الصفحات

كفكف دموع يا فتي || سيد يوسف مرسي

يجري القرص المتوهج إلي منحدر الغروب ، الأصيل يبسط رداءه في السماء معلناً قرب المغيب ،مسافة بالقياس تمتد وتنتهي ، إسراف الحراك يتقلص رويداً رويدا ،ينتعل العناء فوق كتفيه ،وعلي عجلات قدميه يجر همومه ، يلثم وجهه الغبار ، ويصبغ جلده ما علق بفضل غزارة العرق ، كائن من بوح الغاب ،كأنه البدائي المجهول في دنيا العمار ،كالقش مدفوع بالريح ،يدفن رغيته وتطلعه ، كل ما يريده مقتول ، وما يسعي له مدفون ،عند الباب الخشبي العتيق والحجرة الطينية ، وحصير بُسطت.

علي الأرض والتصقت بها وصارت جزءً منها ، لقد طال رقاد أبيه ،قد يأتيه النوم ويسعد به ويمني أن لا يوقظه مخلوق من نومه ، لكن السعال المتواصل وأنين الألم ، لا يؤمنان له نوم هنيء ،حياة مضنية وعيش قاسي وأرق الضلوع أشد ،يستحي أن يشكو بالرغم من حداثة عمره ،يكظم ألمه ويعوى بداخله ، أنهكه العمل في الحقول ، وباتت عضلاته تضمر ،فيئن كما يئن المريض علي فراش المرض ،لم يستوي علي سوقه بعد . يود لو كفكف الدمع يوماً ،ورحل الشقاء عنه ، ووجد من الرغد شعرة ،ينظر كل الأيادي ويأمل ، أين التي قد تمتد لتحنو عليه وتربت علي كتفه ؟،
هل فقدت البشرية كلها أياديها ؟ ،هل غلقت القلوب وتعلقت الأرواح في تراقيها ؟ ، حين وقت العودة وكاد الليل أن يبسط خيمته ،والشمس تغرق في بحرها خلف التلال ،
*****
اشتاق أن يري وجه أبيه يطمئن عليه ،ود أن يجلس معه ينال بعضاً من دعاءه من رضاه من حنانه يشكو إليه وإن كان نفسه لا تطاوعه الشكوى ،ما عساه أن يفعل ؟ أنه لا يقوي الجلوس أمامه ، لا يستطيع أن يطيل النظر في وجهه ، يقعد اللسان ويلجم ،ترغ رغت مآقيه دمعاً حاراً ملتهب ، كأنه يفور من تنوره ،أحس أن قيداً وضع بقدميه فلا يقدر علي الحركة ناحية أبيه ،طأطأ رأسه قصف ظهره ومد يده كأنه يتحسسه أو يتأكد من وجوه ،وضع شفتيه علي جبهته ، والأجفان أسبلت والأفئدة تعانقت والأنفاس تحشرجت ،تاه وراح كل شيء وضع قبلته والكلمات كأنها لا تود الخروج ،منقوصة في حروفها ، كأنها تسرق عند الخروج من الشفاه ،
يغمرها طوفان الغرق ،يضع يده خلف ظهره يحاول رفعه ، يضنيه ثقل الجسد ،ظن كأنه جبل أسند علي يديه ،أشارت أمه إليه أن لا يحاول ، وجلست علي الحصير وألقت برأسها ووجهها علي وجهه ،جاءت نوبة السعال تعاود كرتها ،وهما يمسكان به ، حتى أنقضت شدتها أشار بأصبعه وقال : لا تظن يا ولدي أني جاهل بك ،ولا أعلم بك من عناء ، أعلم أنك مازلت قاصراً ولم تبلغ بعد مبلغ الرجال ،لكن هذا هو قدرك فما بيدي حيلة ، او صنيع أصنعه لك يخفف عنك ويرفع كاهلك العناء ،فأجرك علي الله ورزقك عند الله ،والله لم لم يخلقنا وينسانا فلا تيأسي بني ، توقفت الكلمات بعد الصحوة علي الشفاه ، وسرقت العيون إلي جوف السماء ،هنا يتكلم هنا ينظر عيناه هنا يشير بيده كل شيء سكن للأبد ، تقرأ الزوجة الشهادتين وتسبل الأجفان علي العينين الجاحظتين ،ويسود السكون الجسد ،لم يصدق محمود الذي حدث بين الشك واليقين ،وهو يقول جئت أشكو إليك أبي ،فوجدت كالطير ، ترحل عني إلي جوف السماء ،ترحل عني عنوة كلما هممت أن ألمس ريش جناحيك طرت وكنت أود منك أن تكون معيني وتكفكف عني
دموعي وتنزع عن كاهلي العناء ،
فمن يكفكف دمعك يا فتي ؟
بقلمي الكاتب // سيد يوسف مرسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.