيضمّنا نحن الاثنين، أنا وأنتَ لا غير، لا غير... عفوا، بل سيكون زادنا، زادي ذكريات، ذكريات تتأجّج أنواؤها فتُمطر رذاذ شوق وبَرَدَ تَوْقٍ لذاك الماضي الجميل...

ها أنا أعلّق على نافذة الغرفة المطلّة على حديقتنا تلك السّتائر السندسيّة الشّفيفة الّتي تُحبُّها وأضع المفارش والطّنافس الّتي تهواها وبالرّكن المقابل للنّافذة أتعهّد تلك المزهريّة الكبيرة بذات الزّهور التّي تروق لك؛ أتدري كم طفتُ بالمدينة لاقتنائها؟! جلّ بائعي الزّهور سألتهم عنكَ، عفوا عنها فما ظفرتُ بأدنى ريح حتّى أنّي فكّرتُ في زرعها بحديقة البيت حتّى يظلّ بأريجكَ، بأريجها يتضوّعُ، لولا أن وجدتُ بعضها عند أحدهم، ذاك الّذي في ركن من نهج قصيّ! كانت فرحتي بها كمن ظفر بكَ بعد طول سفر! سألته عنها وكأنّي أسأل نفسي عنك، فأجابني باقتضاب شديد: "هي نادرة، سيّدتي وخاصّة في هذا الفصل!"
تعمّدت الإلحاح في السؤال: " ولمَ هي نادرة؟ وكيف ظفرت بها دون بقيّة باعة الزّهور في كامل أرجاء المدينة؟! "
نظر إليّ مليّا وقال: "هي تشبه أزهار الخشخاش... ويُخشى... ! "
قاطعته: "أزهار الخشخاش؟! أتقول أزهار الخشخاش؟!"
ظلّ يحملق فيّ ببلاهة بينما دفعتُ له ثمنها وقفزتُ إلى الخارج برشاقة طفلة لمّا تُدرك كنه الحياة وأسرارها...
" أزهار الخشخاش " ياه، ياه... إنّها لتذكر جيّدا سانية أبيها وأعمامها وجلّ السّواني المجاورة لها. هناك، كانت تنبت أزهار الخشخاش بكثافة. مجاريف عدّة تكتسحها وما كانوا يستطيعون لها صدّا ولا يجدون لوجودها نفعا، وكلّما اقتلعوها مع الأعشاب الطفيليّة نبتت من جديد وربت... وكنّا نحن الأطفال نقطف منها باقات ونتبارى في من يكون أبرعنا في تزيين باقته بشتّى الزّهور البرّيّة الأخرى كشقائق النّعمان والشيح والزعتر والأقحوان... كنّا نجتهد أيّما اجتهاد في تأليف الألوان وتناسقها وكثيرا ما كان يغيظ بعضُنا بعضَنا فتتوتّر الأعصاب وتكون خصومات تنتهي برفس بعض الباقات أو نثرها للريح تعبث بها! أمّا الباقة الأجمل فكانت تُهدى إلى أمّنا أو جدّتنا الّتي نحبّها حبّا جمّا إذ كانت تؤثرنا بكلّ ما لذّ وطاب من فطائر " السفنج والملاوي والملثوثة والرّفيسة و... " رحمها الله لقد كانت بارعة وحنونا.
... أفقنا ذات يوم ربيعيّ صحو على أصوات كثيرة وهرج ومرج ودخان يصّاعد هنا وهناك... لم يكن أحدٌ بالدّار غير الأطفال: أنا وإخوتي وأبناء أعمامي. تساءلنا عمّا يحدث! أين الأمّهات والآباء والجدّة؟! أتراهم نزلوا جميعا إلى المدينة وتركونا هنا بالسّانية؟! ولكن ما ذا يحدث هنا وهناك؟! رائحة الدّخان تزداد واللّون الرّماديّ يتكاثف ونحن نتناظر في خوف ورهبة...
بعد مداولات وتخمينات قرّرنا أن ننزل حيث البئر ونستطلع الأمر، رغم تحذيرنا دوما من الاقتراب منها!
عبر موجات الدّخان المستشرية في كلّ الحقول لمحنا أشباحا تزيد النيران اشتعالا! حثثنا الخطى، السانية تحترق! أبي وأعمامي ومعهم جمع من الخمّاسة والربّاعة الّذين ألفناهم يحملون أكياس التبن والقرط وأغصان الأشجار اليابسة لتزداد النّارُ اضطراما في حقلنا! صحنا وصرخنا جميعنا حتّى بحّت حناجرنا ونحن نرى أفواه النيران المتوحّشة تلتهم بشراهة ضارية أزهار الخشخاش الّتي أحببنا لونها الورديّ المائل إلى البنفسجيّ وبراعمها الشبيهة ببراعم الرمّان أوّلَ نشأتها! وما إن تفطّن إلينا الرّجال حتّى صرخوا بنا مهدّدين أن عودوا إلى الدّار حيثُ الأمّهاتُ! يومها بكى بعضنا حسرة على أزهار الخشخاش وبكى بعضنا خوفا من النّار ورهبة، أمّا أنا فقد أصابني ذهول لا أدري مأتاه وظللتُ سنين أسأل والدتي عن سرّ الحريق فلا تزداد إلّا حرصا على كتمانه وإمعانا في تهديدي بأشدّ العقاب لو أخبرتُ أحدا بما حدث!
حتّى التقيتُكَ، ذات ربيع، أتذكر...؟!
هناك، بشارع الحبيب بورقيبة العظيم، كانت أولى هداياك تلك الزّهرة الورديّة البنفسجيّة البديعة! تلك الزّهرة ارتجّ لها كياني! أهي المفاجأة؟! أهي الذّكرى؟! أهو سطوك عليَّ غرّة؟! ما كنتُ مستعدّة لأيّ مغامرة عاطفيّة وكان كلّ همّي ومنايَ أن أدرس وأن أتفقّه في علوم لغة عشقتُها منذ طفولتي المبكّرة وأن أقطف الشّهادات وأن أفي بوعد قطعته على نفسي، بِرِّ والديَّ ومساعدتهما على تربيّة إخوتي زغب الحواصل، وأن أحقّق مطمحا بات حلمي اليتيم: نبوءةَ معلّميّ وأساتذتي!
تلك الزّهرة أوقفت دمي في شراييني وتسارع لها نبضي وركض... ركض ركضا حتّى صرتُ أسمعُ إيقاع سنابكه فيتلوّن عليه الكلام المتلجلج في صدري! يومها لفّتني دهشة وخدر ما عهدتهما وما استطعتُ لزهرتك ردّا! لم تكن الزهرة المفضّلة عندي؛ كنتُ أميل إلى الورود الحمراء الدّاكنة وكنتُ أحلم بزنابق سوداء! ما فكّرتُ يوما في فصيلة الزهرة التي سيهدينيها حبيبي ولا في لونها، لأنّي ما فكّرتُ يوما في أن أٌحبَّ، بل كنتُ حذرةً كلَّ الحذر من أن أقع في " تلك المصيبة الزرقاء " الّتي ابتلي بها بعضهم حتّى جُنّوا وتاهت بهم السُّبلُ... ما أذكره ليلتها وقد لذتُ بفراشي بالمبيت الجامعيّ باكرا، على غير عادتي أنّ زهرتك تلك أسرت بي على أجنحة من قوس قزح إلى غابر طفولتي المنسيّة... فإذا بي أطير معك وأحلّق شاهقا في أجواء رومنسيّة ساحرة، وأُصغي إلى كلماتك المتلعثمة الحييّة حينا والجريئة آخر وكأنّي أُصغي إلى تراتيل آتية من السّماوات العليّة... بوحكَ كان وحيا وكنتُ أنا النبيّة! زهرتكَ تلكَ حوّلتني إلى فراشة بهيّة تباهي بألوانها السنيّة كلّ لِداتها وجميع خلايا النّحل التّي أضحت تطنّ بأذنيّ فلا يصلني نداؤك إلّا همسا رفيقا شفيفا...!
أفّ، أفّ... لقد نسيتُ أن أقتنص لك الفراشات من الحقول المجاورة لبيتنا إن لم أجد بعضها بحديقتنا! أعلم أنّك مثلي يروق لك طيرانها وحطّها وتنقّلها من زهرة إلى أخرى... ها أنّي أراها ترتع جذلى قرب شجيرات البرتقال والبرقوق... أُوشْتْ! سأحتال عليها وهي تتبختر مختالة بجمالها! سأقتنص لك أبهاها! لن أضعها بين دفّتي كتاب أو كرّاس حتّى تقضي نحبها ولن أحبسَها في صناديق الكبريت كما كنّا نفعل ونحن أطفال بالصرّار منتظرين شدوه! ذاك الصرّار كان مذياعنا عند القيلولة، كم كنّا نطرب عندما يغنّي من سجنه الذي أحكمنا غلقه! سأمنحها حرّيتها وسأجعلها زينة المجلس، وسأضع لها الزّهور في كلّ مكان حتّى أوهمها بأنّها لا تزال بالحديقة! كم أنا محتالة لئيمة! تاللّه ما فعلتُ هذا إلّا من أجلك! ما حيلتي وأنتَ البعيدُ القريبُ ، الغائب الحاضر؟!
ـ يتبع ـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.