ْ كم مؤلم لمس الجرح وهو ينزف لحظة ممارسة لعبة الجنون، فالقلب المثقل بالهموم إن عصفه الفتور قصف قلاعا دون جور. فاحذر من سهام الغدر فهي سم جسور. فإن قطعت وريد الود سرت في الدرب عنود .فلا تلعب بجدائل قلب مبتور، فالمشي على الألغام لا يخيف بقدر فجيعة قناص يغتالك من باب الغرور،ويطلبك للموت بسرور، فعناده يحرق أفراحك في قلب الوفاء المبتور، ويعبر ضفافك بسلاح لم تحمله يداك يوما، ولو من باب الفضول منتقما من حب راسخ يلاحقه دون عدول.
القيصر خالد منحدر من سلالة الأباطرة، لا يدري مجيئه...؟أبمحض المصادفة التي جعلته يتغيب وراء الجبال، ويتوحد في حب متطرف يقيم على حافة النسيان، أم مجرد رغبة منهكة من
الأزمات تبحث عن ارض تستوطنها بوجوه منكسرة. فروح الانتقام جعلته يفضل النوم في حضن جرائمه المتكررة لا احد يعرف نواياه، فأعماقه تتجاوز البحار والمحيطات يسافر بين ضفائر أسراه بدون تأشيرة مدونا على صفحاته احتمالات مميتة تحيي مشاعر مستقرة.وفي قلب الخديعة تراه مستسلما لسطو الصمت، وكلما استيقظت رجولته هرول لفتح باب الخطيئة تاركا بينه، وبين غريمته مسافة تمنحه الوقت الكافي للمرور بمحاذاة الشوق، واختبار ذلك الجسم المحموم الذي يتوسد قارعة الرصيف معلنا حالة طوارئ بقرب النهاية، ما ينبئ بتقاطع تفاصيل مبتذلة للهفة عاشقة تلاحق حب تغذى على مجاعة، وارتوى من الجفاف بينما يكسب ما يكفيه من السخاء العاطفي وملأ رصيده الوجداني وترك ضحيته تئن ،فيرثيها بصوت متقطع قائلا: سامحيني إن جعلتك تئنين تحت أحلامك المزهرة ، واغتصبت أفراحك المؤجلة، ثم يمرر على هيكلها نظرته الماكرة ، وعلى مدى البصر يسكب رماد خطيئته لعله ينجو من سطوة الطيور السوداء التي تحوم حول قلبه ،فينتحل الصمت سلاحا ،ويختفي خلف أسوار معسكره لتجميل حقائبه البالية ،وكلما شعر بالجوع وضع في أول الشارع لافتات زائفة لإغراء عاشقة تنام على حافة الاحتراق ، فيتعمد رسم حدود رجولته على مقاس أنوثتها، ويسكب على شفاهها لهيبا يوشي برغبتها السرية في التقبيل ما يجعلها تمسك بتلافيف الأكاذيب ، ومادام الصمت يمحو أثار الجريمة ينتحله لابتياع تذاكر الغياب في طيف مفلس من الحب مفقر من الفرح ،ما يجعله يشتهي البكاء على طقطقات الأسى وعزف الناي الحزين، فيتورط في ثراء الخوف العاطفي،والوحدة تنساب بيسر في جوفه ما يمنح عود الكبريت الوفاء بغرضه لإذابة انكسارات تنام على طول المحيط الهادي ليقيلها على التقاعد ... وبضحكة شاهقة يوقظ ضحاياه على سيمفونية" موزار" "رقص الأموات " أين تتراقص الأرواح فوق القبور مبتهجة بالبذخ العاطفي ،و قاب قوسين أحلام تتجاوز المساحات البيضاء بقرب نار تلتهم الأجسام المحمومة، فيعلق خالد على خصرهن الغياب المفتعل مسمما الأنوثة بقبلات عابرة تطيل اللهيب، وتترك خلفه جمرا مشتعل ، فمن غيره يتقن طقوس الحب المتطرف حين يشعل في جيدهن فتيل الشوق تاركا طيفه يتسكع حول حدود المفاتن، فتهبنه من اللهيب ما يشعره بالاكتفاء وهن لا يكتفين، فيتسرب عبر شقوق الذات المتعبة صراخ ينام على وسادة الذكريات المثقلة بتفاصيل نرجسية مسروقة من جوف العشق بعمر الفراشات التي لا تطيل البقاء في الحقول، فتحزم أمتعتها في عجالة ،وتترك سنابل القمح لماهية النسيم ومعية الريح الماكرة.
من ذا الذي يحتل الأماكن الشاغرة دون موعد بخلافه ،ليشعل الحطب بعود كبريت مبلل، وببريق صمته يمحو أثار الجريمة ما يجعل قلبه مقبرة جاهزة لدفن أي حب في أولى البدايات، متواطئ مع أكذوبة النهايات ،و بأضرحة وتسميات لكل الكلمات ، يقول في سره لولا تورطي في حب طليقتي لما تزايد خوفي، وعشت في برد المشاعر وتوالي النكسات ، مع أفراح يطوقها جسد عاري ينتحل موسم الخريف ليبتاع تذاكر بتوقيع كئيب يتحرش بك لدفعك لإحساس يشي برغبتك المتمردة في متعة على مقاس الصمت والحزن .
فمنذ خسرت رهان إغرائها بلهفة العاشق الولهان، أخذت نصيبها من الجلد والعطش والجوع تاركة، ذكراها مقصلة لكل مشروع فرح مؤجل، فهي امرأة المطر تلبس معطفي لتجعلني معبرا لومضة حميمية عابرة في لحظة مطر ،وترحل كزوبعة رملية مهزومة تاركة خلفها أسوارا لنهاياتها.
يستعين خالد بالذكريات كمهدئات تعينه على وقف نزيفه ليطيل عشقه الذي ينسيه مجاعته، بالأمس البعيد كان قلمها الذي يشطب مواعيدها، ويحجز الكلمات في جوفها ،ويربكها بخلع صمته حين يلبسها كلماته المبللة بدموع التوسل ،وترك دواليب خزانته مفتوحة لإشباع غرورها ، وتوريثها مساحة شاغرة تتسكع فيها بين أغراضه، لتقتني منها ما يكفي رغبته ولا تكتفي منه، مختبرا جرأتها ،فيذهله فرط عبوديتها لجسده ما يقلع أزرار قميصه، وجعل طفولته تكبر فوق مفاتنها على شاكلة وطن يتيم، فتسكبه نبيذها ،ويلبسها معطفا بمقاس جنونها، فيتوحد في عشقها ويحتلها دون حاجة لدرع أو حمل سيف ، واليوم تركته على حافة النسيان، وبقي سم شفتيها يسري في شريانه. ما جعل رجولته تنهار كلما لبس جسده ذكرياتها ليدرك بأن مسكها وعنبرها نحى مجرى الرياح حين تسير ،و بأن الحب والشقاء توحدا في لؤمها وجمالها في آن واحد.
ساقه غدرها ليتحرر من عبوديتها، ووهم عشقها المفتعل، وصار فراقهما وطنا يحتفل فيه بالنسيان، وتهشيم لذاكرة مثقلة بالانكسارات، وأمسى قلبه مسقط ميلاد كل خيانة تحتمي تحت مظلة العشق باسم مستعار ممتلئ بعقد الماضي، وجسد يشتهي الغياب ليجلس على حافة الذاكرة يلتهم الأسئلة ،وكل الأشواق،فيجبره الهذيان على فتح باب الصمت لإغراء من تستهلك الحروف ،وتعشق الجمل العارية من أبجديات اللغة ليحل الغياب فراغ فؤاده،أين كان يرتشف حروفه في صقيع اللقاء يغرى به امرأة تلبس قدسية الأعراف ،وتقف في منعطف الخيبات تمارس لعبة التنكر كلما وقفت على حافة الجواب مجردة من حصانة الوفاء لتبايع أول حب يلبس ثوب الشهوة متسلقة جسده بحروف مبتذلة صنعتها هزيمة رجل خلع معطفه ليجردها من كل المقدسات، فهو يشبه بركان نائم يوقظ أهل الجزيرة على غضب الطبيعة ،فيستبيح الأخضر واليابس بحجة لعنة تلاحقهم مثل ما يدعيه من نبوءة تشي بقوة خارقة يملكها لجزأرة الحب ،وجعل طقوسه سلوكا عرضي يمارسه كلما دعت له الحاجة.
وغير ببعيد في الجهة الغربية للمدينة تبدو عيوب خالد عارية في طقس مشرق، فتمضي روحه بيسر نحو وميض مضيء ودموعه ملتهبة تتوسل الغفران ،فذنوبه أسقطت سنابل القمح ،ومزقت أمانيه لحظة تمرده ،معلنا قصفه لكل لون يلمع أو روح تنبض بالحياة،فحقل ألغامه طال فرحة كل عاشقة بحرقها في موقد تتحسس دفء ناره حين تدنو منه ،حاملا خلفه رائحة عطرهن كهبة لغسق الفجر ليتنفسه فيجعله أكثر ضبابا وبرودة.
كان بإمكان خالد الزواج وإنشاء عائلة للمرة الثانية لكنه بقي متعلق برائحة عطرها في الأماكن التي كانت ترتادها محتفظا بالسرير المغطى بالحرير الأحمر، و صورة تذكارية لهما معلقة على الجدار، وبعض أشيائها من عطر، والمشط الفضي ، وحتى ملابسها المغرية التي توقظ رغبته في ملامح طفل يتسلل لعالم الورق يصنع قصاصات يرسم عليها أحلامه، ومن الغمام يغزل وشاحا يغطي طيف امرأة محمومة لا يملك مفاتيح أقفال جسدها ،و في زاوية غرفة النوم توجد طاولة منزوية مكدسة بحزمة من الكتب والمجلات لم يعد داعي لوجودها لو أن النسيان محى كل شيء .
وفي لحظة الانكسار حذفه القدر لرف الذكريات، وأول لقاء جمعه مع زينب في ارض البشارة ، حين ابهر بقوامها الممشوق ،وبعيونها الكحيلة التي توحي بمؤشرات الأنوثة تجلس بقرب شجرة شامخة للتعبد لا ترى ارتعاشا عند منتهى أغصانها وجدائلها المسدولة على كتفيها مربوطة بشرائط حمراء، وسوارها يجلجل بمعصمها تراها أنثى لا تعصر بين يديها الأوهام ...ريحها مسك ،وريحان ولسانها رطب بذكر لله .تغض البصر عن ما هو حرام تمشي مشية الأميرة في بهو قصرها المشيد بالدخان ...تاجها العفة...تلك زينب من تستحق تاج الملك ،وعرش الأتراك خلقت شاهقة بشيء من الخجل الفطري تحمل توقيع السلاجقة، ورسالة توصية بجواز سفر مؤشر من غيوم المغول لا تهزها العواصف والنكسات تراها ممزقة بين الفرح ،والآهات تسافر عبر الفصول ،وأغصانها في وجل تنتظر أزهارها أن تثمر على مهل حالمة ببزوغ فجر بلا سياج أو أوتاد .كاشفا البسمة في ثغرها ،ورائحة عطرها تنتشر في المطر بعدما خلع الشتاء عواصفه الثائرة من معطفها ،ولم يملك خالد سوى عشقها ،فهو يعتبرها جنته التي طالها ،وشعاعه الذي يضئ في كل الأوقات ، فإن كان العالم قاسيا فهي ملاذه الوحيد الذي يجد فيه السلام ،وكأن روحهما واحدة تجدها دائما في صلاته مختبئة في عيونه بمثابة وطن يحتضنها ،وتضمها عيناه في كل ليلة فهي ازدهار البنفسج الذي أنسته في جميع العطور،و يثمل من عشقها دون نبيذ،و رغم كل هذا الحب المتطرف جعلها تتألم .
من رحم الصمت ولد صبرها يختال في موكبه، وفي خجل شفتيها تغري الورقة أبجديات الاعتراف بسطور تختزل المسافات بين الشوق والرحيل ، وتضيع في عيون رجل الجليد لترسم رجولته في قصائد الاشتياق ،وتقتات من ملامحه عطر الزنابق المغتال. فيصنع منها الشوق أسيرته دون اعتزال. وبعد عناق طويل يهجرها اللقاء دون وداع،فحبها فاض بذرف الدمع منذ فراقهما المحتم الذي أذاقها طعم الهزيمة والأهوال، وتركها تغزل من الغمام حبها المغتال لتنعزل مع روحها في المحراب مستأنسة بأمسيات الشتاء الطويل ، تواسيها غزارة المطر المخنوق ، تنظر للشارع من خلال ستائر النافذة الحريرية الزرقاء، وهي تتمتم بصوت حزين تبكي له السماء، ويذبل فيه الربيع ،قائلة لن تفوق سعادته حزني ،وسأفوز عليه حين أدمر كل شعور كان يقودني لأرضه ، وأهزم صمته حين امنح لغيره في ليلة العمر كل ما املكه ويطوق أنوثتي بمقاييس رجولته ،وفي ذروة الهذيان استحضر طيفه لارتشف منه سما قاتل اخترته لهزيمته. فكيف يشفى من عشقي، وغيره يستوطن عرشي...؟ فليبقى في معسكره يجمع الماس والزمرد فلو كان ثمنه أغلى من الطين لجاد به رب العرش في خلق البشر.
..لو يعلم أنني لم أشفى يوما من حبه، ،وسأذكره في السر والعلن مادمت ارفض نسيانه ..رغم انه لن يقرأ وصيتي ، ومهما رتع خلف التلال في حضن الأفاعي، فسحر أنوثتي لن يجده في غيري ،فقد قطعت الوريد وعلقت عليه أوجاعي، وحلفت برب العزة أن قلبي لن يحب مادام قد أعلن الحداد. ومن الصعب مطالبته بشق طريقه لقلبي في لحظة نزيف الجوى، وتوبته تشتهيها نظرة عيوني المجنونة ،وكلما قررت نسيانه احن للقياه ، ومنذ متى ارتوى الرضيع بعد فطام أمه أينازل عشقي فيخسر حبي والنزال ،وكيف للصبار أن يغتسل من صدا السنين، والكحل يختفي من عيون المحبين...فقد جاء حب خالد ملغم بالأكاذيب يدثرني ليأخذ مني عبق السنين، رويدك فهناك قصاص وعدل وقلوب لا يسحقها الحنين.فقد علمني غيابك كيف أجمل الحزن بالصبر ، وارسم خريطة قلبك على مقاس غدرك، ومهما أخفى صمتك أثار جرمك ،فلن أنسى انك دثرتني بوشاح الشقاء بعد النعيم.
مزقت زينب أوراقها في الغياب ،وأحرقت دفاترها في لهيب الأشواق حين سار حنينها يقرع أجراسه لخالد الذي اختفى خلف الأسوار ،وطوق حدود جسدها على بعد الأميال ،فرغم وفائها الذي لا يباع اشترى حبها ثم غاب، فقلبها المخملي كسير من هواه ،وروحها الناسكة تبيت ترتل حروفه في استنكار ،وغصنها الغض ينحى، وهو يشدو لقاه بعدما عذبها الهجر ، فغيابه علمها كيف تحتال على قلبها العاجي، وتصادر أفراحها للاحتراق ،فتعلم منها الراسخون في الحب كيف يحرقون لهفتهم في موقد الأشواق.وكلما أوقد الحب شموع تفكيرها تعاظمت جرائمه في كذبة تحفظ علامات الاستفهام؟،وتفحم حبه في قلبها مثل الفحم في كانون مشتعل،وكلما احترق الفحم اجتمع رماده بشكل عجيب .فلن تعيش بسلام صحبة ذكرياته المسمومة التي تتصفحها في كل أمسية قطعة قطعة، ولم يكتفي بجرح كبريائها بل نزعها من عقله وقلبه، ولم يعد يهتم لعذابها ،ولا شيء يثيره بخلاف تجمع فجائعها،وفضولها استدرجها لمزيد من الأسئلة التي لم تخلق سوى بياض يسكب عليه الكثير من الحبر ،وتبقى المساحة الأكثر عتمة شاغرة تركت لتدون تلك المسافة التي تفصلها عن رغبة تشتهي استعماره بذخيرة مدمرة، وتخريب خانة الصمت لتعيد بعدها ترتيب الفوضى التي ملأت خزائنه، وغلق أزرار قميصه التي بقت مفتوحة منذ أخر لقاء،واغتيال غفوته الكاذبة بين الحلم واليقظة ،وسطوه على ضحاياه بتركهم أسرى ألغامه التي تركها عبثا في خطاه الضائعة ...فكلما تذكرته زينب اختنق حلقها، و أمسى السهاد يطلبها، وسكرات الهذيان تتربصها لتنسيها دربها ،و لون الضباب يشهد مصرعها، فلم يتوانى خالد بلفها بوشاح الغدر ليفقدها حسنها.ولم يدركها بوصله ليكفر عن ذنبه، وتكون توبته قربانا يهديه لرب العزة لمسح الخطيئة بطلب الغفران، فالروح تستحي عند ذكرها، وتقشعر لها الأبدان، وكيف يغتال عطر العذارى وترك جرحهن ينزف..؟ ويدعي النبوءة في الصلاة؟ وأيادي زينب مرفوعة تطلبه في كل الحالات .قد يجبره القدر المبيت متورطا في وحدته، وتحيطه ثلوجا منكسة تفصله عن طليقته ،وكم أرهقه انتظارها ،ووصول رسائلها بعد فراقهم
ليست زينب أولى ضحاياه ،ولو وقف على عتبة الذاكرة، وقبل انتهاءه من ذكر الأسماء لجف الدمع من جفنها،و من قال حبه ترياق فهو كاذب بل سم قاتل ،ومن زرعه في الأشواق لن تدركه سوى المآسي والمنايا، وبنبرة حزينة فيها شيء من الاستسلام تشيع حبها في موكب كاذب يشتهي لقاء هارب من جمل لا تجيب عن أسئلة الصمت ،وتنتهي بعلامة الاستفهام؟ ويبقى قلبها يشرب من قطرات المطر كلما سقطت فوق نار الجمر أثارت دخان متصاعد يخنق الأنفاس،وجسدها المحموم يشي برغبتها المختبئة خلف صمتها موارية تفكيرها خلسة من تحطم ذاتها فوق كلمات الشوق ،وكلما اشتهت تلك الشفاه التي قبلتها داهمها طوفان الحنين ما يجعلها متطرفة في العشق متواطئة مع جوع الحرائق ،ومجاعتها تشي برشوتها للغياب من اجل لقاء تتقاسم معه أنفاسها بعدما أمسى حبه فاني، وتركها للوحدة تنهشها موقدة شموع تفكيرها كل ليلة دون إدراك حدود جسده وقطع أشواط في الغياب بعدما ألفت الأشياء التي تحيط به، وتؤثث خزائنه ولاشيء يمنعه من التورط في العزلة ،والحداد ما يجعله يلاحق ضحاياه بشهوة متغطرسة تحكي مجاعته،وكلما استيقظ من غفوته احرق جرائمه في صمته مبررا شنيع فعلته بمطلبه للسعادة ، فيجبره الحزن على فتح ذراعيه للشقاء وعناق النقاط السوداء .
حفرت زينب ذكراه في شريانها ، ولم تغيب لهفتها مادام عشقه يكبلها، ويسرق أنفاسها دون استئذان، وكم يلزمها من الإيمان لتتحمل صمته، وسط تقلبات أنفاسه في كل قطيعة حين يملأ غيابه بتسميات كاذبة ، ويختفي خلف كلمات وهمية مدونة في دفتره دون ترك توقيع أو وصية تنسيها الآهات، وعند اللقاء يتحايل بضحكة كاذبة يخفي فيها جوعه ،ولهيب رغبته في الإستطان لعله يشفى من العقد ،ويتم الأوطان ،وفي كل لقاء كانت تصيبها شظايا بركانه ،وتموت رغبتها السرية تحت جسده المحموم، وما يتعبها أكثر جمع أحزانها ،ورميها في وجه الغبار لتستيقظ روحها فجأة وسط أصوات المطر، واقفة بجانب النافذة رافعة الستار بعناية ،والدمع يلمع فوق وجنتاها، وحبات الثلج تنزلق على زجاج النافذة في عجالة ،وليت الريح تعيرها أجنحتها لتهديها لغريمها خالد بجرعات مفاجئة، وفي النهاية لن تندم عليه لأنه جعلها طوال الوقت تنتظر مواعيده الكاذبة ،وهو يحفر كمين مهجور، وبقايا أثار قدميه شاهدة أثناء اجتيازه الضباب متحايل على قناديل الأشواق ،مكرسا نفوذه لتعميم عبوديته على جميع ضحاياه، وتراه دائما غير مستقر، وفي كل لقاء يجلس على تذكرة سفر متواطئ مع الصمت متوغل في برزخه الذي يمنحه جرعات متوالية من رتابة الحياة والملل ، وتبقى ملامحها مشدودة إليه محتفظة بأمل في قلبها رغم وحشيته التي لازمت برد الشتاء حيث يلتهم الضباب ضياء القمر وتنزل السماء غضبها المثقل بعتمة الصمت ما يجعل قطرات المطر تتضاعف فوق زجاج النافذة، وجنون الطبيعة والشقاء يعصفان قلبها في آن واحد فيشيع تفكيرها مسيرة الفرح، والحزن في ذاتها لتفقد طريق السعادة لأنها لم تعد تملك ما يكفيها من القوة والصبر سوى تطرفها في الشقاء ،وعند الكمين تراها تذرف دموعا ما يكفي سقي زهرة التوليب ،وهي مستندة لنهر أشجانها مستمعة لسكون الليل المطبق مطاردة أحلامها في دجاه في غياب مكان قريب تلتقط منه حلمها الضائع مرة ثانية ملقية التحية كل صباح على مسامع الأزمنة المارة فوق أرضها، فيمر ضبابا كثيف يمزق الكنائس، ويصادر الأفراح،ما يعجز استعادة هدوء الماء الراكد في البركة،ويبقيها على صلة الانتظار بقلب مكابر فهي امرأة الظلام لا تخشى العشق بقدر لقاء يكشف حاجتها لتجميل جيدها برغبة نرجسية تصرف ما تبقى من شهوة علها تشفى من ضراوة حبه التي لم تكابدها وجعلت فؤادها يتهاوى في أسى، وانكسار في كل مساء ،وما تخشاه أكثر فناء العمر وإذا فرق بينهما الموت هل بمقدور كل منهما التعرف على وجه الأخر، ونسيان ذكرى الأرض التي أنساب عليها جفائه وذلك الزرع الذي نبض عبر الزمن بذكراهما ،و سرب الفراشات الزرقاء التي مرت فوق أزهار حقلها، وملح دموعها التي ذابت على شرفة الشوق ،وبقيت تفتقد صوته وبسمته مطاردة حنين مياه الجداول المتلألئة، وكيف كانت تستحي من الريح ؟حين يحمل همها لغمام السماء ، فالشمس والقمر شقيقان يمنحان السكينة والأشواق لمحاصيلها محتفظين بأسرارها لتغفو غمامة الرعد على أزهارها ،وصوت حبها تسمعه في حنايا الريح هل علمته الطريقة التي أقالت هذيانها في كفها وهي تنتظر مجيئه حتى الشمس تألمت حين شهدت أوجاعها تسقط من جفنها ولم تزل السماء تهطل غيثا حتى مجيء أغسطس وبسط نفوذه ، فبزغ نجم غريمها مهرولا نحو الجبال متحدي شموخها لكنه يجهل محاكة مكنوناتها وسر دفن خفايا ذكراها في الضفاف، ولأن الحزن أعمق من ذلك إنه حزن النفس الذي جعل ذكرياتها تنسلخ مرتعشة من جدارية الماضي المصلوب ليتهاوى فوق الثرى مبعثرا هنا وهناك وفي لهفة التلاقي يحتضنها طين أجوري ليهديها قربانا ليناير فيمتزج اللون الأبيض والأسود والرمادي ما جعل تواصل الخطوط ممكن وانصهار التفاصيل محتم تحت دموع السماء فطوت روحها أميال حالمة بمعانقة نيسان وسماع لحن الريح ورقرقة الغدير في الجداول وزحف أسراب الطيور فوق التلال، حتى حواسها رقصت احتفاءا بهذا اللقاء المقدس وتضرعت للرحمن لمسح غمامة الأمس الموجعة الملفوفة في حنايا الغريم وطمس همساته الملغمة بدفء الكلمات التي استعملها كذخيرة لتنفيذ مشروعه الحقير ولم يكن يوما صادق بل سعى لتدنيس المحميات بغرور وهتك قدسية الأعراف ما جعل نور ذاته تتلاشى خلف الضلال فبين روحه وجسده تسكن أحقاده التي تتغذى بنار الثأر وترتوي بروح الانتقام ولأنه جلاد بارع لا يرحم أسراه او تتعبه دموع ضحاياه في معتقله فيقيدهن بإحكام لكن أخر اعتقاله وجهله سر أسيرته زينب ورطه في الصراع فلم تلين أمام جرعاته المفاجئة او تتهاوى أمام صلبه وجلده رغم قيوده المحكمة بأصفاد العشق لم تكن كافية لتخديرها والتغلب عليها في الشوط الأخير كونها تملك روح ناسكة لا تثمل بيسر من نبيذ العشق و بركانها الأنثوي لم يترك أثر لليابسة في أرضه وأحدث تغير جذري أتى بمعالم جديدة ما جعله يجهل نوطات لحن الانتقام لأنها لا تشبه بقية أسراه آلائي كان يرسم لهن قصورا من الرمال وحصون أسوارها مشيدة بخيوط العنكبوت فاستحال عليه اختراق تشفيرها فنعي بهزيمة جعلته أطلال فهي شبيهة زنوبيا وبقية الأشراف فخسر الرهان ونال نصيبه من الهزيمة والعار، ولم ينجو من عذاب يطلبه في كل صباح ومع أماسي الحزن وقع رهينة مناورات الملكة نورهان فزادت من وتيرة تذبذبه حتى استولت على عقله وجسده فأمسى يرتجف بكليته في حضورها لأنها متمرسة في الحب تعتاده يوم الشوق ودموعها تبلل خيوط العنكبوت المرتعشة في الريح ومنذ عرفته حولت حياته لكوارث وتوالت عليه النكبات الواحدة تلو الأخرى وأحرقته بدلا أن تدفئه بخلاف زينب التي تركها لمحنتها وغادر حدائقها التي تعج بالورود الحمراء ...أزهار اللوز... الزنابق...الياسمين ...الرمان..ورقرقة المياه،ورغم حبها رفض طهرها ما تركه ينظر لذكراها بنظرات قلقة تجعله يعيش قنوط عظيم تحت رغبته السرية في بلوغ سلطة العرش فطموحه السياسي يديره بمؤامرة التواطؤ مع مسميات ثورية شبيهة بطلاسم ملغمة إذ علمته الحياة التصالح مع ألذ أعدائه مادامت تربطهم مصلحة واحدة وتسلسل أخطائه يندى لها الجبين أرتكبها لأجل تنفيذ رغبته في تحقيق حلمه وبذخه في الثراء جعله مكسب لنيل إعجاب الناس واحتواء خيبتهم المتراكمة وترسبات الأزمات التي ساعدته لولوج باب السلطة والوصول لكرسي الحكم وشفعت له أعماله الخيرية لدى شعبه ما جعل أخطائه تنهار أمام قوة نفوذه التي أخذت شكل طابور يقف في باب الكنيسة عله يلقى الصفح من القس حين يدلي باعترافه لاقترافه الخطيئة في لحظة ضعف،فمناوراته المتتالية تميت الخجل في رجولته وشجاعته التي تتصف بالصلابة أمام تتالي الهزات .
أثناء تعاظم الحماسة والاستثناءات حاولت الملكة نورهان جاهدة أن تتغلغل في وجدان القيصر وكذا قراراته، فنالت منه بتواطئها مع باقي الأطراف المعادية لتجد الدعم اللوجستي ليحميها من تقلباته المتعطشة لهفواتها التي أوصلته إلى الانهيار.
لقد حولته لمدينة يونانية تنام تحت أطلالها وأسواره الشاهقة فهدمته بتسريب أسراره وكشف مخططاته لخصومه لتشتري رضا حلفائها وتحقيق نفوذ يقودها لتسلق مجده وإشباع غرورها المتراكم الذي يملأ قلبها منذ أن قررت امتلاك قلبه.
عدوانيتها تركت أظافرها على عنقه فأدمن على جنونها متدحرجا نحو شلال اللذة والشهوة ما جعل قناديل الشوق لا تنطفئ في عينيه فعاش كل الأحاسيس والعواطف المتضاربة في قربها رغم تزاحم عطر العذارى الذي كان يأتي من الحقول المجاورة فهو أسيرها في زنزانتها ما جعله يعيش حالة الارتباك منذ تبعثرت رجولته فوق فوضى أفكاره وهو ينتظر ميلاد شوقه المؤجل حتى اكتشف خيانتها من خلال تورطها مع جهات معادية تحت مسميات مستعارة فعرف حجم حماقته التي صنعت تحت إغراء متعمد ضد سلالته الراقية التي تشكل جزء مهم في بناء الحكم الملكي وفي ظل صراع العائلات أثناء اشتعال فتيل الفتن أسقطت شعارات سياسية مؤيدة للنظام الواحد المتوارث وانقذه مجلس الشيوخ بتكاثف جهودهم الحكم الملكي وجعل الدولة تتعافى رغم الضربات المتتالية من قبل الملكة نورهان وحلفائها الذين لم يتوانوا في نشر سمومهم وتوسيع دائرة الخراب وتلفيق التهم للحاشية ومن لهم ولاء للبلاط الملكي وبقيت سلطة القيصر خالد صامدة ولم تضعف أمام الفوضى التي تسببت فيها زوجته الملكة التي كان يغريه جسمها الأبيض كالرخام وتثيره باستمرار فعشقها قطعة قطعة لحد الهذيان.
بعدما استرجعت البلاد أمنها واستقر وضعها عرفت بعد تلك المرحلة ازدهارا كبيرا وعم السلام في ربوعها فزال التشقق والانقسام وفقدت نورهان وكالاتها السرية وضاعت سلطتها ولم تستطيع التسلل إلى الطبقات العليا لكنها رغم ذلك ارتكبت العديد من الممارسات السيئة تجاه الناس سواء بالتصفية الجسدية أو مصادرة أملاكهم بقوة النفوذ أو تحت التهديد الى حين تصفيتها.
لقد أدرك خالد انه لن يتذوق طعم السعادة حتى يتصالح مع نفسه ثم يصلح علاقة أفراد رعيته فيما بينهم حينها فقط سينعم بصفوة الهدوء النفسي والسلام الروحي.
أفرغت المدينة بعد فراقه لزينب من الحنين ولهفة العاشقين وامتلأت بالجفاء ولهفة الهجير هذيان الصمت المفتعل يلف أشلاء امرأة تشتهي فصول الخراب ودمار يرسم حدوده بفجائع مذهلة وبطقوس إغريقية يناور خالد برصاصة خاطئة تتسابق لاغتيال جسد عاشق وتشيع جثمانه على حافة الذاكرة ....فعل به الحزن ما يفعلون في زمن الردة والتطرف يصلون بأفواه مستعارة وقلوب مستأجرة....يشتهون فجائع الأتقياء بمتعة غامضة ، ويحجزون مسبقا أماكن تؤثثها جثث الضحايا وعيونهم النازفة يشيعون بها جرائمهم علنا في مواكب مزينة للقتل وتتبعهم دمعة تكابر جنون متطرف يرفض مصافحة هجر يسكن الأوردة عنوة وبسذاجة قاتلة يشتهي ضحكة مسروقة من جسد يحتضر ....يبكي ....ينزف ....وعلى حافة الرصيف تتراكم فجائع محتمة تنتظر بقرب المحطة وهي ترقب سفارة أو غماز يعلن للتو موعد القاطرة ....تتعثر الخطى في زمن لعنة الخرافات وعبثية الأوهام ....كبرياء زينب لا يهزم بتوحدها في حب متطرف يتغيب خلف أسوار قلعة أغريقية شيدت لتشييع بقايا دمار طال هزيمة العشاق .
يمارس الحزن علنا سلطته المبتذلة ويرتكب حماقات يحجز لها مسبقا مساحات محظورة ...لدفن دمار أي مجد في سكون مطبق ....وإخفاء الجثث المهشمة ....قلاعا محصنة سقطت سهوا بعد أخر سطو شهده مثلث الموت ...ليصبح مقبرة جماعية..لو كان للحب قاتل وشهيدا معا؟ما اسم الموت..؟ عندما يكون برصاصة مفتعلة ؟ إنها سخرية المواجع ...فضول امرأة أذهلها صمت رجل وزاد فضولها رغبتها السرية لحضور آخر فصل مأساوي لدراما مفتعلة ...اغتصب حلمها على بياض الورق وهي تنتظر لذة الحب ...بتزايد صقيع المشاعر الباردة ...كذبة بعد أخرى تؤكد حتمية ولادة قيصرية تنتظرها الموت في آخر النهايات لتمنحها شرف الرحيل على جوع ...وتسحب منها فرصة إشباع أو تذوق لذة العشق على خطى غربة أشهى ونبرة حزن أعمق وفرح لقلب مكابر غامض ...تكاثرت على حدوده هنا وهناك أحلام مستعارة ....ونسخ متشابهة لذاكرة واحدة ...بحكم التطرف والعيش على هامش اللذة ...بحكم فرح مؤجل تحت وصاية الإمبراطورية التي تثير دائما البلبلة ...لتبتلع ثوارها بشراهة وبجاذبية مذهلة يرسم القيصر خالد على جسد ضحاياه معالم غامضة ....ويستبشر بفتوحات ليعيد رسم المآسي نفسها.
حياته أصبحت صفحة ماء ميتة لا يخضع لرغبة أو ميول عاطفي بخلاف الحنين لذكرى زينب، وغيابها المحتم و لن تجدي انتصاراته وإن أشرقت الشمس من الغرب وأزهرت الأرض بشقائق النعمان فالجفاء سكن الغياب وطال نورس مهاجر نحو الشمال وأثناء عودته تغيرت الأزهار وأنبتت مكانها الأشواك فالشوق يقرع في قلبه أجراس اللقاء،والقلب العاجي مات في غربة المكان.وهو يتمتم في صمت مفرغ من جوفه حزن عصره من جفن الشمس وراح يقاضي الحب لدجى الليل فكيف للفرح أن يغتصب في أرض العشق وتساؤله عن قلب مدمى من الهوى وروح تهجدت في ذكرى غصن انحنى وهو يشدو للقاء فيا معذبي لما الهجر وترك روحي تشتاق.
كان شوقه احد الأسباب التي دفعته للبحث عن الأماكن التي عاشت فيها لعله يرمم الدمار الذي طال أعماقه التي أوقفته في عتبة هزائمه فدله صديقها لقبرها وتحت وقع الفاجعة ردد كلمات متقطعة حزينة لماذا كل أحبائي ماتوا؟ربما الشيخوخة اقترفت ذنبها حين سلبتنا من نحب ؟ أو رحيلنا عمن نحب شارك شيخوخة عمرنا؟
تنتمي الآن زينب لعالم آخر حتى لو دفع القيصر كل أملاكه ورهنها لن يستردها ...لقد زرعت ألغام حولها وكتبت على لافتة سوداء « منطقة محظورة " ...أوصدت أبوابها وحتى ثقوب النوافذ أغلقتها لم يبقى منها سوى أشلاء امرأة ....لقد أفرغت أنوثتها في غيابه على ورقة صفراء وأحرقتها في موقد الشوق وعاشت في غيابه ناسكة تذكره في صلاتها وتردد اسمه في هذيان الحمى ولم تكن يوما على توافق مع الحب ماتت في سنوات عمرها المضطربة وهي تسعى إثر الموت حين وصلت لذروة اليأس...ماتت وكل من الألم واللذة يتقاسمان هيكلها الشاحب المتعب من عقدة حزنها الأزلي.. جائعة . تلبس طيفه حدادا ..متوحدة في ذكرى موجعة ..اختارت لقلبها قبرا واحد ....بعدما شيعها خالد في ضريح الصمت وهجرها على عجلة .....تماما ...مثل سرب النورس حين يقرر الرحيل ويحدد وجهته.. بحث عنها ولم يستطيع العثور عليها فماضيهم كان مكهرب، وملغم تماما وفي قلب الوجع يكابر انهياره ويصفد دموعه بكبرياء رجل...وإذ بأحاسيس متناقضة داهمته فتحايل بضحكة كاذبة على حافة حزنه الذي يسكن خلف ضباب الدمار متسللا من أنامل القهر نحو حنين يقوده لسعادة متطرفة مطيعا رغبته في استحضار ذكرياته المدججة بالأفراح التي لم تخلو يوما من الغصات، والخيانات المتكررة وتوحده في حبها جعله يسلك الأماكن التي سلكتها لعله يسمع أثار خطاها أو يشم ريح عطرها ، وحتى الأماكن المهجورة قصدها لعلها توقد حنينه وتستنطق ذاكرة النسيان الذي قهره ،وإذ بيده تقع على صندوق به محتوياتها الشخصية ومن بينها صوره ،ورسائله التي احتفظت بها للذكرى كانت الشمس ترتدي ثوبها الأخير ما زاد في كآبته متسائل عن الحياة التي تبعت فراقهما هل أخلصت لذكرياته ؟تلك الذكريات النرجسية التي تثملك دون نبيذ ،وهل غفرت خطاياه المفتعلة...؟
وفي حرقة الفاجعة يخاطب أشيائها قائلا: لقد اكتفيت بوصلك وأحرقت أوراق غيرك في موقد الهجر، وعلقت حبك في الوريد معلنا التمرد عن العصيان، وجئتك مع ترانيم الفصول اطلب الصفح عن دموعك التي سالت في الغياب دعيني أجول في ضفافك لأرسم مدينة حدودها أسوارك ولتبقي على حراسها، وتاجها في يدك دع اللقاء يسرق لحظات ظمأ سنين العجاف ويكون زادا اكتفي به في غيابك أتهجرينني في صمت الرهبان وتعلقين جدائلك في جرح الأنام وتسرين في غربتي دون وصال ،وتقطفين الدمع من وجنتي في غرة الأحلام،ولقد رفضت حبا بديلا يعوض غيابك، فجمعت فرحتي من جفن القمر لأهديها لقلبك المتعب ، ولملمت جرحي في ضلوعي لأذيب ملح الأشجان.سامحني لأني لم أمنحك أشياء تشعرك بحبي، ولم يكن هناك أحد يمسح دمعك في غيابي،ولو عدت سنمضي معا دون عتاب، وسأحضنك ملايين السنيين لأجعلك تشعرين بحبي لكن الموت جاء مبكرا جدا حبيبتي ،ولم نعد سويا في مملكة العشاق ... فالوقت نفذ منا بعدما فات الأوان وسأبقى مدينا لحبنا ،وقد جئتك مثل أولى البدايات ،ومازلت اذكر أنفاسك التي احتضنتها عند كل لقاء، فأرجوك لا تحبي غيري، فانا أخبئ لكي الكلمات التي لم استطيع أن أقولها بسبب غروري حين تركتك تذهبين ،وبقيت أنادي على اسمك بحزن يوميا ما جعل غيابك يحول أفراحي وانتصاراتي إلى مآسي.
مرت سحائب الضباب تغزو ذلك المكان المهجور في خجل ما أثار في خالد الحنين لأيام جمعته مع زينب وأدرك انه ما يبحث عنه أصبح بعيد المنال ولن يروي ظمأه لأنه لن يحصل عليها في الواقع وحلمه مجرد وهم وغبار مغمور بنور هارب من لسعات الهجر نحو حطامها المنثور في درب الغياب .... هذا الشعور بالجوع والذنب رافقه بقية عمره ومنعه من العيش حياة سعيدة .
بقلم الكاتبة: حكيمة شكروبة
القيصر خالد منحدر من سلالة الأباطرة، لا يدري مجيئه...؟أبمحض المصادفة التي جعلته يتغيب وراء الجبال، ويتوحد في حب متطرف يقيم على حافة النسيان، أم مجرد رغبة منهكة من
الأزمات تبحث عن ارض تستوطنها بوجوه منكسرة. فروح الانتقام جعلته يفضل النوم في حضن جرائمه المتكررة لا احد يعرف نواياه، فأعماقه تتجاوز البحار والمحيطات يسافر بين ضفائر أسراه بدون تأشيرة مدونا على صفحاته احتمالات مميتة تحيي مشاعر مستقرة.وفي قلب الخديعة تراه مستسلما لسطو الصمت، وكلما استيقظت رجولته هرول لفتح باب الخطيئة تاركا بينه، وبين غريمته مسافة تمنحه الوقت الكافي للمرور بمحاذاة الشوق، واختبار ذلك الجسم المحموم الذي يتوسد قارعة الرصيف معلنا حالة طوارئ بقرب النهاية، ما ينبئ بتقاطع تفاصيل مبتذلة للهفة عاشقة تلاحق حب تغذى على مجاعة، وارتوى من الجفاف بينما يكسب ما يكفيه من السخاء العاطفي وملأ رصيده الوجداني وترك ضحيته تئن ،فيرثيها بصوت متقطع قائلا: سامحيني إن جعلتك تئنين تحت أحلامك المزهرة ، واغتصبت أفراحك المؤجلة، ثم يمرر على هيكلها نظرته الماكرة ، وعلى مدى البصر يسكب رماد خطيئته لعله ينجو من سطوة الطيور السوداء التي تحوم حول قلبه ،فينتحل الصمت سلاحا ،ويختفي خلف أسوار معسكره لتجميل حقائبه البالية ،وكلما شعر بالجوع وضع في أول الشارع لافتات زائفة لإغراء عاشقة تنام على حافة الاحتراق ، فيتعمد رسم حدود رجولته على مقاس أنوثتها، ويسكب على شفاهها لهيبا يوشي برغبتها السرية في التقبيل ما يجعلها تمسك بتلافيف الأكاذيب ، ومادام الصمت يمحو أثار الجريمة ينتحله لابتياع تذاكر الغياب في طيف مفلس من الحب مفقر من الفرح ،ما يجعله يشتهي البكاء على طقطقات الأسى وعزف الناي الحزين، فيتورط في ثراء الخوف العاطفي،والوحدة تنساب بيسر في جوفه ما يمنح عود الكبريت الوفاء بغرضه لإذابة انكسارات تنام على طول المحيط الهادي ليقيلها على التقاعد ... وبضحكة شاهقة يوقظ ضحاياه على سيمفونية" موزار" "رقص الأموات " أين تتراقص الأرواح فوق القبور مبتهجة بالبذخ العاطفي ،و قاب قوسين أحلام تتجاوز المساحات البيضاء بقرب نار تلتهم الأجسام المحمومة، فيعلق خالد على خصرهن الغياب المفتعل مسمما الأنوثة بقبلات عابرة تطيل اللهيب، وتترك خلفه جمرا مشتعل ، فمن غيره يتقن طقوس الحب المتطرف حين يشعل في جيدهن فتيل الشوق تاركا طيفه يتسكع حول حدود المفاتن، فتهبنه من اللهيب ما يشعره بالاكتفاء وهن لا يكتفين، فيتسرب عبر شقوق الذات المتعبة صراخ ينام على وسادة الذكريات المثقلة بتفاصيل نرجسية مسروقة من جوف العشق بعمر الفراشات التي لا تطيل البقاء في الحقول، فتحزم أمتعتها في عجالة ،وتترك سنابل القمح لماهية النسيم ومعية الريح الماكرة.
من ذا الذي يحتل الأماكن الشاغرة دون موعد بخلافه ،ليشعل الحطب بعود كبريت مبلل، وببريق صمته يمحو أثار الجريمة ما يجعل قلبه مقبرة جاهزة لدفن أي حب في أولى البدايات، متواطئ مع أكذوبة النهايات ،و بأضرحة وتسميات لكل الكلمات ، يقول في سره لولا تورطي في حب طليقتي لما تزايد خوفي، وعشت في برد المشاعر وتوالي النكسات ، مع أفراح يطوقها جسد عاري ينتحل موسم الخريف ليبتاع تذاكر بتوقيع كئيب يتحرش بك لدفعك لإحساس يشي برغبتك المتمردة في متعة على مقاس الصمت والحزن .
فمنذ خسرت رهان إغرائها بلهفة العاشق الولهان، أخذت نصيبها من الجلد والعطش والجوع تاركة، ذكراها مقصلة لكل مشروع فرح مؤجل، فهي امرأة المطر تلبس معطفي لتجعلني معبرا لومضة حميمية عابرة في لحظة مطر ،وترحل كزوبعة رملية مهزومة تاركة خلفها أسوارا لنهاياتها.
يستعين خالد بالذكريات كمهدئات تعينه على وقف نزيفه ليطيل عشقه الذي ينسيه مجاعته، بالأمس البعيد كان قلمها الذي يشطب مواعيدها، ويحجز الكلمات في جوفها ،ويربكها بخلع صمته حين يلبسها كلماته المبللة بدموع التوسل ،وترك دواليب خزانته مفتوحة لإشباع غرورها ، وتوريثها مساحة شاغرة تتسكع فيها بين أغراضه، لتقتني منها ما يكفي رغبته ولا تكتفي منه، مختبرا جرأتها ،فيذهله فرط عبوديتها لجسده ما يقلع أزرار قميصه، وجعل طفولته تكبر فوق مفاتنها على شاكلة وطن يتيم، فتسكبه نبيذها ،ويلبسها معطفا بمقاس جنونها، فيتوحد في عشقها ويحتلها دون حاجة لدرع أو حمل سيف ، واليوم تركته على حافة النسيان، وبقي سم شفتيها يسري في شريانه. ما جعل رجولته تنهار كلما لبس جسده ذكرياتها ليدرك بأن مسكها وعنبرها نحى مجرى الرياح حين تسير ،و بأن الحب والشقاء توحدا في لؤمها وجمالها في آن واحد.
ساقه غدرها ليتحرر من عبوديتها، ووهم عشقها المفتعل، وصار فراقهما وطنا يحتفل فيه بالنسيان، وتهشيم لذاكرة مثقلة بالانكسارات، وأمسى قلبه مسقط ميلاد كل خيانة تحتمي تحت مظلة العشق باسم مستعار ممتلئ بعقد الماضي، وجسد يشتهي الغياب ليجلس على حافة الذاكرة يلتهم الأسئلة ،وكل الأشواق،فيجبره الهذيان على فتح باب الصمت لإغراء من تستهلك الحروف ،وتعشق الجمل العارية من أبجديات اللغة ليحل الغياب فراغ فؤاده،أين كان يرتشف حروفه في صقيع اللقاء يغرى به امرأة تلبس قدسية الأعراف ،وتقف في منعطف الخيبات تمارس لعبة التنكر كلما وقفت على حافة الجواب مجردة من حصانة الوفاء لتبايع أول حب يلبس ثوب الشهوة متسلقة جسده بحروف مبتذلة صنعتها هزيمة رجل خلع معطفه ليجردها من كل المقدسات، فهو يشبه بركان نائم يوقظ أهل الجزيرة على غضب الطبيعة ،فيستبيح الأخضر واليابس بحجة لعنة تلاحقهم مثل ما يدعيه من نبوءة تشي بقوة خارقة يملكها لجزأرة الحب ،وجعل طقوسه سلوكا عرضي يمارسه كلما دعت له الحاجة.
وغير ببعيد في الجهة الغربية للمدينة تبدو عيوب خالد عارية في طقس مشرق، فتمضي روحه بيسر نحو وميض مضيء ودموعه ملتهبة تتوسل الغفران ،فذنوبه أسقطت سنابل القمح ،ومزقت أمانيه لحظة تمرده ،معلنا قصفه لكل لون يلمع أو روح تنبض بالحياة،فحقل ألغامه طال فرحة كل عاشقة بحرقها في موقد تتحسس دفء ناره حين تدنو منه ،حاملا خلفه رائحة عطرهن كهبة لغسق الفجر ليتنفسه فيجعله أكثر ضبابا وبرودة.
كان بإمكان خالد الزواج وإنشاء عائلة للمرة الثانية لكنه بقي متعلق برائحة عطرها في الأماكن التي كانت ترتادها محتفظا بالسرير المغطى بالحرير الأحمر، و صورة تذكارية لهما معلقة على الجدار، وبعض أشيائها من عطر، والمشط الفضي ، وحتى ملابسها المغرية التي توقظ رغبته في ملامح طفل يتسلل لعالم الورق يصنع قصاصات يرسم عليها أحلامه، ومن الغمام يغزل وشاحا يغطي طيف امرأة محمومة لا يملك مفاتيح أقفال جسدها ،و في زاوية غرفة النوم توجد طاولة منزوية مكدسة بحزمة من الكتب والمجلات لم يعد داعي لوجودها لو أن النسيان محى كل شيء .
وفي لحظة الانكسار حذفه القدر لرف الذكريات، وأول لقاء جمعه مع زينب في ارض البشارة ، حين ابهر بقوامها الممشوق ،وبعيونها الكحيلة التي توحي بمؤشرات الأنوثة تجلس بقرب شجرة شامخة للتعبد لا ترى ارتعاشا عند منتهى أغصانها وجدائلها المسدولة على كتفيها مربوطة بشرائط حمراء، وسوارها يجلجل بمعصمها تراها أنثى لا تعصر بين يديها الأوهام ...ريحها مسك ،وريحان ولسانها رطب بذكر لله .تغض البصر عن ما هو حرام تمشي مشية الأميرة في بهو قصرها المشيد بالدخان ...تاجها العفة...تلك زينب من تستحق تاج الملك ،وعرش الأتراك خلقت شاهقة بشيء من الخجل الفطري تحمل توقيع السلاجقة، ورسالة توصية بجواز سفر مؤشر من غيوم المغول لا تهزها العواصف والنكسات تراها ممزقة بين الفرح ،والآهات تسافر عبر الفصول ،وأغصانها في وجل تنتظر أزهارها أن تثمر على مهل حالمة ببزوغ فجر بلا سياج أو أوتاد .كاشفا البسمة في ثغرها ،ورائحة عطرها تنتشر في المطر بعدما خلع الشتاء عواصفه الثائرة من معطفها ،ولم يملك خالد سوى عشقها ،فهو يعتبرها جنته التي طالها ،وشعاعه الذي يضئ في كل الأوقات ، فإن كان العالم قاسيا فهي ملاذه الوحيد الذي يجد فيه السلام ،وكأن روحهما واحدة تجدها دائما في صلاته مختبئة في عيونه بمثابة وطن يحتضنها ،وتضمها عيناه في كل ليلة فهي ازدهار البنفسج الذي أنسته في جميع العطور،و يثمل من عشقها دون نبيذ،و رغم كل هذا الحب المتطرف جعلها تتألم .
من رحم الصمت ولد صبرها يختال في موكبه، وفي خجل شفتيها تغري الورقة أبجديات الاعتراف بسطور تختزل المسافات بين الشوق والرحيل ، وتضيع في عيون رجل الجليد لترسم رجولته في قصائد الاشتياق ،وتقتات من ملامحه عطر الزنابق المغتال. فيصنع منها الشوق أسيرته دون اعتزال. وبعد عناق طويل يهجرها اللقاء دون وداع،فحبها فاض بذرف الدمع منذ فراقهما المحتم الذي أذاقها طعم الهزيمة والأهوال، وتركها تغزل من الغمام حبها المغتال لتنعزل مع روحها في المحراب مستأنسة بأمسيات الشتاء الطويل ، تواسيها غزارة المطر المخنوق ، تنظر للشارع من خلال ستائر النافذة الحريرية الزرقاء، وهي تتمتم بصوت حزين تبكي له السماء، ويذبل فيه الربيع ،قائلة لن تفوق سعادته حزني ،وسأفوز عليه حين أدمر كل شعور كان يقودني لأرضه ، وأهزم صمته حين امنح لغيره في ليلة العمر كل ما املكه ويطوق أنوثتي بمقاييس رجولته ،وفي ذروة الهذيان استحضر طيفه لارتشف منه سما قاتل اخترته لهزيمته. فكيف يشفى من عشقي، وغيره يستوطن عرشي...؟ فليبقى في معسكره يجمع الماس والزمرد فلو كان ثمنه أغلى من الطين لجاد به رب العرش في خلق البشر.
..لو يعلم أنني لم أشفى يوما من حبه، ،وسأذكره في السر والعلن مادمت ارفض نسيانه ..رغم انه لن يقرأ وصيتي ، ومهما رتع خلف التلال في حضن الأفاعي، فسحر أنوثتي لن يجده في غيري ،فقد قطعت الوريد وعلقت عليه أوجاعي، وحلفت برب العزة أن قلبي لن يحب مادام قد أعلن الحداد. ومن الصعب مطالبته بشق طريقه لقلبي في لحظة نزيف الجوى، وتوبته تشتهيها نظرة عيوني المجنونة ،وكلما قررت نسيانه احن للقياه ، ومنذ متى ارتوى الرضيع بعد فطام أمه أينازل عشقي فيخسر حبي والنزال ،وكيف للصبار أن يغتسل من صدا السنين، والكحل يختفي من عيون المحبين...فقد جاء حب خالد ملغم بالأكاذيب يدثرني ليأخذ مني عبق السنين، رويدك فهناك قصاص وعدل وقلوب لا يسحقها الحنين.فقد علمني غيابك كيف أجمل الحزن بالصبر ، وارسم خريطة قلبك على مقاس غدرك، ومهما أخفى صمتك أثار جرمك ،فلن أنسى انك دثرتني بوشاح الشقاء بعد النعيم.
مزقت زينب أوراقها في الغياب ،وأحرقت دفاترها في لهيب الأشواق حين سار حنينها يقرع أجراسه لخالد الذي اختفى خلف الأسوار ،وطوق حدود جسدها على بعد الأميال ،فرغم وفائها الذي لا يباع اشترى حبها ثم غاب، فقلبها المخملي كسير من هواه ،وروحها الناسكة تبيت ترتل حروفه في استنكار ،وغصنها الغض ينحى، وهو يشدو لقاه بعدما عذبها الهجر ، فغيابه علمها كيف تحتال على قلبها العاجي، وتصادر أفراحها للاحتراق ،فتعلم منها الراسخون في الحب كيف يحرقون لهفتهم في موقد الأشواق.وكلما أوقد الحب شموع تفكيرها تعاظمت جرائمه في كذبة تحفظ علامات الاستفهام؟،وتفحم حبه في قلبها مثل الفحم في كانون مشتعل،وكلما احترق الفحم اجتمع رماده بشكل عجيب .فلن تعيش بسلام صحبة ذكرياته المسمومة التي تتصفحها في كل أمسية قطعة قطعة، ولم يكتفي بجرح كبريائها بل نزعها من عقله وقلبه، ولم يعد يهتم لعذابها ،ولا شيء يثيره بخلاف تجمع فجائعها،وفضولها استدرجها لمزيد من الأسئلة التي لم تخلق سوى بياض يسكب عليه الكثير من الحبر ،وتبقى المساحة الأكثر عتمة شاغرة تركت لتدون تلك المسافة التي تفصلها عن رغبة تشتهي استعماره بذخيرة مدمرة، وتخريب خانة الصمت لتعيد بعدها ترتيب الفوضى التي ملأت خزائنه، وغلق أزرار قميصه التي بقت مفتوحة منذ أخر لقاء،واغتيال غفوته الكاذبة بين الحلم واليقظة ،وسطوه على ضحاياه بتركهم أسرى ألغامه التي تركها عبثا في خطاه الضائعة ...فكلما تذكرته زينب اختنق حلقها، و أمسى السهاد يطلبها، وسكرات الهذيان تتربصها لتنسيها دربها ،و لون الضباب يشهد مصرعها، فلم يتوانى خالد بلفها بوشاح الغدر ليفقدها حسنها.ولم يدركها بوصله ليكفر عن ذنبه، وتكون توبته قربانا يهديه لرب العزة لمسح الخطيئة بطلب الغفران، فالروح تستحي عند ذكرها، وتقشعر لها الأبدان، وكيف يغتال عطر العذارى وترك جرحهن ينزف..؟ ويدعي النبوءة في الصلاة؟ وأيادي زينب مرفوعة تطلبه في كل الحالات .قد يجبره القدر المبيت متورطا في وحدته، وتحيطه ثلوجا منكسة تفصله عن طليقته ،وكم أرهقه انتظارها ،ووصول رسائلها بعد فراقهم
ليست زينب أولى ضحاياه ،ولو وقف على عتبة الذاكرة، وقبل انتهاءه من ذكر الأسماء لجف الدمع من جفنها،و من قال حبه ترياق فهو كاذب بل سم قاتل ،ومن زرعه في الأشواق لن تدركه سوى المآسي والمنايا، وبنبرة حزينة فيها شيء من الاستسلام تشيع حبها في موكب كاذب يشتهي لقاء هارب من جمل لا تجيب عن أسئلة الصمت ،وتنتهي بعلامة الاستفهام؟ ويبقى قلبها يشرب من قطرات المطر كلما سقطت فوق نار الجمر أثارت دخان متصاعد يخنق الأنفاس،وجسدها المحموم يشي برغبتها المختبئة خلف صمتها موارية تفكيرها خلسة من تحطم ذاتها فوق كلمات الشوق ،وكلما اشتهت تلك الشفاه التي قبلتها داهمها طوفان الحنين ما يجعلها متطرفة في العشق متواطئة مع جوع الحرائق ،ومجاعتها تشي برشوتها للغياب من اجل لقاء تتقاسم معه أنفاسها بعدما أمسى حبه فاني، وتركها للوحدة تنهشها موقدة شموع تفكيرها كل ليلة دون إدراك حدود جسده وقطع أشواط في الغياب بعدما ألفت الأشياء التي تحيط به، وتؤثث خزائنه ولاشيء يمنعه من التورط في العزلة ،والحداد ما يجعله يلاحق ضحاياه بشهوة متغطرسة تحكي مجاعته،وكلما استيقظ من غفوته احرق جرائمه في صمته مبررا شنيع فعلته بمطلبه للسعادة ، فيجبره الحزن على فتح ذراعيه للشقاء وعناق النقاط السوداء .
حفرت زينب ذكراه في شريانها ، ولم تغيب لهفتها مادام عشقه يكبلها، ويسرق أنفاسها دون استئذان، وكم يلزمها من الإيمان لتتحمل صمته، وسط تقلبات أنفاسه في كل قطيعة حين يملأ غيابه بتسميات كاذبة ، ويختفي خلف كلمات وهمية مدونة في دفتره دون ترك توقيع أو وصية تنسيها الآهات، وعند اللقاء يتحايل بضحكة كاذبة يخفي فيها جوعه ،ولهيب رغبته في الإستطان لعله يشفى من العقد ،ويتم الأوطان ،وفي كل لقاء كانت تصيبها شظايا بركانه ،وتموت رغبتها السرية تحت جسده المحموم، وما يتعبها أكثر جمع أحزانها ،ورميها في وجه الغبار لتستيقظ روحها فجأة وسط أصوات المطر، واقفة بجانب النافذة رافعة الستار بعناية ،والدمع يلمع فوق وجنتاها، وحبات الثلج تنزلق على زجاج النافذة في عجالة ،وليت الريح تعيرها أجنحتها لتهديها لغريمها خالد بجرعات مفاجئة، وفي النهاية لن تندم عليه لأنه جعلها طوال الوقت تنتظر مواعيده الكاذبة ،وهو يحفر كمين مهجور، وبقايا أثار قدميه شاهدة أثناء اجتيازه الضباب متحايل على قناديل الأشواق ،مكرسا نفوذه لتعميم عبوديته على جميع ضحاياه، وتراه دائما غير مستقر، وفي كل لقاء يجلس على تذكرة سفر متواطئ مع الصمت متوغل في برزخه الذي يمنحه جرعات متوالية من رتابة الحياة والملل ، وتبقى ملامحها مشدودة إليه محتفظة بأمل في قلبها رغم وحشيته التي لازمت برد الشتاء حيث يلتهم الضباب ضياء القمر وتنزل السماء غضبها المثقل بعتمة الصمت ما يجعل قطرات المطر تتضاعف فوق زجاج النافذة، وجنون الطبيعة والشقاء يعصفان قلبها في آن واحد فيشيع تفكيرها مسيرة الفرح، والحزن في ذاتها لتفقد طريق السعادة لأنها لم تعد تملك ما يكفيها من القوة والصبر سوى تطرفها في الشقاء ،وعند الكمين تراها تذرف دموعا ما يكفي سقي زهرة التوليب ،وهي مستندة لنهر أشجانها مستمعة لسكون الليل المطبق مطاردة أحلامها في دجاه في غياب مكان قريب تلتقط منه حلمها الضائع مرة ثانية ملقية التحية كل صباح على مسامع الأزمنة المارة فوق أرضها، فيمر ضبابا كثيف يمزق الكنائس، ويصادر الأفراح،ما يعجز استعادة هدوء الماء الراكد في البركة،ويبقيها على صلة الانتظار بقلب مكابر فهي امرأة الظلام لا تخشى العشق بقدر لقاء يكشف حاجتها لتجميل جيدها برغبة نرجسية تصرف ما تبقى من شهوة علها تشفى من ضراوة حبه التي لم تكابدها وجعلت فؤادها يتهاوى في أسى، وانكسار في كل مساء ،وما تخشاه أكثر فناء العمر وإذا فرق بينهما الموت هل بمقدور كل منهما التعرف على وجه الأخر، ونسيان ذكرى الأرض التي أنساب عليها جفائه وذلك الزرع الذي نبض عبر الزمن بذكراهما ،و سرب الفراشات الزرقاء التي مرت فوق أزهار حقلها، وملح دموعها التي ذابت على شرفة الشوق ،وبقيت تفتقد صوته وبسمته مطاردة حنين مياه الجداول المتلألئة، وكيف كانت تستحي من الريح ؟حين يحمل همها لغمام السماء ، فالشمس والقمر شقيقان يمنحان السكينة والأشواق لمحاصيلها محتفظين بأسرارها لتغفو غمامة الرعد على أزهارها ،وصوت حبها تسمعه في حنايا الريح هل علمته الطريقة التي أقالت هذيانها في كفها وهي تنتظر مجيئه حتى الشمس تألمت حين شهدت أوجاعها تسقط من جفنها ولم تزل السماء تهطل غيثا حتى مجيء أغسطس وبسط نفوذه ، فبزغ نجم غريمها مهرولا نحو الجبال متحدي شموخها لكنه يجهل محاكة مكنوناتها وسر دفن خفايا ذكراها في الضفاف، ولأن الحزن أعمق من ذلك إنه حزن النفس الذي جعل ذكرياتها تنسلخ مرتعشة من جدارية الماضي المصلوب ليتهاوى فوق الثرى مبعثرا هنا وهناك وفي لهفة التلاقي يحتضنها طين أجوري ليهديها قربانا ليناير فيمتزج اللون الأبيض والأسود والرمادي ما جعل تواصل الخطوط ممكن وانصهار التفاصيل محتم تحت دموع السماء فطوت روحها أميال حالمة بمعانقة نيسان وسماع لحن الريح ورقرقة الغدير في الجداول وزحف أسراب الطيور فوق التلال، حتى حواسها رقصت احتفاءا بهذا اللقاء المقدس وتضرعت للرحمن لمسح غمامة الأمس الموجعة الملفوفة في حنايا الغريم وطمس همساته الملغمة بدفء الكلمات التي استعملها كذخيرة لتنفيذ مشروعه الحقير ولم يكن يوما صادق بل سعى لتدنيس المحميات بغرور وهتك قدسية الأعراف ما جعل نور ذاته تتلاشى خلف الضلال فبين روحه وجسده تسكن أحقاده التي تتغذى بنار الثأر وترتوي بروح الانتقام ولأنه جلاد بارع لا يرحم أسراه او تتعبه دموع ضحاياه في معتقله فيقيدهن بإحكام لكن أخر اعتقاله وجهله سر أسيرته زينب ورطه في الصراع فلم تلين أمام جرعاته المفاجئة او تتهاوى أمام صلبه وجلده رغم قيوده المحكمة بأصفاد العشق لم تكن كافية لتخديرها والتغلب عليها في الشوط الأخير كونها تملك روح ناسكة لا تثمل بيسر من نبيذ العشق و بركانها الأنثوي لم يترك أثر لليابسة في أرضه وأحدث تغير جذري أتى بمعالم جديدة ما جعله يجهل نوطات لحن الانتقام لأنها لا تشبه بقية أسراه آلائي كان يرسم لهن قصورا من الرمال وحصون أسوارها مشيدة بخيوط العنكبوت فاستحال عليه اختراق تشفيرها فنعي بهزيمة جعلته أطلال فهي شبيهة زنوبيا وبقية الأشراف فخسر الرهان ونال نصيبه من الهزيمة والعار، ولم ينجو من عذاب يطلبه في كل صباح ومع أماسي الحزن وقع رهينة مناورات الملكة نورهان فزادت من وتيرة تذبذبه حتى استولت على عقله وجسده فأمسى يرتجف بكليته في حضورها لأنها متمرسة في الحب تعتاده يوم الشوق ودموعها تبلل خيوط العنكبوت المرتعشة في الريح ومنذ عرفته حولت حياته لكوارث وتوالت عليه النكبات الواحدة تلو الأخرى وأحرقته بدلا أن تدفئه بخلاف زينب التي تركها لمحنتها وغادر حدائقها التي تعج بالورود الحمراء ...أزهار اللوز... الزنابق...الياسمين ...الرمان..ورقرقة المياه،ورغم حبها رفض طهرها ما تركه ينظر لذكراها بنظرات قلقة تجعله يعيش قنوط عظيم تحت رغبته السرية في بلوغ سلطة العرش فطموحه السياسي يديره بمؤامرة التواطؤ مع مسميات ثورية شبيهة بطلاسم ملغمة إذ علمته الحياة التصالح مع ألذ أعدائه مادامت تربطهم مصلحة واحدة وتسلسل أخطائه يندى لها الجبين أرتكبها لأجل تنفيذ رغبته في تحقيق حلمه وبذخه في الثراء جعله مكسب لنيل إعجاب الناس واحتواء خيبتهم المتراكمة وترسبات الأزمات التي ساعدته لولوج باب السلطة والوصول لكرسي الحكم وشفعت له أعماله الخيرية لدى شعبه ما جعل أخطائه تنهار أمام قوة نفوذه التي أخذت شكل طابور يقف في باب الكنيسة عله يلقى الصفح من القس حين يدلي باعترافه لاقترافه الخطيئة في لحظة ضعف،فمناوراته المتتالية تميت الخجل في رجولته وشجاعته التي تتصف بالصلابة أمام تتالي الهزات .
أثناء تعاظم الحماسة والاستثناءات حاولت الملكة نورهان جاهدة أن تتغلغل في وجدان القيصر وكذا قراراته، فنالت منه بتواطئها مع باقي الأطراف المعادية لتجد الدعم اللوجستي ليحميها من تقلباته المتعطشة لهفواتها التي أوصلته إلى الانهيار.
لقد حولته لمدينة يونانية تنام تحت أطلالها وأسواره الشاهقة فهدمته بتسريب أسراره وكشف مخططاته لخصومه لتشتري رضا حلفائها وتحقيق نفوذ يقودها لتسلق مجده وإشباع غرورها المتراكم الذي يملأ قلبها منذ أن قررت امتلاك قلبه.
عدوانيتها تركت أظافرها على عنقه فأدمن على جنونها متدحرجا نحو شلال اللذة والشهوة ما جعل قناديل الشوق لا تنطفئ في عينيه فعاش كل الأحاسيس والعواطف المتضاربة في قربها رغم تزاحم عطر العذارى الذي كان يأتي من الحقول المجاورة فهو أسيرها في زنزانتها ما جعله يعيش حالة الارتباك منذ تبعثرت رجولته فوق فوضى أفكاره وهو ينتظر ميلاد شوقه المؤجل حتى اكتشف خيانتها من خلال تورطها مع جهات معادية تحت مسميات مستعارة فعرف حجم حماقته التي صنعت تحت إغراء متعمد ضد سلالته الراقية التي تشكل جزء مهم في بناء الحكم الملكي وفي ظل صراع العائلات أثناء اشتعال فتيل الفتن أسقطت شعارات سياسية مؤيدة للنظام الواحد المتوارث وانقذه مجلس الشيوخ بتكاثف جهودهم الحكم الملكي وجعل الدولة تتعافى رغم الضربات المتتالية من قبل الملكة نورهان وحلفائها الذين لم يتوانوا في نشر سمومهم وتوسيع دائرة الخراب وتلفيق التهم للحاشية ومن لهم ولاء للبلاط الملكي وبقيت سلطة القيصر خالد صامدة ولم تضعف أمام الفوضى التي تسببت فيها زوجته الملكة التي كان يغريه جسمها الأبيض كالرخام وتثيره باستمرار فعشقها قطعة قطعة لحد الهذيان.
بعدما استرجعت البلاد أمنها واستقر وضعها عرفت بعد تلك المرحلة ازدهارا كبيرا وعم السلام في ربوعها فزال التشقق والانقسام وفقدت نورهان وكالاتها السرية وضاعت سلطتها ولم تستطيع التسلل إلى الطبقات العليا لكنها رغم ذلك ارتكبت العديد من الممارسات السيئة تجاه الناس سواء بالتصفية الجسدية أو مصادرة أملاكهم بقوة النفوذ أو تحت التهديد الى حين تصفيتها.
لقد أدرك خالد انه لن يتذوق طعم السعادة حتى يتصالح مع نفسه ثم يصلح علاقة أفراد رعيته فيما بينهم حينها فقط سينعم بصفوة الهدوء النفسي والسلام الروحي.
أفرغت المدينة بعد فراقه لزينب من الحنين ولهفة العاشقين وامتلأت بالجفاء ولهفة الهجير هذيان الصمت المفتعل يلف أشلاء امرأة تشتهي فصول الخراب ودمار يرسم حدوده بفجائع مذهلة وبطقوس إغريقية يناور خالد برصاصة خاطئة تتسابق لاغتيال جسد عاشق وتشيع جثمانه على حافة الذاكرة ....فعل به الحزن ما يفعلون في زمن الردة والتطرف يصلون بأفواه مستعارة وقلوب مستأجرة....يشتهون فجائع الأتقياء بمتعة غامضة ، ويحجزون مسبقا أماكن تؤثثها جثث الضحايا وعيونهم النازفة يشيعون بها جرائمهم علنا في مواكب مزينة للقتل وتتبعهم دمعة تكابر جنون متطرف يرفض مصافحة هجر يسكن الأوردة عنوة وبسذاجة قاتلة يشتهي ضحكة مسروقة من جسد يحتضر ....يبكي ....ينزف ....وعلى حافة الرصيف تتراكم فجائع محتمة تنتظر بقرب المحطة وهي ترقب سفارة أو غماز يعلن للتو موعد القاطرة ....تتعثر الخطى في زمن لعنة الخرافات وعبثية الأوهام ....كبرياء زينب لا يهزم بتوحدها في حب متطرف يتغيب خلف أسوار قلعة أغريقية شيدت لتشييع بقايا دمار طال هزيمة العشاق .
يمارس الحزن علنا سلطته المبتذلة ويرتكب حماقات يحجز لها مسبقا مساحات محظورة ...لدفن دمار أي مجد في سكون مطبق ....وإخفاء الجثث المهشمة ....قلاعا محصنة سقطت سهوا بعد أخر سطو شهده مثلث الموت ...ليصبح مقبرة جماعية..لو كان للحب قاتل وشهيدا معا؟ما اسم الموت..؟ عندما يكون برصاصة مفتعلة ؟ إنها سخرية المواجع ...فضول امرأة أذهلها صمت رجل وزاد فضولها رغبتها السرية لحضور آخر فصل مأساوي لدراما مفتعلة ...اغتصب حلمها على بياض الورق وهي تنتظر لذة الحب ...بتزايد صقيع المشاعر الباردة ...كذبة بعد أخرى تؤكد حتمية ولادة قيصرية تنتظرها الموت في آخر النهايات لتمنحها شرف الرحيل على جوع ...وتسحب منها فرصة إشباع أو تذوق لذة العشق على خطى غربة أشهى ونبرة حزن أعمق وفرح لقلب مكابر غامض ...تكاثرت على حدوده هنا وهناك أحلام مستعارة ....ونسخ متشابهة لذاكرة واحدة ...بحكم التطرف والعيش على هامش اللذة ...بحكم فرح مؤجل تحت وصاية الإمبراطورية التي تثير دائما البلبلة ...لتبتلع ثوارها بشراهة وبجاذبية مذهلة يرسم القيصر خالد على جسد ضحاياه معالم غامضة ....ويستبشر بفتوحات ليعيد رسم المآسي نفسها.
حياته أصبحت صفحة ماء ميتة لا يخضع لرغبة أو ميول عاطفي بخلاف الحنين لذكرى زينب، وغيابها المحتم و لن تجدي انتصاراته وإن أشرقت الشمس من الغرب وأزهرت الأرض بشقائق النعمان فالجفاء سكن الغياب وطال نورس مهاجر نحو الشمال وأثناء عودته تغيرت الأزهار وأنبتت مكانها الأشواك فالشوق يقرع في قلبه أجراس اللقاء،والقلب العاجي مات في غربة المكان.وهو يتمتم في صمت مفرغ من جوفه حزن عصره من جفن الشمس وراح يقاضي الحب لدجى الليل فكيف للفرح أن يغتصب في أرض العشق وتساؤله عن قلب مدمى من الهوى وروح تهجدت في ذكرى غصن انحنى وهو يشدو للقاء فيا معذبي لما الهجر وترك روحي تشتاق.
كان شوقه احد الأسباب التي دفعته للبحث عن الأماكن التي عاشت فيها لعله يرمم الدمار الذي طال أعماقه التي أوقفته في عتبة هزائمه فدله صديقها لقبرها وتحت وقع الفاجعة ردد كلمات متقطعة حزينة لماذا كل أحبائي ماتوا؟ربما الشيخوخة اقترفت ذنبها حين سلبتنا من نحب ؟ أو رحيلنا عمن نحب شارك شيخوخة عمرنا؟
تنتمي الآن زينب لعالم آخر حتى لو دفع القيصر كل أملاكه ورهنها لن يستردها ...لقد زرعت ألغام حولها وكتبت على لافتة سوداء « منطقة محظورة " ...أوصدت أبوابها وحتى ثقوب النوافذ أغلقتها لم يبقى منها سوى أشلاء امرأة ....لقد أفرغت أنوثتها في غيابه على ورقة صفراء وأحرقتها في موقد الشوق وعاشت في غيابه ناسكة تذكره في صلاتها وتردد اسمه في هذيان الحمى ولم تكن يوما على توافق مع الحب ماتت في سنوات عمرها المضطربة وهي تسعى إثر الموت حين وصلت لذروة اليأس...ماتت وكل من الألم واللذة يتقاسمان هيكلها الشاحب المتعب من عقدة حزنها الأزلي.. جائعة . تلبس طيفه حدادا ..متوحدة في ذكرى موجعة ..اختارت لقلبها قبرا واحد ....بعدما شيعها خالد في ضريح الصمت وهجرها على عجلة .....تماما ...مثل سرب النورس حين يقرر الرحيل ويحدد وجهته.. بحث عنها ولم يستطيع العثور عليها فماضيهم كان مكهرب، وملغم تماما وفي قلب الوجع يكابر انهياره ويصفد دموعه بكبرياء رجل...وإذ بأحاسيس متناقضة داهمته فتحايل بضحكة كاذبة على حافة حزنه الذي يسكن خلف ضباب الدمار متسللا من أنامل القهر نحو حنين يقوده لسعادة متطرفة مطيعا رغبته في استحضار ذكرياته المدججة بالأفراح التي لم تخلو يوما من الغصات، والخيانات المتكررة وتوحده في حبها جعله يسلك الأماكن التي سلكتها لعله يسمع أثار خطاها أو يشم ريح عطرها ، وحتى الأماكن المهجورة قصدها لعلها توقد حنينه وتستنطق ذاكرة النسيان الذي قهره ،وإذ بيده تقع على صندوق به محتوياتها الشخصية ومن بينها صوره ،ورسائله التي احتفظت بها للذكرى كانت الشمس ترتدي ثوبها الأخير ما زاد في كآبته متسائل عن الحياة التي تبعت فراقهما هل أخلصت لذكرياته ؟تلك الذكريات النرجسية التي تثملك دون نبيذ ،وهل غفرت خطاياه المفتعلة...؟
وفي حرقة الفاجعة يخاطب أشيائها قائلا: لقد اكتفيت بوصلك وأحرقت أوراق غيرك في موقد الهجر، وعلقت حبك في الوريد معلنا التمرد عن العصيان، وجئتك مع ترانيم الفصول اطلب الصفح عن دموعك التي سالت في الغياب دعيني أجول في ضفافك لأرسم مدينة حدودها أسوارك ولتبقي على حراسها، وتاجها في يدك دع اللقاء يسرق لحظات ظمأ سنين العجاف ويكون زادا اكتفي به في غيابك أتهجرينني في صمت الرهبان وتعلقين جدائلك في جرح الأنام وتسرين في غربتي دون وصال ،وتقطفين الدمع من وجنتي في غرة الأحلام،ولقد رفضت حبا بديلا يعوض غيابك، فجمعت فرحتي من جفن القمر لأهديها لقلبك المتعب ، ولملمت جرحي في ضلوعي لأذيب ملح الأشجان.سامحني لأني لم أمنحك أشياء تشعرك بحبي، ولم يكن هناك أحد يمسح دمعك في غيابي،ولو عدت سنمضي معا دون عتاب، وسأحضنك ملايين السنيين لأجعلك تشعرين بحبي لكن الموت جاء مبكرا جدا حبيبتي ،ولم نعد سويا في مملكة العشاق ... فالوقت نفذ منا بعدما فات الأوان وسأبقى مدينا لحبنا ،وقد جئتك مثل أولى البدايات ،ومازلت اذكر أنفاسك التي احتضنتها عند كل لقاء، فأرجوك لا تحبي غيري، فانا أخبئ لكي الكلمات التي لم استطيع أن أقولها بسبب غروري حين تركتك تذهبين ،وبقيت أنادي على اسمك بحزن يوميا ما جعل غيابك يحول أفراحي وانتصاراتي إلى مآسي.
مرت سحائب الضباب تغزو ذلك المكان المهجور في خجل ما أثار في خالد الحنين لأيام جمعته مع زينب وأدرك انه ما يبحث عنه أصبح بعيد المنال ولن يروي ظمأه لأنه لن يحصل عليها في الواقع وحلمه مجرد وهم وغبار مغمور بنور هارب من لسعات الهجر نحو حطامها المنثور في درب الغياب .... هذا الشعور بالجوع والذنب رافقه بقية عمره ومنعه من العيش حياة سعيدة .
بقلم الكاتبة: حكيمة شكروبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.