الصفحات

الأمومة...طين الله في جسدي || عائشة بريكات


الأمومة...طين الله في جسدي
((حكايتي مع الملائكة ..12..))
مَن أنتَ لتكسرني أيها التوحد؟
1
. تنفس الظلام شهقات الصباح، وارتجف نبض الأزقة الترابية،
الشمس تتقدم بحياءٍ ،
تزفر دفء أشعتها هنا و هناك،
تنسل من النافذة الشرقية، متجاوزة أغصان الزيتون المتشبثة بمصاريعها، لتداعب خاصرة وسادتي ، و تراود نومي عن إغفاءة متفاوتة الأضغاث. بعينٍ نصف مغمضةٍ أحاول مقاومة النور، و التأكد
من التوقيت على ساعة الغرفة الجدارية رغم نغماتها المتلاحقة إلا أنني لم أتمكن من إحصاء عدد التكتكات،
السادسة صباحا".....لا بأس.
!! خدرٌ مؤلمٌ يشلُّ حركة ذراعي الأيسر و بنظرةٍ تسبر ماهيته ابتسمت الروح رغم الوخز الشديد المتلاحق لوجهٍ ملائكيٍ يتوسده...
ربما منذ ساعات !
ببطءٍ و خوفٍ على حلمه المزهر ربيعاً فوق وجهه المنير، انتزعت يدي وعوضتها بوسادة صغيرة و بالغت في تغطيته
((يمان)) يغفو أسفل قدمي كالعادة، حملت جسده الضئيل معدلة وضعيته بالقرب من الحنونة على يميني،عانَقته وغمرَته بغطائها تتمتم عليه عبارات الدّلع والدّلال فيزداد التصاقاً بها.
واقفة على السرير لأستطيع تجاوزهم بلا ازعاج، أحكمتُ إغلاق الستائر .. تأكدتُ من تدفئة الغرفة.. و تسللتُ خارجا"..
2
متخمة رئتاي بعبق القهوة تتجانس و نسمات باردة يقشّعر لها جلدي دون ارتجاف، سكبت فنجاناً للمُسنّة مصاحباً بتحيةٍ صباحيةٍ مقتضبةٍ قدمته لها وعدت إلى المطبخ أشارك دلّتي خطة برنامجيّ اليوميّ
( رغم دعواتها المتكررة للمشاركة إلا أنه لا طاقة لي للكلام و اجترار عين الحديث منذ الصباح)
مؤخراً بتُّ أكثر ميلاً للاختلاء بذاتي...كنت مخطئة حينما ظننت أنه بعدما تيقّن لي و للآخرين توحد الصغير سأعود كما السابق ،
لكن الحقيقة أنّ أولوياتي غدت مغايرة لأسلوب الحياة الذي اعتدته لعقدين من الزمن، سبحان من يُغير ولا يتغير
3
على طاولة صغيرة بعض اللحم والخضار أحاول أن أصنع منها وجبة متواضعة أقدمها مع الأرز ل (يامن) عند عودتنا إلى البيت ظهراً.
بقية الأولاد سيختارون طبقهم وقتما يتصل والدهم لاستشارتهم قبيل عودته، كما تعودوا مؤخراً. فلم تعد لي القدرة ولا الجلادة لتلبية طلبات ذائقة شهيتهم كما السابق..رغم اعتراضهم وتأففهم من أكل المطاعم ،و الأطعمة المعلبة ،
والهمز واللّمز لي بمزاحهم السّمج عن تراجع قدراتي في الطهو..
فلا الطعام بات ناضجاً
ولا مذاق ملحه متناسب المقادير .
(أعتقد أن تفكيري المتواصل بالوضع الجديد قد زاد من شرودي... و ربما زاد دمعي من ملح الطعام)
4
الحافلة تقطع بنا شوارع المدينة الجنوبية برشاقةٍ رعناء،
أشدد (يامن ) إلى حجري عند كل منعطف خوفاً عليه،
وأسأل السائق هل اقتربنا.... ؟
لطالما كان طريق مطار دمشق الدولي عنواناً لأجمل الذكريات .
أذكر أنه المكان الأول لتعلمي أولويات القيادة
وأذكر كيف كان يصطحبنا مع الكثير من أكياس المكسرات والعصائر حينما يرغب ب(ترويض) سياراته.
كما يذكر هو ويشهد على رقصات سعادتنا وقتما نستقبل أحبتنا العائدون... لكن..
ما لم أتوقعه منه أن يكون شاهد عيان على مواقف متتابعة لحزني وقهري في السنوات القادمة.
5
في الطابق الثاني للمبنى الفخم،
رائحة الصنوبر تنتشر فوق الأرضيات الرخامية تسبغ على المكان حميمية تتشابه وفواح منزلي حيث استعمل ذات العطر.
ثلة من الأحاسيس تتعاقب عليّ تبدأ من غضب ممزوج بِحيرة موقف ..و تنتهي بخجل شديد يترافق مع عرق حار يتفصد من يدي وجبهتي حدّ التصاق الحجاب الأسود بها يجعل من التدفئة المركزية للمبنى خانقة الأنفاس. هناك..بالقرب من الباب الزجاجي يصرخ (يامن) و يبكي بلا دموع.. يتشقلب... و يمرّغ ثيابه أرضاً
(معترضاً كما اعتاد دوماً) على إجباري إياه التواجد في مكان عام رغماً عنه .
ابتساماتٌ توحي بأن اطمئني....
يغمرني بها موظفا الاستقبال من خلف شاشتيّ حاسوبيهما ،
و أنا أملأ استمارة القبول الروتينية على التّرس الخشبي المقابل .. بأصابع مرتجفة رطبة، تظهر خطي عديم التريب ليس كعادته
... بكلمات مقتضبة وعبارات شكر ..
انتزعت موعداً قريباً.
. حملت الصغير رغم ركله لي طابعاً آثار حذائه على ثيابي الأنيقة ،
كما بدت واضحة علامات بقايا لعابه جهة الكتف الأيمن..
.... و انصرفت..
6
لم يكن سهلاً إقناع سائق الأجرة بالموافقة على ركوب سيارته
ومعي هذا ال(يامن) الباكي بلا توقف إلا بعد أن لاحظت لمعان عينيه للمبلغ الذي وعدته به
( بات المال طريقتي لشراء صمت الآخرين وتحمل سلوكياته الغريبة أثناء تنقلي به بين وسائل المواصلات مجنبة نفسي الكثير من الإحراج و التساؤلات)
ما كان المنزل وجهة عودتي ، بل عيادة الإخصائية الخاصة حيث سنبدأ معه بتطبيق الخطة الفردية لبرنامجه السلوكي الأول.
نائماً ينعم بدفء حضني لأكثر من ساعة و نصف استمع خلالها لكواليس صراعات حياة السائق و زوجاته ..غلاء المعيشة.. وزحام الطرقات.. أضحك تارة للغته البسيطة في سرد الأحداث،
و أصمت مرةً أخرى بتجاهل و ملل منه ومن طول الطريق.
7
بكاء متواصل يقترب من الصياح، يصلني ممتزجاً بصوت ذكوري رتيب الإيقاع..
ثابت اللهجة واثق العبارات..
رغم نبراته المجهدة..
تأكدت من ذلك وقتما فتح لي الباب ، العرق يكسو وجهه الأسمر، و البقع تحت إبطيه وحول ياقة قميصه الكحلي
...تصدق تفسيري.
بإيماءة من رأسه أشار لي بالتوجه إلى المكتب،
و تابع عمله مع طفل يمسك بيده بإحكام.
مذهولة كنت أتبادل عبارات الترحيب المستهلكة مع المختصة،
و أسرد عليها تفاصيل زيارة مركز التوحد،
أحاول تجاهل احتقان وجهها..شفتيها المرتجفتان..شجاعتها المفتعلة للتماسك بإبتسامة شاحبة وعدم السماح لدمعة تترقرق منذ وصولي للسقوط على خدها..
(أجزم أنها أم الطفل خارجاً..الشبه واضح جداً).
استغربت صمت يامن وجلوسه بلا حراك على الأريكة ينصت لتصاعد بكاء الطفل
وانخفاضه... تبسمت و وجهت جملتي للمختصة//يستنكر يامن بكاءً يفوق قدراته// /////سنرى قدراته بعد قليل!!! إجابة اختنقت منها الروح. .
.وضعتْ مبلغاً على الطاولة في عملية سريعة الإيقاع للاستسلام والتسليم..
حملت طفلها ومضت تكفكف نحييهما معاً.
8
بصدره المتهدج .. أنفاسه المتلاحقة.. قوة نظراته
(كمصارع نزل من الحلبة لوقت مستقطع..) يمد يداً..
و يتودد بعبارات تشي بأنه من /دير الزور/ لكن الصغير يتكوّم على الأريكة محاولاً النأي بجسمه ليتأكد من فشل هروبه وقتما أمسك بذراعه وسحبه خارجاّ يبادل توسلي الصامت بإبتسامة مطمئنة.
//اليوم الأول هو الأصعب..تَجلّدي..أو انصرفي وعودي بعد ساعة،، رفضت بحركةٍ رأسيّة إلى أعلى. .
.من شقّ الباب..رأيته!!
يحمل سلة صغيرة ممتلئة بالمكعبات تتجانس بالحجم وتتناقض بالألوان، يرشق محتوى السلة أرضاً، يمينه فوق يمين الصغير..و يساره تمسك برقبته بلطف من الخلف. يسحبه رغماً عن إرادته..يضغط عليه لينحني يساعد بالتقاط أحد المكعبات..ويشد على كفه ..ثم ينهضا معاً ليلقنّه وضعه في السلة الموجودة في إحدى الزوايا.. ..
صراخ واعتراض، ركل وسقوط ومعاودة وقوف..بكاء وحركات مضطربة..أنفه وعيناه يسيلان بشدة...
... رغم كل ذلك..
مازال الأستاذ يحافظ على هدوءه ولا يسمح ل يامن بالشعور بقدرته على استفزاز صبره.
. يردد على مسامعه برتابة وثبات و نبرة جازمة.. /يامن..انزل / يامن ..أمسك المكعب
/ يامن ..انهض
/يامن..ضعه في السلة
..خمس و أربعون دقيقة مضت بمثابة دهراً من التعذيب النفسي والجسدي لأمومتي ، أتابع ما يحدث خارجاً ،
بلا قدرة على التدخل، مكتفية بهطول سخي لم يحد منه محاولات المختصة إشغالي عما يجري بأحاديثها الجانبية عن الطهي والأولاد.
فعلا يستحق هذا التمرين (الإخضاع) اسمه المتداول فكا هيا" بين الأهل والمختصين (تمرين الجيش) فالإجهاد ظاهر على المدرب
و يامن.
ربع ساعة أخرى قضاها يامن مقابل الأستاذ على كرسي صغير ينفذ أوامره بالوقوف والجلوس وطبعاً بطريقة التلقين الإجباري
(تنفيذ التدريب رغماً عنه).
لم أصدق أنني أتنفس هواء منعشاً خارج العيادة.
9
لم يظهر السائق اعتراضاً على رغبتي في التوقف عند أحد محال ألعاب الأطفال، اشتريت كيسين كبيرين من المكعبات الملونة، و عدت سريعاً أخفي وجهه الصغير بوشاحي خوفاً عليه من المطر الغزير و حبات البرَد.
التقطت بعض أنفاس متخمة بضباب زفير شتوي،
أحاول استذكار توجيهات المختصة حول طرق العمل معه في المنزل،
و كيف عليها أن تتطابق وما تابعته من شق الباب من تدريب الأستاذ له. ليتسنى لي أن أكون مصدر قوة وسيطرة عليه أساعده على التأهيل والاستجابة للتعليمات.
10
على عُجالة... وضعته في كفالة أخته لتطعمه..حملت (يمان)..
وأغدقت عليه حباً و عاطفة تمنيت وقتها أن تعوضاه عن تركي له منذ الصباح،
ألقيت تحية سريعة على زوار غرفة جدته من الجيران ،
و توجهت إلى الأعلى أجهز غرفة لتعديل السلوك، وضعت المكعبات الملونة في إحدى سلال الفاكهة..و كرسياً صغيراً مقابل الأريكة..كوب ماء على رف علوي.. ...وانتظرت انتهاء وجبته....
ظنني أود ملاعبته كعادتي،
كان يستنكر ويستغرب إمساكي له بطريقة الأستاذ، و إجباره على جمع ما رشقته على السجادة من مكعبات.. لعشرة مرات على الأكثر.. مرددة ذات العبارات.... و بذات اللهجة الحازمة.. //اعتراضه كان أشد و مقاومته أقوى ربما لأنه تعود مني حناناً لا حزماً..
كنت أغتسل بالعرق خارجاً و تغرق روحي بالدموع. ابتلعت ضجيجي..وارتديت ثوب إرادة تنزّلت عليّ وقتها من السماء، جلّ ما كنت أفكر به اجتياز هذا الجحيم سريعاً، عبارات الشفقة و التعاطف و المواساة تصيبني كالسهام السامة، تدفعني للتجلد و إظهار قوة في ثبات صوت و نبرة كما تعودن مني. ..
بدا عليه العطش والإنهاك تجاهلت رغبته بالشرب حتى انتهاء تمرين الوقوف والجلوس ليكون كوب الماء بمثابة مكافئة له على عمله وطاعته..
11
بوجه مبلل بالدمع..كانت تعد الدقائق أكثر مني، سارعت إلى احتضانه، تقبيله، حملته وقذفته عالياً عدة مرات لتنتزع منه ضحكاته التي تعشق، ضحك ....
كأنه نسي بكاءه منذ الصباح.. بلا تفكير..
رحت اجتاز الدرج نحو الأسفل اثنتان اثنتان...
بوجه معتم غاب عنه الخجل، وقفت على عتبة بابها..
أناظر الجميع بكبرياء وأنفة..
. ثوان صامتة....
ثم أطلقت قنبلتي في وجوههن... //غداً في مثل هذا الوقت..لا أريد أياً منكن في بيتي!!
تجاهلت نظرات الجدة الغاضبة،
وأفواههن الفاغرة،
أغلقت الباب بهدوء مفتعل
.... و دخلت المطبخ...
أعد قهوتي السمراء.

ام يامن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.