الصفحات

حفرة للدفن الجماعي || ابتهال الخياط

من يوميات ..الميت الحي .
(من حرب قديمة لاتشبه مايحصل الان الا بتشابه الدماء)

كنا في الخندق ...حفرة للدفن الجماعي ..امامنا حواجز لاتمنع الموت .. فقط لننظر له حين يأتي ..نرمي بالرصاص امامنا دون ان نرى هدفنا حيث الغبرة تعلو وتغطي الانظار ..وفجأة يتوقف كل شيء , ونبدأ بالعد من قتل ..من جرح ..من بقي ..ليس لشيء ولكن فقط ..كي يُسد النقص لمرحلة الفوضى الاتية ..فوضى الموت المعلن لاسباب غير معلنة.. الحرب ,هذا المسمى الابدي سيبقى وان رحلنا فسيجد ضالته في كل وقت وزمن وسببا لياكل من اجسادنا وارواحنا و ان بقينا احياءا..فاننا اموات مؤجلين ..لا أخفي عليكم الان لاني اخفيتها لكل السنين الماضية ذكريات حرب ضروس ابادت اجيال من الرجال ..وقامت لاسباب لاتَهُمنا .. المهم ان نعرف
اننا كنا وقودها كي تبقى مستعرة ..كنا مجموعة اصدقاء جمعتنا الاقدار لنكون في خندق واحد نتبادل الوصايا والطعام والمزاح والهموم وكل مانملك ..قد يمر اكثر من شهر دون ان يؤذن لنا بزيارة الاهل .. وكل يوم قتال ..وقتل ..تساوى كل شيء ..القاتل والمقتول ..
في احدى الصباحات ..صاح بوق المعركة وليس الديك ..وكانت معركة كبيرة تطايرت الاشلاء من شدة قصف العدو ..وتحركت الدروع وهرعنا للمواجهة وكان صوت الراجمات مدويا باتجاه العدو .. وكانت صولة شجعان لايهابون موتا ..فقط الى الامام ..الى اين والى متى ..ثم ماذا..لايمكن السؤال ..لانك لن تسمع ردا بل رصاصة توسمك بالجبان ..
وجدتُ نفسي وقد انهارت بي الارض حيث حفرة كبيرة من اثر القصف
وسقط احد الجنود فوقي ..احتضنته لااراديا ..وكلمني فقال ..خذني الى اهلي ..لم يكن مصابا وعندما اكملت احتضاني له والتمست ظهره كانت احشاؤه في يدي ..قلبه ينبض في يدي ..تملكني الموت معه ..ومات ..لااعلم كيف خرجت من تلك الحفرة ..وكيف لم اُقتل ..لااذكر شيئا ..ولكني كنتُ حيا ! او بعض حي !
وانتهت المعركة وكُلُ نادى بالنصر ..ونحن الخرسان من الهول ..هول الموت والتقطيع لاصحابنا وربما اقاربنا ايضا .. ونتحرك لخنادق اخرى قد تكون للامام ..قد تركها العدو ..وقد تكون للخلف حيث نفرغها من جثث من سبقونا للموت ..ويُسدُ النقص ..ونعوض الاصدقاء باصدقاء جدد قابلين للتغيير كل وقت ..كم وكم عزيزا فقدتُ فيكِ ياحفر ..وبقيتُ حيا ..
وانا اجلس لاحصي كم صديقا فارقت في تلك الحفرة .. سمعتُ مناديا باسمي ..رفعتُ رأسي ..وقمتُ ملبيا الامر ..نعم سيدي !واخذتُ التحية للضابط الذي طلبني ..فقال لي : انت مجاز للذهاب الى اهلك ..هيا , . كنتُ مثقلا بالحزن واطلب البكاء فقلتُ الحمد لله ساذهب الى البيت لابكي قليلا .. تركت المعسكر ورائي..ولم التفت وكانني ان التفت ربما ستلغى الاجازة.كان وقت انذارلكن يبدو ان اهلي استطاعوا ان يتصرفوالمساعدتي.
تحركتُ بسرعة لاركب في ناقلة الجنود واصل الى اقرب مدينة والى اخرى واخرى واخرى حتى وصلت الى مدينتي ..كان الطين يغطيني من رأسي حتى قدماي ..طين معفر بالدم والموت ..رأيتُ الجسر يستقبلني ..لم يبقى الا القليل ..نزلت في المحطة واخذت بالسير وانا افكر بامي وابي واخواني واختاي .احدى اختَّي تثير غضبي في اجازتي من كثرة اهتمامها بي..لم تكن تجلس ..كانت دائما واقفة وتنظر إلي كانت تشعرني بخوفها من موتي رغم انها تُطمئن بي دائما وتقص رؤياها بسلامتي وخلاصي الى الخير والسلامة ..وتقول ان لها حمامة تاتي كل يوم في المساء لتلقي عليها صوت الحنين والرحمة لتقول لها اني بخير ..كانت ترسل لي بيد مَن ياتي لي في الجبهة بالتمر الذي تملؤه بالجوز ..وتعمل المعجنات ..وكنت افتخر بان اوزعها بيني وبين اصدقائي ..اختي العزيزة آلمتها كثيرا ..كانت كثيرة الصمت ولم ارى لها فرحا ..لم الحظ لها سعادة ..ولم تكن تطلب شيئا من احد ..فكنتُ احاول ان أفرحها باي شيء ..ولم يكن عندها احب من ان ارضى بان احمل معي طعاما هي اعدته لي ..حيث كنتُ ارفض لبعد الطريق وصعوبة التنقل ..ولكني كنت اوافق اخيرا لاجلها ..
وانتهت الحرب ..وعدنا ..
وقامت حرب ...وعدنا ..
ثم وُلدَت .. دوامة للموت جديدة اخذت تكبر وتكبر وتاخذ معها الجميع
وكنت ممن ابتلعتهم .. فلم اعد ..
ربما عليَ الان ان اذهب وأعدكم ..ان اقص عليكم قصص من ابتلعتهم دوامة الموت الجديدة ..فهم كثيرون .. ربما اطول من ايامي فيها ..
.........................................
(من يوميات اخي الشهيد ناظم خلف)
بقلم ..ابتهال خلف 7\8\2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.