الصفحات

مرت أيام ولم أعد أراها ـــ قصة | زبيدة جلال

..نظرات مغتربة...
نادتني أمي صباحا لأجلب دلو ماء من النهر المجاور لمنزلنا شعرت بتكاسل شديد وقد كان النعاس يغلب عيني؛لكنني كنت أحب ذلك النهر وجمال الاشجار التي زينته بألوانها الخضراء الجميلة وكأنها تمده بالحياة!
كان يخترق مرعى أغنامنا ويفصل بين قريتنا وقرية أخرى..
أقتربت من النهر،ملأت الدلو بالماء؛وبينما أنا احمله سمعت صوتا جميلا سحر روحي وأذابها كذوبان الشموع،تسمرت في مكاني لامتع سمعي بذلك العزف،من أين هذا الترنم الغامض؟!

شعرت بأن هنالك من يطوقني، يمنعني من العودة!!
لم أسمع أجمل من صوت ذلك الناي في حياتي..
طردت الدهشة من مخيلتي وحملت الدلو وعدت مسرعة الى البيت لاطرد شبح الاوهام الذي انتابني لحظة اصغائي لذلك العزف..
عدت وانا احمل كما هائلا من الدهشة،أحاول ان انسى أعمل وأنا احاول ذلك لكن دون جدوى،أينما ذهبت صوت عزفه يلاحقني،نظراته تشل حركتي،ماذا فعل بي ذلك الصوت،لقد منحني إكسيرا مصفى لاجدوى من مقاومته!!
في كل يوم صباحا ومساءا يكرر الشوق على مسمعي الحان صمته!!
شوق يجرفني الى ذلك السحر الذي يحرق صمت الكلمات ويوقظ المشاعر ويمنحها دفء وحياة جديدة..
بعد مرور أيام أخذت الاغنام الى المرعى،وحينما شعر بوجودي أخذ يعزف معزوفة جديدة،فراح صوتها يتراقص على أوتار مسامعي،أنغام شجية تعزف على ناي شاحب أجهدته المسافات.....
شعرت بأن فراشات الحقول والمراعي تحيط بي لتحملني نحو السماء السابعة،اتوق للسفر الى ذلك الضياء الراعش لعزله الاشياء من حولي فلم أعد ابصر شيئا،حتى الريح صامتة تنصت معي..
لاشيء يحررني من زحام تلك النظرات المتربصة التي تبعث لي بكلمات يغنيها على الحان معزوفته،تحدثنا كثيرا وقلنا أشياء كثيرة وعدنا بعضنا بوعود قد تكون خيالية حدث ذلك بمجرد نظرات..
أسرني ذلك الصمت الذي ينضج بعبير الكلام الجميل،كنهر جار بيث رياحين الهمس العذب..
بدأت آتي الى النهر كل يوم وأجد تلك النظرات بإنتظاري،يصل قبلي ليستقبلني بشوق يزداد يوما بعد يوم نظرة بعد أخرى
أحببتها لاتغيب عن فكري،أصبحت حياتي كربيع يعشق الفرحة ويعيشها بكل تفاصيلها..
في احد الايام وانا استمع الى الحانه سقط مني دلو الماء في النهر ولم استطع التقاطه،فنهض مسرعا ونزل الى النهر والتقط الدلو واقترب مني،كأنه لم يقترب من حافة النهر بل وصل الى حواف قلبي ليدخل من دون استئذان ،ثم قال:اتعلمين انه لايوجد في قاموس العشق كلمات تعبر عن حبي لك!!
الصمت! سمعت أحد العشاق يقول(الصمت سماء يجري في فلكها كل قلب تعلم الاخلاص في الطلب الجاد بالقرب ممن يحب،انه دورة العقل في رياض القلب)
ماذا اقول أمام عينيك التي استمد القمر من بريقها نوره، والصباح ضوءه، والسماء صفاءها، أنجذب نحو نظراتك،أحث الخطى اليها وأدمن العيش بظل اهدابها،انها موطن السحر والجمال منذ الازل..
نعم ياحبيبتي كنت أعزف لك صمتي المزدحم بالحب والشوق،كنت اراك واشعر بك من بعيد دون ان تشعري بوجودي حتى قبل ذلك اليوم الذي عزفت فيه لك،حين جئتي تأخذين الماء من النهر؛اردتك ان تشعري بي، ماذا سأقول أكثر!! أبجديتي عاجزة أمام سحر عينيك الذي يداعب اللهفة الساكنة في جسدي..
لاتقولي شيئا فقد افصحت عيناك بالكثير، وها هي دموعك كسماء تهطل حبات ود كل يوم..
الى اللقاء ياحبيبتي.. سأكون بانتظارك كل يوم...

أردت ان اتحدث،أن ابوح له بكل شيء؛لكنه رحل..
عدت الى البيت مسرعة ليبقى صوته آخر صوت اسمعه، ياالهي لم لم يدعني اتكلم وافصح له عن ما يجيش في صدري..
مرت أيام على لقائنا، ولم أخرج الى الحقول او المرعى فقد كانت الاوضاع متأزمة في البلاد وأطراف النزاع متعددة وريفنا مهدد بالضياع والتشتت ولا أحد يعرف مصيره..
بعد مرور أيام عدت الى نفس المكان فوجدته هنالك ينتظرني كالعادة،لوح لي بيده فلوحت له ايضا،اقترب من النهر اكثر وكان الحزن يلف عينيه الواسعتين اردت ان اسأله،اتحدث اليه؛لكن صوت أمي منعني من ذلك فقد كانت تنتظرني في نهاية الحقل، تنادي،،خرجت مسرعة اليها فتركته وذهبت..
في تلك الليلة لم أستطع النوم كانت ليلة عاصفة وباردة جدا، وأصوات الانفجارات والاشتباكات تدوي في الارجاء، لم أخرج بعدها بسبب الاوضاع الامنية في منطقتنا والمناطق المجاورة ولم يسمحوا لي بالذهاب الى النهر الا بعد مرور اسبوع من الاشتباكات..
ركضت مسرعة نحوالنهر،وانتظرت،وانتظرت،لكن بلا جدوى..
بدأت اتساءل اين هو ياترى؟! هل يمكن أن يكون قد رحل؟! لالا هي مجرد أوهام سأطردها من ذهني..
ولكن سرعان ما انطفأت شمعة الامل في داخلي وبدأ الياس بتسلل الى قلبي،يشن هجوما على قلاع صبري،شيئا فشيئا سقطت تلك القلاع المنيعة وانهزمت جيوش الصبر ولم استطع الصمود..
وذات يوم رأيت كلبه الوفي الذي كان يصطحبه معه لحراسة أغنامه، بدأت انظر اليه وقلبي يرتجف حزنا،هل هو ايضا جاء لينتظر؟
أناديه لا يسمعني..
اسأله ولا يجب..
هل هاجروا هل تركني وحدي أقاسي العذاب واحتضر بصمت؟!
ارجوك أجب..وفجأة تقدم نحوي وبدأ بالنباح مشيرا برأسه الى غصن شجرة متدلية على جانب النهر!!
اقتربت منها واذا به قد ربط بها وشاح وقد اختار غصنا قريبا وبعيدا عن الانظار..
وضعت مايكفي من أحجار لاصل لذلك الوشاح،أخذته واذا بداخله ظرف صغير فضضته على عجل، ولكنه لم يكتب فيه سوى كلمات معدودة"سنسافر،لقد قتل أبي واثنين من أخوتي؛ ولم يبق سوى أخي الصغير وأختي وأمي،لن اخبرك عن حالتي الان لانني لااريد ان احزنك اكثر سأقول لك شيئا واحدا هو ان عيني أغتربت بعد الوداع كما قلبي،أحبك"
وقع خبر وداعه كالصاعقة،لم أستطع الوقوف فقد امتلأت بما يكفي من الحزن،بقيت جالسة في مكاني.
ياللهي ماهذا؟ هل انا احلم؟ ام أنني كنت في حلم وقد استيقظت اليوم؟!
كيف؟كيف يمكنه ان يحتمل غربة روحه وبلاده؟! كيف استطاع ان يتركني وحيدة؟!
تفطر قلبي حزنا، ضعف بريق روحي التواقة للفرح،فقدت سعادتي برحيله..
قلبي يموت ببطء كل يوم،انتهى الصباح في العالم ورحل عند رحيله، حتى مياه هذا النهر الذي طالما أحببته أشعر انه قد جف برحيله!!
لابأس ياصديقي النهر لاتحزن ستملؤك دموعي، ستتحول أوراقك الخضراء الى صفراء ذابلة حزنا عليه وعلى قصتنا المبتورة التي لم تكتمل فصولها، ولكنها غنية،، ثرية كثراء صوت ذلك الناي وفقر صاحبه!!

كتبت شتاء 2015
نشرت في جريدة المشرق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.