الصفحات

أشباح... موتى ــ قصة | بقلم زهرة مراد ــــ تونــس

المكان مليء بالأشباح الهزيلة، تتحرّك في كلّ اتجاه بعشوائيّة. البعض يسير محنيّا، مطأطأ الرّأس. والبعض قد أطلق سوادا تحت ذقنه حتّى كاد يغطّي قفص صدره. والبعض الآخر يبطئ في السّير وكأنّ به عطبا في قدميه.
المكان مليء بالموتى، تتحرّك هنا وهناك... بلا هدف... وبلا رؤية واضحة. ينتصب خلفهم جبل شاحب قد أعياه الجفاف، وتنتصب حذوهم في احتشام، أشجار أرهقها شحّ السّماء، وتمتدّ تحت أقدامهم أرض عطشى تئنّ وجعا.

المكان مليء بالأشباح الهزيلة، "تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها، أثوابها رثّة" ووجوهها شاحبة، والعيون قد غارت وهي تنظر في سماء سكنها اليأس. لا تنتظر أملا، ولا حتّى تحلم به. تمتدّ بصائرهم إلى الأفق البعيد. فلا يرون غير السّواد القاتم يغطّي السّماوات، فينقطع الرّجاء عندهم.
المكان مليء بالأجساد الزّائفة. تتحرّك في موت بطيء... لا ينبئ بالخير... وفجأة تعمّ الفوضى وتتسارع الحركات ... هل هي الحياة تدبّ في جماجم الأشباح ؟ يتقدّم منك بعضها... ترى الهول في نظراتهم وترى البؤس السّاكن فيها... ويبتسمون لك، ثمّ يُلحقون ابتساماتِهم بطلب الرّحمة... تودّ أن ترحمهم... لكنّك تعجز عن النّظر في وجوههم الكالحة... رغم ابتساماتهم. تُسرع الخطى... تَهرب منهم جميعا ... تَلحق بك الجموع... تتعثّر بعض الأشباح وراءك ويناديك بعضها... لمَ لا ترحمنا... نحن مثلك نريد الحياة...؟
تلتفت وراءك... تنظر إلى أجساد الموتى... تعيد نظرك إلى نفسك... تلاحظ الفرق... تحتار... تُرى من منّا ميّت ؟ من منّا حقيقيّ ؟ يتحلّقون حولك فإذا هم في شقائهم ينعمون...
تخرج من أعماقك آهة...
تحرق الآهة صدرك...
يؤلمك لهيبها...
كيف للموتى أن ينعموا بشقائهم ؟
تتساءل دون جدوى، فأنت لا تستطيع أن تفهم... سرّ الحياة...
تهرب من الأشباح. تتعثّر في بعض الموتى... تسقط... تقف من جديد وتواصل الهرب... تبتعد... تبتعد كثيرا... تجد نفسك في طائفة أخرى... تتجوّل بين أفرادها... إنّهم موتى أيضا. لكنّ رائحة الموت لا تفوح منهم... تجذبك رائحة مميّزة من طرف المكان... تترك كلّ شيء وتسير في اتّجاهها... فتجدهم... أربعة... وخامسهم شبه حيّ...
تتنصّت عليهم من بعيد... فإذا هم يتبادلون حديث زمن جميل... تقترب منهم... فيرحّبون بك... تنسى عالمك وتنسجم مع عالمهم... تعجبك رائحة البخور... وأصوات أشباه الموتى... تحبّ وجوههم الآتية من زمن غابر... وابتسامتهم الذّاوية... فتجلس إليهم ... تتأمّلُ وجوههم الضّاحكة... وتبادلهم الحديث... فيستمتعون بمشاركتك لهم لحظاتِهم... وتسعد أنت بما تسمع عن زمنهم الغابر...
تحين ساعة الرّحيل... فتترك الموكب وتغادر... لكنّك لا تودّعهم ... بل تبتسم لهم وتعِدهم بالعودة... فيلوّحون لك بأيديهم المتعبة ... على أمل أن يروك ثانية... تترك في أنفسهم طعم الحياة... فيتبادلون النّظرات ويتناولون ذكرك بطيّب الكلام...
في تلك الآونة تكون أنت قد ابتعدت كثيرا، لتعود إلى عالمك...
المكان مليء بالأشباح... تتحرّك في كلّ اتّجاه بعشوائيّة... وأنت لا تراهم... لكنّهم يلاحقونك بنظراتهم السّاخرة... وأنت تشقى بعقلك... يقهقهون وهم يتأمّلونك تتخبّط في غابة من الرّؤى الشّبيهة بالكوابيس... يستغربون منك كلّ حركاتك...
تعاند نفسك...
تكابر...
ترى الحياة فيك ولا ترى فيهم غير الموت...
يتبادلون النّظرات ...
ثمّ ينظرون إليك نظرة الشّفقة...
لكنّك لا تبالي بهم... بل تواصل السّير نحو الضّفّة الأخرى وقد ملأتك مشاعر متناقضة...
المكان مليء بالأشباح... تريد أن تجعلهم أحياء... تودّ أن تنفخ فيهم من روحك وعقلك... لكنّك تعجز... لأنّهم يرفضون الحياة... تقرّر أن تتجاهل أمرهم ... تعود إلى نفسك... تغالبها لتنجو ... ينتابك عجز آخر يرفض منك الاستسلام ... فتمضي وقد كبّلك التّناقض... وتؤجّل الأمر إلى مسيرة أخرى...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.