-"و هذه هي الصالة ، البيت كما ترين ليس كبيراً، و العمل به غير مجهد، لن يأخذ تنظيفه معك وقتاً كثيراً، فقط أطلب منك الالتزام التام بالمجيء بالوقت المحدّد بلا تأخير أو أعذار واهية".
والتفتت صاحبة البيت الخمسينية إلى شابّة عشرينية السن ، حضرت بتوصية من إحدى صديقاتها، كي تقوم بمساعدتها في أعمال المنزل، لتجد الشابة مشدوهة ..! تحملق في أثاث الصالة بعينين اتسعتا بطريقة لافتة، وفم مفتوح، وقد فرّ الدم من وجهها .
-" مابك ؟! "
صاحت صاحبة المنزل، تنبَّهت الشابّة وأسرعت تلملم تبعثرها، وبصوت مضطرب حاولت جاهدة أن تجعله طبيعيا :
-" لا شيء سيدتي ، لا شيء البتّة ، فقط أنا لا أصدِّق أن الحظ واتاني و سأعمل عندك، قالت لي السيدة فاتن أنني سأكون محظوظة إن حزت رضاكِ، وقبلتِ ان أعمل عندكِ، نعم سأحضر كل يوم صباحاً في الساعة التي تحددينها، رهن أمركِ سيدتي".
تنهدّت السيدة تنهيدة خفيفة، ونظرت إلى الشابة نظرة متفحّصة، فتاة جميلة الملامح، مع شحوب خفيف في سحنتها، وهذا أمر طبيعي بالنظر لظروفها التي حدّثتها عنها صديقتها فاتن، ملابسها محتشمة، لا تخلو من أناقة بسيطة، غير ملتصقة بالجسد الذي لا تخطئ العين جمال تكوينه، التشققات والخشونة التي كست كفيها، طمست معالم نعمة ماضية بقي منها خاتم ذهبي رفيع يزيّن بنصرها الأيمن:
-" أنت مخطوبة يا ندى ؟"
تسألها السيدة بعدما أنهت جولتها التفقدية في معالم الفتاة وهيئتها.
-" نعم سيدتي، لكني لا أعلم أي شيء عن خطيبي إلى الآن، غابت أخباره عني منذ أكثر من سنة !"
- "أخبرتني صديقتي أنك مهجّرة من المدينة المجاورة، وأنك تقطنين مع أمك وأختك الصغيرة في غرفة بالشارع المجاور."
- " نعم سيدتي، اشتدّ أوار الحرب في مدينتنا، اضطررنا إلى المغادرة على عجل، ووصلنا إلى هذه المدينة الآمنة، وجد أبي عملاً في مصنع قريب، لكن قلبه الضعيف لم يقاوم بشكل كافٍ ليعيش، مات، وكان لزاماً علي أن أعمل، أمي أيضاً مريضة، وأختي يجب أن تدرس ".
-
تنظر السيدة إليها بحنان، تُكبِر فيها عزة النفس والكرامة، تربت على كتفها وبصوت أموميّ تهمس لها :
-" لا عليك حبيبتي، ستكونين مرتاحة بالعمل عندنا، لدي ابنة بمثل عمرك، ريم بالثانوية العامة، هي الصغيرة بين أولادي الذين تزوجوا جميعاً، تكونين مثلها، يعني ابنتي ".
الحرب، تلك اللعبة الغبية، التي لا مفاز فيها إلا للموت والشقاء والدمار... و لتجّار الموت الذين يعرضون بضاعتهم على أباطرة السفه ليشتروها ويلهون بها، عابثين بحياة الغير، غير آبهين لا بالبشر و لا بالشجر ولا حتى بالحجر، تفنّنوا بتزيين سلعهم، ألوان مبرهجة، وأشكال غريبة، قد تطير في السماء كالطير الأبابيل، وتسقط سقوط النسور على فريسة، قد تباغت من البحر مازحة ، وقد تنطلق من الأرض هوجاء صاخبة، كلها تحمل الموت بألوان تتماهى بين الأحمر والفوسفوري والبرتقالي والرمادي ثم يتسيّدها الأسود.....فمن يخطئه الموت يحضنه الشقاء...
والتزمت ندى بالعمل عند السيدة، التي أكرمتها مشفقة عليها، أخضعتها لاختبارات عديدة للوقوف على موضوع الأمانة عندها، ألفتها تحملها خُلُقاً أصيلاً، شيء واحد كان مثار شكّها، لكنها لم تستطع أن تحصل من ندى على إجابة تقضي على هذا الشك! عندما تدخل ندى إلى الصالة لتنظيفها، تغلق بابها جيداً وتقضي فيها وقتاً طويلاً نسبياً، تخرج بعده بعينين متورمتين من هطل مزن استمر ردحاً من الزمن ...
يتكرر الأمر كل يوم، طلبت السيدة من ابنتها ريم أن تتقرّب من ندى وتصادقها، وعندما تثق بها تسألها عن تصرّفها الغريب هذا.....صارت ريم تختلي بندى بأوقات عديدة، حكت لها حكايات البنات المعروفة، سألتها عن خطيبها في محاولة لاستثارة دواخلها، أخبرتها ندى الكثير عن حبهما، أحبته مُذ كانت في المدرسة الثانوية، يكبرها قليلاً ويعمل محاسباً في مكتب على طريق مدرستها، صارحها بحبه، وتقدّم لخطبتها وكان الاتفاق أن يكون العرس بعد حصولها على الشهادة الثانوية، لكن ...!
الكارثة التي حلّت بالبلد، حطّمت كل الأحلام، وخربت كل التدابير، فلا هي حصلت على شهادتها، أما هو فقد سيق إلى الخدمة العسكرية بصفة احتياط، غاب ظله كما انقطعت أخباره...
فجأة سألتها ريم بطريقة مباغتة :
"لِمَ تطيلين البقاء في الصالة، وتخرجين منها باكية ؟!".
تلتفت ندى إليها بسرعة، لا لتجيب وإنما لتسأل :
" من أين اشتريتم كنبات الصالة ؟".
ترتسم الدهشة على وجه ريم ، تجيب بخجل :
" من سوق الحرامية ! أبي اشتراه من هناك بثمن قليل مقارنة مع جودته وجدّته، لم نوافقه بالبداية، لا أنا ولا أمي، لكننا رضخنا بالنهاية، كانت الأمور المادية معه معسّرة قليلاً، وكنا بحاجة إلى طقم كنب جديد عوضاًعن القديم خاصتنا، لكن لماذا تسألين ؟".
عاجلتها ندى بسؤال آخر:
" أين يقع سوق الحرامية هذا؟ ومن أين يأتون بالبضائع؟ ولماذا هي رخيصة ؟ ".
طأطأت ريم رأسها وهي تجيب:
" هو ليس سوقاً نظامياً، هناك ساحة فضاء على أطراف المدينة، والبضائع بالحقيقة مسروقة يأتي بها الحرامية الذين سرقوها من البيوت التي غادرها سكانها في المناطق الساخنة، يسرقون أثاثها ويبيعونها في ذلك السوق في أيام العطل، بغفلة عن أعين الحكومة ".
سرحت ندى بنظرة عميقة في عيون ريم التي كستها نظرة خزي ، قطعها صوت ريم :
" ما بك ندى ؟ أين شردتِ؟"
بحركة مفاجئة ، أمسكت ندى بيد ريم ساحبةً إياها إلى داخل الصالة ، متوجّهةً إلى كنبة مزدوجة، أجلستها عليها، وجلست بجوارها، أشارت إلى خدوش على اليد الخشبية للكنبة ، تهدّج صوتها وهي تقول :
" دقّقي في تلك الخربشات، هنا كنت أجلس مع خطيبي أحمد، وهنا نقشت بحبكة شعري اسمه واسمي وقلبا مخترقا بسهم يتوسّطنا...! ....وسأقول لك سراً، في حشوة هذه الكنبة خبّأت على عجل سلسالاً وأساور ستٍ وحلقاً ذهبيّاً ، مصاغي الذي أهدانيه أحمد يوم خطبني..!....خبّأته يوم تعرّضت منطقتنا وبيوتنا لمداهمات من عناصر مموّهة لم نستطع تمييز انتماءاتهم، لكن المؤكد أنهم لا يخرجون صفر اليدين أبداً."
كيس الخام الذي حوى مصاغ ندى، أخرجته ريم من حشوة الكنبة بعد أن بقرت قماشها من الأسفل بسكين حادة.
د. عبير خالد يحيي
والتفتت صاحبة البيت الخمسينية إلى شابّة عشرينية السن ، حضرت بتوصية من إحدى صديقاتها، كي تقوم بمساعدتها في أعمال المنزل، لتجد الشابة مشدوهة ..! تحملق في أثاث الصالة بعينين اتسعتا بطريقة لافتة، وفم مفتوح، وقد فرّ الدم من وجهها .
-" مابك ؟! "
صاحت صاحبة المنزل، تنبَّهت الشابّة وأسرعت تلملم تبعثرها، وبصوت مضطرب حاولت جاهدة أن تجعله طبيعيا :
-" لا شيء سيدتي ، لا شيء البتّة ، فقط أنا لا أصدِّق أن الحظ واتاني و سأعمل عندك، قالت لي السيدة فاتن أنني سأكون محظوظة إن حزت رضاكِ، وقبلتِ ان أعمل عندكِ، نعم سأحضر كل يوم صباحاً في الساعة التي تحددينها، رهن أمركِ سيدتي".
تنهدّت السيدة تنهيدة خفيفة، ونظرت إلى الشابة نظرة متفحّصة، فتاة جميلة الملامح، مع شحوب خفيف في سحنتها، وهذا أمر طبيعي بالنظر لظروفها التي حدّثتها عنها صديقتها فاتن، ملابسها محتشمة، لا تخلو من أناقة بسيطة، غير ملتصقة بالجسد الذي لا تخطئ العين جمال تكوينه، التشققات والخشونة التي كست كفيها، طمست معالم نعمة ماضية بقي منها خاتم ذهبي رفيع يزيّن بنصرها الأيمن:
-" أنت مخطوبة يا ندى ؟"
تسألها السيدة بعدما أنهت جولتها التفقدية في معالم الفتاة وهيئتها.
-" نعم سيدتي، لكني لا أعلم أي شيء عن خطيبي إلى الآن، غابت أخباره عني منذ أكثر من سنة !"
- "أخبرتني صديقتي أنك مهجّرة من المدينة المجاورة، وأنك تقطنين مع أمك وأختك الصغيرة في غرفة بالشارع المجاور."
- " نعم سيدتي، اشتدّ أوار الحرب في مدينتنا، اضطررنا إلى المغادرة على عجل، ووصلنا إلى هذه المدينة الآمنة، وجد أبي عملاً في مصنع قريب، لكن قلبه الضعيف لم يقاوم بشكل كافٍ ليعيش، مات، وكان لزاماً علي أن أعمل، أمي أيضاً مريضة، وأختي يجب أن تدرس ".
-
تنظر السيدة إليها بحنان، تُكبِر فيها عزة النفس والكرامة، تربت على كتفها وبصوت أموميّ تهمس لها :
-" لا عليك حبيبتي، ستكونين مرتاحة بالعمل عندنا، لدي ابنة بمثل عمرك، ريم بالثانوية العامة، هي الصغيرة بين أولادي الذين تزوجوا جميعاً، تكونين مثلها، يعني ابنتي ".
الحرب، تلك اللعبة الغبية، التي لا مفاز فيها إلا للموت والشقاء والدمار... و لتجّار الموت الذين يعرضون بضاعتهم على أباطرة السفه ليشتروها ويلهون بها، عابثين بحياة الغير، غير آبهين لا بالبشر و لا بالشجر ولا حتى بالحجر، تفنّنوا بتزيين سلعهم، ألوان مبرهجة، وأشكال غريبة، قد تطير في السماء كالطير الأبابيل، وتسقط سقوط النسور على فريسة، قد تباغت من البحر مازحة ، وقد تنطلق من الأرض هوجاء صاخبة، كلها تحمل الموت بألوان تتماهى بين الأحمر والفوسفوري والبرتقالي والرمادي ثم يتسيّدها الأسود.....فمن يخطئه الموت يحضنه الشقاء...
والتزمت ندى بالعمل عند السيدة، التي أكرمتها مشفقة عليها، أخضعتها لاختبارات عديدة للوقوف على موضوع الأمانة عندها، ألفتها تحملها خُلُقاً أصيلاً، شيء واحد كان مثار شكّها، لكنها لم تستطع أن تحصل من ندى على إجابة تقضي على هذا الشك! عندما تدخل ندى إلى الصالة لتنظيفها، تغلق بابها جيداً وتقضي فيها وقتاً طويلاً نسبياً، تخرج بعده بعينين متورمتين من هطل مزن استمر ردحاً من الزمن ...
يتكرر الأمر كل يوم، طلبت السيدة من ابنتها ريم أن تتقرّب من ندى وتصادقها، وعندما تثق بها تسألها عن تصرّفها الغريب هذا.....صارت ريم تختلي بندى بأوقات عديدة، حكت لها حكايات البنات المعروفة، سألتها عن خطيبها في محاولة لاستثارة دواخلها، أخبرتها ندى الكثير عن حبهما، أحبته مُذ كانت في المدرسة الثانوية، يكبرها قليلاً ويعمل محاسباً في مكتب على طريق مدرستها، صارحها بحبه، وتقدّم لخطبتها وكان الاتفاق أن يكون العرس بعد حصولها على الشهادة الثانوية، لكن ...!
الكارثة التي حلّت بالبلد، حطّمت كل الأحلام، وخربت كل التدابير، فلا هي حصلت على شهادتها، أما هو فقد سيق إلى الخدمة العسكرية بصفة احتياط، غاب ظله كما انقطعت أخباره...
فجأة سألتها ريم بطريقة مباغتة :
"لِمَ تطيلين البقاء في الصالة، وتخرجين منها باكية ؟!".
تلتفت ندى إليها بسرعة، لا لتجيب وإنما لتسأل :
" من أين اشتريتم كنبات الصالة ؟".
ترتسم الدهشة على وجه ريم ، تجيب بخجل :
" من سوق الحرامية ! أبي اشتراه من هناك بثمن قليل مقارنة مع جودته وجدّته، لم نوافقه بالبداية، لا أنا ولا أمي، لكننا رضخنا بالنهاية، كانت الأمور المادية معه معسّرة قليلاً، وكنا بحاجة إلى طقم كنب جديد عوضاًعن القديم خاصتنا، لكن لماذا تسألين ؟".
عاجلتها ندى بسؤال آخر:
" أين يقع سوق الحرامية هذا؟ ومن أين يأتون بالبضائع؟ ولماذا هي رخيصة ؟ ".
طأطأت ريم رأسها وهي تجيب:
" هو ليس سوقاً نظامياً، هناك ساحة فضاء على أطراف المدينة، والبضائع بالحقيقة مسروقة يأتي بها الحرامية الذين سرقوها من البيوت التي غادرها سكانها في المناطق الساخنة، يسرقون أثاثها ويبيعونها في ذلك السوق في أيام العطل، بغفلة عن أعين الحكومة ".
سرحت ندى بنظرة عميقة في عيون ريم التي كستها نظرة خزي ، قطعها صوت ريم :
" ما بك ندى ؟ أين شردتِ؟"
بحركة مفاجئة ، أمسكت ندى بيد ريم ساحبةً إياها إلى داخل الصالة ، متوجّهةً إلى كنبة مزدوجة، أجلستها عليها، وجلست بجوارها، أشارت إلى خدوش على اليد الخشبية للكنبة ، تهدّج صوتها وهي تقول :
" دقّقي في تلك الخربشات، هنا كنت أجلس مع خطيبي أحمد، وهنا نقشت بحبكة شعري اسمه واسمي وقلبا مخترقا بسهم يتوسّطنا...! ....وسأقول لك سراً، في حشوة هذه الكنبة خبّأت على عجل سلسالاً وأساور ستٍ وحلقاً ذهبيّاً ، مصاغي الذي أهدانيه أحمد يوم خطبني..!....خبّأته يوم تعرّضت منطقتنا وبيوتنا لمداهمات من عناصر مموّهة لم نستطع تمييز انتماءاتهم، لكن المؤكد أنهم لا يخرجون صفر اليدين أبداً."
كيس الخام الذي حوى مصاغ ندى، أخرجته ريم من حشوة الكنبة بعد أن بقرت قماشها من الأسفل بسكين حادة.
د. عبير خالد يحيي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.