الصفحات

جريمة المستعمر | د. عبد العزيز بوشلالق جامعة المسيلة الجزائر


في قرية صغيرة هادئة، تعانقُ فيها قممُ الجبال غيومَ الشتاء القادمة كلّ مساء، ويشكلّ شجرُ الأرز لوحة يختلط فيها الواقع بالخيال ، فكلّما مدّ الإنسانُ بصرَه إلى الأفق احتضنَه منظرُ الثّلوج التي تتدلّى في انسجام تامّ مع أغصان هذه الأشجار، شأنُها في ذلك شأنَ أشجار البلّوط والسّرو.يعيشُ أهلها ممّا يجمعونه من أشجار الزّيتون التي تتعرّجُ منخفضة من أعلى الجبل إلى السّفح أين توجدُ هذه القرية، سي (صالح) ابن الزّاوية والحافظ لكتاب اللّه، أخذَ المشيخةَ عن والده سي (الطيّب)،
كان يؤمّ النّاس في مسجد القرية الصّغير، وكان يرعى شؤونهم الدّينية، من تدريس القرآن والتصدّي للفتوى وعقود الزّواج والصّلاة على الجنائز. يضاف إلى ذلك تكليفُه من طرف جيش التّحرير بالقضاء بين المتخاصمين، خفية عن المستعمر الفرنسي، رُزق سي ((صالح)) بثلاثة أولاد، أكبرهم ((صابر))، كان نسخة من والده، أخذ عنه العلمَ والتّواضعَ، وكان يُعدّه لخلافته، اختارَ له (كلثوما)) ابنة أخيه الأصغر (بشير) زوجةً، وافق على طلب والده، ودخل بها، كانت متوسّطة الجمال، تشبهه في تقاسيم الوجه، لكنّها بأخلاقها وهدوئها وطاعة عمّها وزوجته، وكذا زوجها، كَبُرَتْ في أعينهم، وأصبحتْ لها مكانة عالية عندهم، كانت كثيرةَ الحياء، قليلةَ الكلام، لا تقف في وجه أحد منهم، وإن كان على حساب نفسها أو حقٍّ من حقوقها. تعيشُ العائلةُ في جوّ الاحترام المتبادَل والتّعاليم التي تتجسّد في أقوال وأفعال سي ((صالح)) وأهل بيته، فلا يُرى أحدُهم إلاّ ملتزما ومطبّقا هذه التّعاليم، أليسوا قدوةَ القرية ومثَلَها الأعلى. مرّت السّنوات مسرعة، وكلّما مضتْ واحدةٌ انتظر(صابر) وعائلته مولودا يزيّن بيتهم، ويُدخلُ الفرحةَ عليهم، لكنّهم يعودون أدراجَهم بعد أن يتأكّدوا من عدم وجود حمل، كانت السنّوات الخمس طويلة جدّا على صابر، ففي كل مرّة يمنّي النّفس أماني، سرعان ما تتحطّم على جدار الواقع. في يوم من أيّام الصّيف الحّارة تبدأ بعض الآلام تعكّر صفو ((كلثوم))، بدأ جسمها في الذّبول، وشهيّتها تضعف تجاه الأكلّ، وأصابها نوع من النّفور، لم يعرفوا حقيقةَ الأمر، أحْضَروا طبيبةَ القرية، وكانت عجوزا حكيمةً، تُشرفُ على توليد الحوامل ومداواة المرضى، لمّا فحَصَتْها، وبخبرتها المعهودة أخبرتهم بحملها. دبّتِ الفرحةُ من جديد في نفوس العائلة صغيرهم وكبيرهم، وبدأ الاستعداد لاستقبال المولود الجديد. دار الفلك دورته وحلّ الشتاء من جديد بثلوجه وعواصفه، فلو لو تكن هذه الدورة الفلكيّة طبيعيّةً لتَجَدُّدِ الحياة في الرّبيع، لقيل: إنّها نذيرُ شؤم لهول ما نزل من أمطار وثلوج، وما زمجر من ريّاح ورعود. حلّ الضّيفُ المنتظَرُ، كان آية في الجمال يتوردّ خدّاه احمرارا كأنّهما عُصرا عَصرا، ويشعّ النّورُ من عينيه الزّرقاوين، أمّا شعره الرّقيق فكأنّه عُجِنَ بماء الذّهب، لم تصّدقْ العائلةُ ما رُزِقَتْ به، حتّى أصبحوا يُخْفُونَهُ عمّن يزورُهم بحجّة أنّه نائم، أو مريض خشيةَ العين والحسد، ولجماله الأخّاذ اسماه جدّه (يوسف) تيمّنا بالنّبي يوسف عليه السّلام، لم ينجبْ والده بعده، كَبُرَ الولدُ في هذا الجوّ وعلّمَتْهُ أسْرَتُه تعليما يليقُ بمقامه ومقام العائلة، وكان من أوائل الدّفعات التي درستِ الطبَّ بعد الاستقلال مباشرة، تخرّج وذاع صيتُهُ بين سكان القرى والمدن المجاورة، فكان لا يتردّدُ في تقديم المساعدة لكلّ محتاج. مَرِضَ والدُه (صابر) مرضا لازمه مدّة طويلة، ولم يُعْرَفْ له سببٌ، ممّا جعله يقرّرُ أخذَهُ إلى العاصمة، حجزَ له سريرا في مستشفى عام، وبدأ بإجراء فحوصات وتحاليل مختلفة علّه يقف على علّة والده، ومن بين التّحاليل ما كان مرتبطا بالكلى والمسالك البوليّة، وهو يتفحص التّحاليل تنقبضُ أساريرُ وجهه، كأن شيئا يعصره عصرا، يصيبُه الدّوار، يُمسِكُ بمقبض السّرير، يتماسَك حتّى لا يَظهرَ ذلك على وجهه، يخبّئ الأوراقَ في جيبه، يعيدُ التّحاليل، ويُشْرِفُ عليها بنفسه، يجدُ النتيجةَ نفسها، يزدادُ انقباضُه، ويكتمُ ذلك في نفسه، يعيدُ الكرّة للمرّة الثالثة في مختبر خاصّ، يُصْدَمُ للنّتيجة. يتماسك ويكملُ إجراءات العلاج حتّى شفاء وخروج والده، عاد أدراجَه إلى القرية، ولّمّا وصلا أخبرهُم أنّه مقبلٌ على السّفر في بعثةٍ علميّة إلى الخارج لا يَعرِفُ مدّتَها. في اليوم الذي يسافر فيه استغلّ فرصة غياب الجميع عن البيت، وانتحى جانبا بوالدته، نظر إليها مليّا، ثمّ سألها: من والدي؟ لم تعرفْ بما أصيبت، وبم تجيب، كرّرَ السّؤال وأخبرها بالتّحليل الذي يثبتُ بما لا يدع مجالا للشكّ من أنّ والدَه لا يُنجِبُ، فمن يكون والدُه، لحظتَها انهارتْ وأخبرَتْهُ بالدّورية الفرنسيّة التي طوّقتِ القريةَ، وكان بيتهُم من بين البيوت المعنية بالتّفتيش بحكم الاشتباه في جدّه، لأنّه مع جيش التّحرير، وأنّ الضابط الفرنسي قام باغتصابها، وجنودُه وعساكرُه تقومُ بالحراسة بالخارج، فلم تستطعْ الإخبارَ بما حدث خشية العار والفضيحة، أقسمَ (يوسف ) عليها أن تبقى محافظةً على شرف هذه العائلة الكريمة، حمل حقيبَتَه وودّعها دون رجعة. 18 سبتمبر 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.