الصفحات

اسقِ العطاش | قصة قصيرة | سمر أحمد تغلبي

اختبأتُ في زاوية الصنبور، ألقي السمع لما يدور خارجاً.. كنتُ أستمع إلى الحديث باهتمامٍ بالغ.. أصواتٌ تعلو وتنخفض مابين الغضب والرّجاء والدّعاء.. استطعتُ التقاط بعضها:
هو: إياكم وهدر المياه.. المياه مقطوعة.. سنصبح بلا ماء.. هل تسمعون؟؟
هي: ولماذا هذا الانقطاع؟ لم يمضِ وقتٌ طويل على إصلاح الشبكة.. ما الخطب هذه المرة؟
هو: لا أدري.. يقال إن هناك تدمير للأنابيب أدى إلى تسرب مياه الصرف الصحي إلى أنابيب مياه الشرب..


هي: ماذا؟؟ ألهذا إذن لم أستسغ طعم المياه منذ يومين؟ لا بدّ أنّ شيئاً منها قد تسرّب إلى خزّان المياه قبل انقطاعها.. ولماذا كلّ ذلك؟

هو بإحباط: لا أدري، إلى متى ستبقى هذه الحرب اللعينة التي لم تبقِ ولم تذر ... نسأل الله العافية..

ابتعدت أصواتهم فلم أعد أميّز ما يقولون رغم الضجيج الذي يملأ المكان...حاولتُ الاقتراب من فتحة الصّنبور علّني أسترق السّمع أكثر..
طفلٌ أغلق باب الغرفة وركض مقترباً، بينما فُتِح باب الغرفة مرة أخرى وعلا صوتها: "علاء.. إياك أن تفتح الصنبور وتتركه كعادتك... سنبقى دون ماء لو تصرفتم بالماء على راحتكم"

"حاضر ماما.. سأنظّف نفسي بكأس ماء.. هل يرضيكِ هذا؟ أوف.. ماهذه الحياة؟ لا كهرباء ولاماء.."

ضحكتُ في سري شامتة.. فقد بتُّ أشمئزّ من وجودي في هذا البلد.. فبعد أن كان استخدامي لسقاية الورود ورشّ أعشاب الحدائق العامة فضلاً عن غسل السيارات والجدران وأرصفة الشوارع، بات استخدامي الأكثر هو لغسيل الدماء وإزالة آثار الأشلاء من الطرقات...يالها من مهمة مقزّزة...
كم أحنّ لأيام كنا فيها نشتكي من هدرنا... يالهذا الهدر الجميل، هدرٌ يملأ الدنيا بالورود والنباتات وعبق التراب النّديّ... تراها تعود تلك الأيام؟ ... ليتها تعود، ولن أشتكي من الهدر، بل سأبتسم له، وأستمتع بنسائم الفجر المحمّلة بندى رياحين ماكانت لولا سقياي... سأتبختر بعملي وأتباهى بمهمتي رغم الهدر...

قطعت شرودي أصواتٌ تعالت بالقرب من الصنبور... شيءٌ ما يسحبني نحو الخارج... حاولتُ الامتناع فما استطعت... تدلّيتُ من فوهة الصنبور، تعلّقت قليلاً به متأرجحة متبخترةً أمامهم حتى سقطت... لقد كنتُ القطرة الأخيرة...

صاروا على مرأى مني يتحدثون...

صرخت الأم بولدها الشاب الذي دخل للتوّ: " ألم أقل لك أن تتصل بصاحب الصهريج ليأتينا بماء من أيّ بئرٍ كان... المهم ماء... لِمَ لمْ تفعل؟؟"

أجاب:
"قد فعلت... ولكن كيف سيتم ضخّ الماء بلا كهرباء؟؟ قال لي إنه سيحضر فور مجيء الكهرباء"

"حسناً.. سننتظر.."
أجابت الأم بإحباط، وأخذت تتابع أعمالها التي لا تحتاج إلى مياه...

مضى وقتٌ قبل أن يوقظني الضوء في المنزل... جاءت الكهرباء إذن..
أصختُ السمع، حاولتُ أن أمتدّ على حوافّ الحوض علّني أرى شيئاً.. لكن لا شيء سوى الأصوات المتبعثرة من داخل الغرفة..فجأة علا صوت الأم:

"لماذا لم يحضر حتى الآن؟؟ هاقد جاءت الكهرباء.."

أجابها الابن:
"لا أدري..قال إنه سيأتي... سأتصل به حالاً"

تدخّل الأب قائلاً:
"لاداعي للاتصال... انظرا إلى الساعة وستعرفان السبب.."

اختفت الأصوات ولم أفهم شيئاً... لقد أشفقتُ عليهم رغم انزعاجي من أهل هذا البلد...
لكن يبدو أن هذه العائلة لا علاقة لها بالدماء ولا بالأشلاء... وكما يظهر من بساطتهم لا علاقة لهم حتى بالهدر الذي كان مزعجاً قبلاً...

يا الله ... ماهذه الحروب التي يدفع ثمنها أناسٌ لا ناقة لهم فيها ولا جمل.. يالهم من مساكين... كيف سيقضون ليلتهم بلا ماء؟؟ ليتني أستطيع مساعدتهم... ولكنني أضعف منهم ... إن أنا إلا قطرة ماءٍ تنقّلت من أنبوبٍ إلى أنبوبٍ منذ أن احتُبستُ في باطن الأرض ماءً زلالاً...

لكن لماذا أشفق عليهم أكثر مما أشفق على نفسي؟ هاهي نهايتي.. سقطتُ أخيراً في حوضٍ دون أيّ مهمّة... وسأجفّ إن لم يأتيني المدد...ولكن... ماعلاقة الساعة بصهريج المياه؟ لابد أن لها مدلولاً واضحاً... وإلا لماذا ساد هذا الصمت المرعب بعد الحديث عنها؟؟

استجمعتُ ما بقي لديّ من قوة لأنظر إلى الساعة المعلّقة على الجدار المقابل...

يا الله... لقد عرفت...

إنها الثامنة مساء... مضى ساعة على بدء توقيت منع التجوّل...!!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يمنع نشر أي تعليق مسيء للأديان السماوية, أو يدعو للتفرقة المذهبية والتطرف, كما يمنع نشر أي موضوع أو خبر متعلق بأنشطة إرهابية بكافة أنواعها أو الدعوة لمساندتها ودعمها,أو إساءة للشخصيات العامة
كُل المحتوي و التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع .
بعض صور الشعراء و الشاعرات غير صحيحة، نرجو تبليغنا إن واجهت هذى المشكلة
إدارة الموقع لا تتابع التعليقات المنشورة او تقوم بالرد عليها إلى نادراً.