الصفحات

حديث العصا | د. عبد العزيز بوشلالق جامعة المسيلة الجزائر

في يومٍ من أيام الخريف المتقلِّبةِ جلسَ الشيخ ( العربي)على حافَّةِ النَّهرِ ينظرُ إلى الحقولِ وقدْ لعبَتِ الريحُ بأوراقِ أشجارِها فأصبحتْ صفراءَ حزينةً، تبعثُ في النَّفس كآبةً وتُوحي بوِحشَةٍ غريبةٍ، تنقبضُ منها أساريرُه، ينظرُ إلى ما بَقِيَ لهُ منَ الطَّريق فيراهُ بعيدا ، يسْبَحُ بخيالهِ في تعرُّجاتِ السِّنينِ، وسرعَةِ انقضائِها، تزدحِمُ الأفكارُ في رأسِهِ، يريدُ البوْحَ فلا يجدُ مُؤنِسًا إلاّ عصاهُ التي يتوكَّأُ عليها، وتَهُشُّ عنه كلابَ السِّكَكِ، يَخُطُّ مربَّعًا في حاشيةِ النَّهْرِ المبلَّلَةِ، يرسمُ بداخله خطَّيْنِ متعاكسين أحدُهما أفقيٌّ والآخرُ عموديٌّ تتشكَّلُ لديه أربعَةُ مربعات صغيرةٌ يبدأُ في تتبُّعِ الخطوطِ ذهابا وإيابا، ثم يُخْرِجُ زفرةً حارَّةً مع تنهيدَةٍ عميقةٍ كأنَّ به جُرحًا غائرًا أو يريدُ البوحَ بشيء دَفينٍ.

ينظرُ إلى يده يجدُ نتوءات أربعة من فِعْلِ احتكاكِ العصَا، ثم ينظرُ إلى العصَا فتقَعُ عيناهُ على موقعِ يدِهِ وإذا بخيوطِها المزركةِ ، التي طالما أدخلتِ السُّرُورَ على قلْبِهِ، لا يجدُ جوابا أيُّهُمَا كان السَّبَبَ في فناءِ الآخرِ، يشرُدُ بذهنهِ بعيدا على امتدادِ مصَبِّ النَّهْرِ، لا يشعُرُ إلاَّ بالعصا تُغْرَسُ في أحدِ المربَّعات الأربعة التي خطَّها قبْلَ قليلٍ، يُخَيَّلُ إليه أنَّ العصا تتحرَّكُ قليلا قليلا، وتبدأُ في حركةٍ اهتزازيةٍ، ليُصْبِحَ رأسُها المعقوفُ وَجْهَ فتاةٍ حسناءَ تخاطبُهُ، ترتَعِدُ فرائسُهُ، يحاولُ الاتِّزَانَ يزيدُ خوفُهُ وتكثُرُ رعْشَتُهُ التي كانتْ من قبلُ خفيفةً يقْوَى عليها بالصَّبْرِ والمجاهَدَةِ، يَصْدُرُ منها صوتٌ عذبٌ رقيقٌ.
العصا: انظرْ إليَّ ياسيِّدِي ولا خوفَ عليك، فأنا رفيقةُ دربكَ ومفرِّجَةُ كربكَ، وحاميَّتُكَ وقْتَ الشِّدَّةِ، انظرْ إلى البِرْكَةِ التي أمامكَ، البارحةَ فقط وأنتَ تتباهى بشجاعتِكَ أمام أقرانكَ كيف ترتفعُ وتنخفضُ وتدورُ في الهواء ثم تنزلُ غاطِسًا بفنيات عجيبةٍ، انظرْ إلى الصِّبْيَةِ يلعَبونَ ويتسلَّقُونَ الأشجارَ ويسرقونَ الفاكهةَ الموسميَّةَ منْ تينٍ وعِنَبٍ، انظرْ إلى والدِكَ يعاركُ فيضانَ النَّهْرِ مع الفلاَّحينَ فيقيموُنَ سُدودا صغيرةً من الطِّينِ والقشِّ فيحُدُّونَ مِنْ سُرعةِ تَدَفُّقِ المياهِ، انظرْ إلى مواسمِ جَمْعِ الغِلاَلِ وكيفَ يَضَعُها المزارعُونَ في أكياسِ القشِّ ويرصُفونَها على حيواناتهم ويذهبونَ باكرا إلى أسْوَاقِ المدينةِ.
انظرْ إلى والدَتِكَ تَأْخُذُكَ معها في زياراتها المتكرِّرَةِ إلى أخوالِكَ في أفراحِهمْ وأتراحِهِمْ، كمْ وكمْ لعِبْتَ ومَرَحْتَ؟، كمْ وكمْ تمَنَّيْتَ عدَمَ انقضاءِ مدَّةِ اللَّعِبِ معَ أبناءِ أخوالكَ وخالاتكَ، كمْ وكمْ استقبلْتُمْ العيدَ بالأفراحِ والبهجةِ، وعاهدتُمْ بعضَكَمْ على عدَمِ النِّسْيَانِ والتَّشَبُّثِ بالأحلامِ والآمالِ.
انظرْ إلى مراحلِ الدِّراسَةِ كيفَ انقضتْ بسرعةٍ فائقةٍ؟، كمْ تمَنَّيْتَ العامَ بعدَ الآخرِ أنْ تَكْبُرَ وتتَخَرَّجَ وتَنْتَهِيَ مِنْ عَنَاءِ الذَّهَابِ والإِيَابِ إلى المدرسةِ، وعناءِ الحفْظِ والمُرَاجَعَةِ.
تَقْتَرِبُ منْهُ العصَا، تكادُ تلْمَسُهُ فينتفِضُ خائِفًا، يأخُذُها للمرَّةِ الثانِيَةِ، يضَعُهَا في المربَّعِ الثَّانِي، يَغْرِسُهَا جَيِّدًا حتَّى لا تتحَرَّكَ، تعودُ إلى طبيعتِها الأولى تبدأُ في الاهتزازِ وتُسْفِرُ حركَتُها عنْ وجهِ الفتاةِ الحسناءِ ، فيندَهِشُ من الموقفِ، يحاولُ النُّهُوضَ والمغادَرَةَ تتَسَمَّرُ رُكْبَتَاهُ ورجْلاَهُ كأنَّهُما غُرِسَتَا مثلما غُرسَتْ هذه العصا، تخاطِبُهُ مِنْ جديد:
العصا: اسمعْ أيُّهَا الشَّيْخُ، لقدْ جاءتْكَ الدُّنْيا صاغرةً فتزوجْتَ وأنجبْتَ، وذُقْتَ نعمةَ الأولادِ والعافيةِ، صحيحٌ ماتَ أبواكَ وأخذْتَ استقلالَكَ في الحياةِ، إنَّهَا سُنَّةُ الله في خلْقِهِ، فمثلمَا لمْ تبقَ معَ والديكَ، هاقدْ بدأَ أولادُكَ ينفَضُّونَ مِنْ حَوْلِكَ الواحدُ بعدَ الآخرِ، وبقيتَ وحيدا مع عجوزِكَ، تحملها تارةً وتحملكَ تارات، تشُقُّ طريقَكَ يوميًّا إلى المدينةِ كأنَّ لكَ التزاما معَ قتْلِ الوقتِ، ومعرفَةِ أحوالِ النَّاسِ، أو كأنَّكَ كُلِّفْتَ بمراقَبةِ أعمَالِهِمْ، ومتابَعَةِ أخبَارِهِمْ، وتَصَفُّحِ أحوَالِهِمْ، لماذا تُتْعِبُ نفسَكَ، وتُجْهِدُ بَدَنَكَ في أمْرٍ لا طائِلَ منْهُ.
تبدأُ العصا في الميلانِ قليلا قليلا حتَّى تكادُ تلامسُ جبهَتَهُ فينتفضُ خائفا كأنَّهُ كانَ في غيبوبةٍ، يتنهَّدُ ويُخْرِجُ زفرةً عميقةً وينظرُ إلى المربَّع الذي خطَّهُ في البدايةِ ، يغرِسُ العصا في المربَّعِ الثالث ويُحْكِمُ غَرْسَها حتَّى لا تتحرَّكَ، يُدَقِّقُ النَّظَرَ إليها، تتعَبُ عيناهُ منَ التَّرْكِيزِ في شَكْلِها وتعرُّجَاتِ الخيوطِ السلكِيَّةِ التي أحكَمَهَا في رأسِهَا، تأتِي هبَّةُ ريحٍ من رياحِ الخريفِ المُغْبَرَّةُ، تُحَرِّكُ خيوطَ العصا، يُخَيَّلُ إليه أنَّها بدأتْ في حركَتِها الاهتزازيةِ الاعتياديةِ ، يقشَعَّرُ بدنُهُ، تُطِلُّ الفتاةُ الحسناءُ برأسِها منْ رأسِ العصا وتخاطِبُهُ.
العصا: لقدْ حلا لك الجوُّ وظننتَ أنِّي جئتُ لأؤنِسَكَ في هذا الخلاءِ وأروي لكَ مراحلَ العُمْرِ، كلاَّ وألفُ كلاَّ، إنَّنِي أتْبَعُكَ في حلِّكَ وتَرْحَالِكَ، وأعرفُ أسرارَكَ، عندها انتفضَ صارخًا ليسَ عندي أسرارٌ، ليس عندي أسرارٌ.
العصا: ولماذا تقصدُ هذا المكانَ بالذَّاتِ دونَ غيره؟
الشيخ: أنا شيخٌ كبيرٌ وأريدُ أنْ أستريحَ في منتصفِ الطَّريقِ.
العصا: من يريدُ أنْ يستريحَ لا يقصدُ مكانا بعينِه، ويزورُهُ في جميعِ الفصولِ والأعوامِ.
الشيخ: أنتِ شيطانةٌ ماكرةٌ تريدينَ استدراجي للوقوعِ في النَّهْرِ.
العصا: وما عساني أفعلُ بمَوْتِكَ؟
الشيخ: الشياطينُ ليس لها هدفٌ فيما تفعلُ غيرَ أذيَّةِ الخلْقِ.
تأتي هبَّةُ ريحٍ قويَّةٌ تحرِّكُ العصا، تميلُ هذه المرَّة وتسقطُ عليه، يصرخُ من الضَّربَةِ ويفيقُ منَ الغيبوبةِ، يرتجُّ لهولِ الموقفِ ولا يقوَى على المغادرةِ، ويحرِصُ أنْ يُكْمِلَ معَها المسرحيَّةَ إلى الآخر.
يقومُ هذه المرَّة ويغرسُ العصا في المربِّع الرابع بكلِّ ما أُوتي منْ قُوَّةٍ، ويجلسُ ضاحكا مبتَدِرًا الخطابَ:
الشيخ: هيا تحرَّكي، تكلَّمي أيَّتُها العصا العنيدةُ، يأخذُ حفنةً من الحصى ويبدأُ في رمْيِها وكلَّما ضربَها تُحْدِثُ صوتا يُرْجِعُ صداهُ في أذُنَيْهِ كأنَّهُ أنينُ المتوجِّعِ، يبدأُ الخوفُ يعاودُ نفسَهُ منْ جديد ، يتراءى لهُ وجهُ الفتاةِ من جديد، تخاطبُه:
العصا: مازلتَ تداري خوفَكَ ؟
الشيخ: وممَّ أخافُ؟
العصا: من سرِّكَ الذي يعذِّبُكَ ويأتي بكَ إلى هذا المكانِ.
الشيخ: لقد قلتُ لك ليسَ لدي أيُّ سرٍّ.
العصا: وإذا ذكَّرْتُكَ به؟
الشيخ: ألمْ أقلْ لكِ إنَّكِ شيطانةٌ؟ فالحُسْنُ الذي يغطِّي وجهَكِ طلاءٌ زائفٌ، وفعلُكِ أشنعُ منْ لونِكِ المزيَّفِ؟
العصا: ألمْ أكنْ كاتمةَ أسرارك، ومساعدتَك في حلك وترحالك، وطاردةَ الخوف من بالك وخيالك؟
الشيخ: إذن لماذا تعذبيني، وتتهميني، وأنا لم أرتكبْ جُرما.
العصا: لقذ ذكرتُكَ بالمكان والزمان، ورويتُ لك ما يحرِّكُ دواخلَ الاعترافِ بالذَّنْبِ لكنَّكَ مُصِرٌّ على فَعْلَتِكَ؟
الشيخ ( صارخا) ماذا فعلتُ؟. ماذا فعلتُ؟
العصا: ألمْ ترمِ أخاكَ في البركةِ المقابلةِ لك؟ ألم تتركْهُ يغرَقُ؟ ألم يكنْ يطلبُ النجدةَ ولم تنجِدْهُ؟ لا لشيء سوى لتفضيلِ والدَيْكَ لهُ على نجابَتِهِ وذكائِهِ؟
يقومُ الشيخُ صارخا: لم أقتُلْهُ ...لم أقتُلْهُ .. لم أقتُلْهُ، لم يفقْ إلاَّ والماءُ يخرجُ من الثُّقُوبِ التي أحدَثَهَا بعصاهُ، ثمَّ تقوى رويدا رويدا تجذِبُهُ إلى النَّهر ، يحاولُ المشيَ أو الهرَبَ يتسمَّرُ في مكانِهِ ، يقوى الماء، يغمُرُهُ يجذِبُهُ إلى وسَطِ النَّهْرِ، يصْرُخُ ويبتعدُ قليلا قليلا ، يزداد التيار قوةًّ، ينخفِضُ صوتُهُ، تغلِبُهُ زمجَرَةُ المياهِ، تبقى العصا منتصبةً في المكان كأنَّها تراقبُ ما يحدثُ. 2016.01.10

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.