الصفحات

الإسكافيّ |عطا الله شاهين

ذات مساء أتى إسكافيٌّ إلى أحياءٍ المدينة الفقيرة، ومرّ في أزقّة بيوتِ مسقوفة بالصّفيح، ورأى بأنّ شيئا ما تغير فيها، وأن شيئا ما قد حلّ بها.. وشاهد عيون القاطنين هناك سالتْ دموعا من زهوها، وقف الإسكافيّ هناك وحزن من مشاهد البؤس التي رآها فهذه الأحياء تزداد فقراً.
وقف الإسكافي على مدخل ساحة متوسطة الحجم وشاهدَ أمامه في سكون، أولادا كانوا يلعبون كرة القدم، ورأى الاحتراف بادٍ على قلة منهم .

المكان الذي كان يقف أمامه الإسكافيّ أفضل من أماكن توجد في الجهة الشرقية من الحي الأفقر، الذي رآه قبل فترة من الزمن، حيث هناك رأى مسطّحات مخفية باهتمام تُستخدم للسقي، بينما رأى أحواض الخضروات التي في وسط الحي الفقير تسقى من بئر ماء بطريقة الضّخ اليدوي، وخلف ذاك البئر، مباشرة، شاهد الإسكافيّ قبرا مبني من الحجارة، وكانت عليه لافتة كُتب عليها باللون الأحمر: الولد الرمز، وفوق تلك اللافتة كتبت كلماتٍ بخطّ رقعة مبهر ظهورنا حمى ودماؤنا حرام، فلماذا تُقتّلوننا؟، وتمكن للأإسكافيّ أن يرى من مكانه رجال الأمن، وهم يحاولون منع تجمع من المارّة من الالتفاف حول مخرجٍ سينمائي جاء لكيْ يقوم بتصويرِ مناظر من المكان، للذاكرة على ما بدا..
فقال الإسكافيّ في ذاته الذاكرة المرئية على ما يبدو لا تحملها إلا الهوامش.. ورأى على طرف القبر رجلا طاعنا في السنّ يسند ظهره إلى القبر وبدا عليه الحيرة.. كانت مقلتاه تدوران في محجريهما. وحينما كان المُخرج يثبّت عدسة الكاميرا على محياه كان الرجل الطعن بالسنّ يميّل هامته.. في تلك اللحظة، كانتْ تشقّ ذاكرة الإسكافيّ صفوف طويلة من السطول والمشقة الشديدة.. وشاهد رجالَ الأمن بعصيّهم الخشبية وبساطيرهم المعبأة بالغضب يحملون السكان على الاصطفاف في طابور أوعية على الرؤوس، ظمأ أجّج القلوب وعويل ..
وعلم الإسكافيّ بأن مواسير الماء المسدودة، بأمرٍ، وأنه على كافة الأهالي للحصول على جرعة ماء لا بدّ من تقديم العطايا أو الرشوات .. وقد تكفي الصفعة والشتيمة للمحظوظين مِنْ الذين لا يملكون أن يقدّموا شيئا.. كان الإسكافيّ يقف، آنذاك، بعيدا، ورقبته قد تنمّلت من شدّة التوتّر.. وشاهد فتاة حامل خرّتْ من التّعب فانخرم النظام .. كانت تندفع أذرع متطوّعة لإعادة ضبطه بالأساليب التي تناسب الوضع، أوعية على الرؤوس، ظمأ أجّج القلوب وعويل .
وشاهد الإسكافيّ امرأة كانتْ تمر وقد أثقل كتفها جسد صبية.. من الصعب على الإسكافيّ جمع صورتهما في ذهنه، ولكن سحنة المرأة قطعاً لا تختلف كثيرا عمّاما رآه.. فشفاه الصبيّة رآها ابيضّت من الظمأ. كانت تتمتم برجاء: قليل من قطرة ماء، والمرأة راحتْ تثبّ هنا وهناك، وكانتْ تحاول افتكاك الماء عنوة، لكن العصي كانتْ تصدّها.. كانتْ المرأة قرب بئر الماء تتعثر، وكأنّها تتنصّت على دقّات قلبها، ومرّرت راحة يدها على ظهر الصبية بينما كانتْ تصرخ وتنحب: لا تموت يا طفلتي، أريدك أن تشاهدي المروج، وهي تفور جداولا.. ابقي معي، يا ابنتي، ولا تفارقيني حتى نشاهد المروج سوية وهي تفور جداولا.. أوعية على الرؤوس، ظمأ أجّج القلوب وعويل.
كانت المقل تدمع وتتشنّج الأعصاب في السرّ، ولا أحد يقدر على فعل شيء..أنتَ، أيّها الإسكافيّ، فقم إلى أحياء المدينة الفقيرة فأحييها.. كانت تدفعه نفسه، كيْ ينطلق الإسكافيّ صوب المرأة.. وقام وأزاح يدها وحمل جثّة الصبية .. كانتْ باردة كالجليد، مال على المواطنين، تفرّس في سحناتهم .. ملعونة هذه الرائحة .. ملعونة الأرض التي حملتهم.. التفت وبخطى متعثّرة اتجه نحو ضابط الأمن، فتسابقتْ إليه الأرجل لتمنعه عنه.. هتف فيهم قائلا ظهورنا حمى ودماؤنا حرام فلماذا تقتّلوننا، بانتْ شبه ابتسامة ساخرة، وتلاشتْ من على شفتي ضابط الأمن. وباستهزاء ردّ: معذرة إلى شيوخنا ولعلكم من معاندة رؤوسكم تحيدون.
قال الإسكافيّ: إنكم، بذلك، ترتكبون خطايا، فقهقه ضابط الأمن كالمسعور حتّى بانت ثنيته، وردّد بصوت عالٍ: وستكبر معكَ خطايانا.. ستكبر معكَ خطايانا، ثمّ أشار بيده إلى رجاله فسحبوه من رجلِه على الطين، وراحوا يركلونه ويتفّون على محياه حتّى غُمي عليه.. في المساء، كان الإسكافيّ قد توارى تماما وكأنّ السماء قد أخذته إليها.
قرص الشمس كان ينحني نحو الأفول، وظلال الأولاد بدأت تسير نحوهم أكثر، فنظر الرجل الطاعن في السنّ وقال:
هذا وقتٌ سيّء، كنّا فيه صغارا وهم جبابرة يملكون الماء والدلو. حنفية في ذات هذا المكان، كانوا يشرفون عليها بأنفسهم، ويجدون متعة في إهانتنا.. كنّا نطوف حولهم، نتساقط كقطرات العرق في طينهم، وحجّتنا في ذلك أنّ المدينة يبس، محترقة ومواسيرها جافة تفيض ظمأً.. كنتُ قد أوعظتُ امرأتي بورق الشجر. كنتُ أسري في الطرقات لأحمل لها منها ما يكفي لصنع شراب يُذهب الظمأ عنّا، رغم علقمه. ورغم أن الأرض كنتُ أراها جافة، إلا أن الأشجار كانتْ مورقة بلونها الأخضر.. وهذا ما جعلني أن لا أيأس البتة.. وذات ليلة، تسللت لأقطف من الأشجار أوراقها، وانحدرت من زقاق إلى زقاق متنقّلا من شجرة إلى شجرة، بحثا بين الأغصان، فلم أعثر على شيء، فقلتُ: أمعقول أن تتجرد الأشجار هكذا دون أن نلتفتَ إليها؟ أيمكن أن يحلّ الربيع في يوم وليلة؟ إنّه أمر لا يكاد أن يُصدّق.. احترت في أمري، والأمل كان يغرّر بي حتّى تعبتْ رجليّ فرجعتُ أدراجي، وكانت تخامرني أفكار كثيرة..حينما أعلمتُ امرأتي بما أسفر عنه تجوالي، ضرتْ وجهها وشتمتْ الخيانة، ثمّ بقيتْ مدّة من الزمن ساهمة تعضّ على شفتيها وتمتمت بكلام أدركتُه فيما بعد .. لم أعاتبها على ما صنعتْ، فنحن لم نقدر أن نكتم سرّا عن جيراننا، لا سيما إذا تعلّق الأمر بحفظ كرامتهم.. غير أنّ ولدي صغير لا يعرف للتكافل معنى ولا يقدر التصبّر مثلنا.. فقد أقلقني بصياحه المستمرّ، وعويله الطويل وكان يقول والدي..والدتي.. أريد قطرة ماء.
فمواسير أحياء المدينة الفقيرة ما زالتْ جافّة، فمن أين لنا الماء؟ وها هي تفيض ظمأ، وأشجار أحياء المدينة باتت جرداء وموحشة. أرقدْ، يا ولدي، فغدا ستفور المروج جداولا. ستحبل أحياء المدينة الفقيرة غدا، ولن يلتهم أهلها أعشابها.. كنتُ أكلّم نفسي وأنسحب تاركا امرأتي تحتضنه.. وكانتْ تدسّ حلمة ثديها في فمه وكان يتقيّأها.. كانتْ تقرّبها إليه مرة أخرى وكان يدفعها بيديه طالبا الماء، وتوقّف الرجل الطاعن بالسنّ عن الكلام.. ولصق أظافره في مفرق شعره، وراح يكزّ على أسنانه، وحاول أن يخنق دمعة بدأت تلمع فوق وجنته.. في الأثناء، تقدّم الإسكافيّ مدنوا من القبر وقد بلّل رذاذ الماء جانبا منه محدثا وقعا موسيقيا إيقاعيا مع دافع السؤال: قد لقيتُ الماء أخيرا، فهل تراك إرتويت؟ دنا الإسكافيّ أكثر ليعلم، فاتجه صوبه رجل أمنٍ كيْ يمنعه من التحرّك نحو المساحة الممنوعة.. بتمهل صرف الإسكافيّ محياه بعيدا، إلى هناك.. بعيدا عن هنا وذهبَ.. بينما واصل الرجل الطّاعن بالسنّ كلامه وقد ازداد المواطنون التصاقا به إلى درجة الغصّة : هذا وقتٌ سيّء كنّا فيه وما زلنا..




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.