⏫⏬
عرفته منذ كنت شبلا في منظمة الأشبال الشيوعية في الناصرة، كان يميل الى الضخامة وشديد السمرة.
خصص له مسؤولو الحركة زاوية خاصة في النادي، أقام فيها مقصفا بسيطا للمشروبات الخفيفة الباردة والساخنة، الى جانب بعض
الساندويشات السريعة التحضير، وكنا نسمي زاويته “المطبخ” !
لنتفق ان اسمه كان “ابو سكر” انا غير معني بكشف اسمه الحقيقي لأسباب عديدة أهمها انه كشخص هو غير مهم اليوم ولم يكن مهما اثناء حياته، حكايته اضحت من سجلات تُذكر بسخرية ضمن حلقات صغيرة عاشت تلك الأيام العاصفة.
فجأة اختفى “ابو سكر” من “المطبخ”. حل مكانة عضو شاب من الحركة. للوهلة الأولى لم يعن لي الأمر شيئا. ردا على ما سمعناه من الأعضاء الكبار حول ذم “ابو سكر” وغضب أعضاء النادي منه، استفسرنا من مرشدتنا عما حدث. أخبرتنا عابسة: انه عميل للمخابرات. لم نكن بجيل قادر على فهم معنى “عميل للمخابرات”. زادتنا المرشدة شرحا بقولها: "يعني جاسوس"!!
هذه الإضافة صعبت علينا الفهم أكثر. شعرنا اننا امام طلاسم لن نفهمها ونحن بالكاد تجاوزنا العقد الأول من عمرنا.
عميل مخابرات؟ جاسوس؟ كلمات جديدة تخترق عالمنا لا تعني لنا شيئا. تواصلت تساؤلاتنا برغبة تصر على الفهم. اضافت المرشدة تفسيرات أخرى، قالت: كان “ابو سكر” ينقل للسلطة وشرطتها اسماء اعضاء الحركة وما يقولون في اجتماعاتهم، وبسببه اعتقلت الشرطة عددا من رفاقنا وسجنوا. المسألة بدت أكثر وضوحا. فهمنا انه فساد للشرطة. اضافت المرشدة: انه عدو للشعب الذي نحن من ابنائه وحركتنا تتولى الدفاع عن مطالبه وحقوقه وهو خان حركتنا.
ربما لم نستوعب وقتها المعاني الكاملة، ولكن الحدث كان نافذتنا التي اطللنا منها على واقعنا الاجتماعي والسياسي. بدأنا نفهم اننا ننتمي الى تنظيم لا تحبه الشرطة وتلاحق اعضائه. نحن ايضا اعضاء في هذا التنظيم ولا نشعر بأن الشرطة تلاحقنا؟ قالت المرشدة اننا أصغر من الجيل الذي يجعل الشرطة تلاحقنا وتعتقلنا وتسجننا، عندما نصبح شبابا سيكون الامتحان الصعب لنا، من يصمد يواصل نضاله من أجل الشعب ومن يسقط يصبح جاسوسا للشرطة مثل “ابو سكر”.
بالطبع لا نريد ان نكون نموذجا مماثلا ل “أبو سكر”.
هكذا بدأت طريقي في السياسة، وكانت بداية تشكل وعيي ومفاهيمي الأولية السياسية والاجتماعية.
مضت الأيام، صرت قائدا في الشبيبة الشيوعية، ثم اوفدت للدراسة الى "معهد العلوم الاجتماعية" في موسكو (الاتحاد السوفييتي آنذاك) المشهور باسم “المعهد الشيوعي الدولي”. عدت للعمل السياسي والصحفي والتثقيفي. صار “ابو سكر” من الماضي المنسي، لكن حدث ما اعاد “ابو سكر” لذاكرتي، وأيقظ ذكريات بداية تفتح وعيي ومفاهيمي السياسية.
ضمن نشاطي الصحفي كعضو هيئة تحرير مجلة “الغد” للشبيبة الشيوعية، كلفت بمهمة اجراء تحقيق حول معلومات عن مضايقات وتجاوزات جنسية لطالبات قام بها مدير احدى المدارس.
دخلت المدرسة وإذا امامي يقف شخصا يسد طريقي بجسمه الضخم. وجهه كان مألوفا لي، لم استصعب معرفته فورا، “ابو سكر” نفسه الذي لم اصادفه منذ عقد ونصف العقد السنين. كان أكثر سمنة، أكثر شراسة في نظراته مما عرفته من ايام عضويتي في حركة الأشبال. هل يشعر ان له ظهرا قويا الآن؟
لم افهم ما هو دوره في المدرسة؟ لماذا يسد طريقي لغرف الادارة؟ توقعت ان يكون حارسا، ثم تبين لي انه صاحب “كيوسك” وينفذ “مهمات خاصة”.
صرخ بوجهي بدون مقدمات: ممنوع الدخول!! قلت له اول جملة خطرت في ذهني: “ابو سكر” نفسه؟ صرخ: أخرج!! سألته: باي صفة تكلمني؟ وأضفت: اذكرك من نادي الشبيبة الشيوعية، هل تريد ان أشرح للطلاب ما اعرفه عن سبب طردك من الحزب الشيوعي؟!
كان معي عدد من رفاقي، تجمع حولنا أيضا عدد من رفاقنا الطلاب. أسمعوا “ابو سكر” كلمات لا تفسر على وجهين. يبدو انه فهم ان “الغلبة” الى جانبي، انسحب وهو يهدد باستدعاء الشرطة.
المدير رفض ان يقابلني كما هو متوقع وطلب مني ان اغادر المدرسة فورا والا سيقدّم شكوى للشرطة. لم يكن أي تبرير لبقائي. غادرت المدرسة.
مساءً وصلني اتصالٌ من معلم طلب عدم كشف اسمه، التقيته في منزل قريب لي وصديق شخصي له وهو الذي اعطاه رقم تلفوني. سرد في اللقاء بيننا تفاصيل مذهلة عن تصرفات لا تليق بشخص يعمل في التربية وكان يحمل العديد من الاعترافات المسجلة، أو “الشهادات الشخصية” لطالبات حول تصرفات المدير معهن. لو حدث هذا اليوم لزج به في السجن لسنوات طويلة. فيما بعد نشرت التحقيق بدون اسماء وبأسلوب السرد القصصي حتى لا اعرض الطالبات لأي ضرر، الى جانب معلومات اخرى ليست أقل شأنا عن معلم نقد الماركسية ب 35 بندا في دوسية (ملف) مدنيات أعدها لتعليم الطلاب، اظهر فيها غبائه الشديد اذ فسر الديالكتيك بالميتافيزياء بخربشة قلم، وكل ما نقضه من الماركسية لا علاقة له بالماركسية. كانت كوميديا تليق بمسرح التهريج وليس التعليم.
المدير “عُزل” فيما بعد بترفيعه الى منصب اعلى!!
المعلم، ناقد الفكر الماركسي، صار نائبا للمدير رغم انه كان معلما مؤقتا وفاشلا، ثبت ورفع.
الطلاب قاطعوا “ابو سكر” بعد ان وصلتهم افعاله وعمالته للمخابرات، فأغلق الكيوسك بعد فترة لم تطل واختفى من الصورة مرة أخرى!!
المعلم ناقد الماركسية تلقى اجوبة قاطعة من طلابه بعد ان شاركوا بسلسلة محاضرات توضيحية عن ماركسية ماركس و”ماركسية” المعلم.
****
بعد أكثر من ثلاثة عقود من لقائي الثاني والأخير مع “ابو سكر” سمعت عنه قصة لم استطع الا ان اسجلها.
التقيت مع صديق من ايام الدراسة الابتدائية وايام نشاطنا في الشبيبة الشيوعية، تجددت علاقتنا قبل فترة وجيزة، اي بعد تباعد استمر أكثر من أربعة عقود.
ذكرنا بالصدفة في احاديثنا المتبادلة ذكرياتنا عن “أبو سكر” اياه، حدثت صديقي عن لقائي الثاني مع “ابو سكر” اثناء عملي في مجلة “الغد” الشبابية الشيوعية قبل اربعين عاما. قال صديقي بحماسة لم اتوقعها: سأحدثك حكاية عن “ابو سكر” لا يعرفها الان من الأحياء غيري.. اذ كنت اعمل في مكتب محام في الناصرة وبالصدفة حضرت محاكمة لا تنسى. أنصت له:
كانت تجري في فترة الحكم العسكري احتفالات تفرض على سكان الناصرة خاصة وعرب اسرائيل عامة، ان يظهروا فرحهم بعيد استقلال اسرائيل والويل للموظف او المعلم الذي يقاطع الاحتفال.
كان “ابو سكر” قد طرد من الحزب الشيوعي بعد فضح عمالته للمخابرات. قبل الاحتفالات بعيد الاستقلال، كانت تعلق أعلام الدولة في المدارس والمكاتب الرسمية والشوارع وكأن المواطنين العرب يتحرقون شوقا للاحتفال باستقلال يشكل ذكرى ليوم نكبتهم القومية.
ما كان يحدث ان بعض الاعلام تختفي تسرق او تلوث او تمزق، على اثر ذلك تنشط الشرطة بحملة اعتقالات تطال أساساً الشيوعيين، رغم انهم ابعد الناس عن مثل هذه التصرفات، لكنهم أعضاء الحزب الوحيد الذي يقف ضد السلطة وممارساتها، أعضائه هم الأسهل للاعتقال والاتهام بما تراه الشرطة مقبولا عليها، كان هذا جزءاً من سياسة قمع القوة السياسية التي تتجرأ على نقد السلطة والتحريض عليها والتصدي لمشاريعها.
ما هي علاقة “ابو سكر” بهذه الأحداث؟
بعد طرده وبهدلته بين الناس، صار اسمه أشبه بالشتيمة، الكثيرون قاطعوه، بات منبوذاً ومعزولا.
كانت سرقة الأعلام بكثرة غريبة. دائما يعتقل رفاق الحزب… ليومين ثلاثة ايام، حين لا تجد الشرطة إثباتاً عملياً يربطهم بسرقة الأعلام او تلويثها يطلق سراحهم.
كان اقتراب عيد الاستقلال يعني اقتراب اعتقال رفاق الحزب بسبب سرقة الأعلام الذي صار روتينا معروفا، أجزم ان الشرطة متأكدة ان من تعتقلهم لا علاقة لهم بالسرقة، لكنها اوامر الحكم العسكري التعسفية، فهو جهاز السلطة الذي فرضته دولة اسرائيل، بعد نكبة 1948، ليتحكم بحياة العرب في اسرائيل (الغي عام 1965) !!
حدثت مفاجأة كشفت من كان يسرق الأعلام ولكن بعد فترة طويلة، بعد ان صار الحكم العسكري من ذكريات الماضي، وبعد ان تكاثرت الأحزاب العربية مثل فطريات الصيف، وانتهى عصر القمع البوليسي والارهاب السلطوي بشكله المباشر القديم.
انكشفت تفاصيل قصص سرقة الأعلام في رحلة مدرسية الى طبريا، شارك فيها أحد اولاد “ابو سكر”.
على شاطئ البحيرة، قلع الأولاد ملابسهم لينزلوا البحيرة بكلاسين السباحة وكان ابن “ابو سكر” بينهم والشاطئ مليء بمصطافين يهود وكلٌّ بحاله.
نزل ابن “ابو سكر” الى البحيرة بكلسون سباحة مفصل من علم للدولة ونجمة داوود الزرقاء، التي تتوسط العلم عادة، برزت كاملة امام عضوه التناسلي.
في البداية ضحك الأولاد والمعلمون… المسكين لم يفهم ما يدعوهم للضحك. فهو ينزل البحيرة بكلسون سباحة أبيض ازرق. شيئا فشيئا انتبه بعض اليهود على الشاطئ الى الكلسون الغريب والنجمة الزرقاء التي تتوسط العضو التناسلي للولد العربي. شاع الخبر بين اليهود على الشاطئ وتجمعوا باحتجاج وغضب معتبرين الأمر إهانة لعلم الدولة. شعر المعلمون بالخوف وأمروا الولد بالخروج وقلع كلسون السباحة فورا. لكن الوضع تأزم مع حضور سيارة شرطة.
وقف الولد المسكين عاجزا عن الفهم والتفسير، اخذت الشرطة اسمه واسم ابيه وأسماء المعلمين وأمرتهم بمغادرة الشاطئ فوراً، خوفاً من رد فعل بعض المتطرفين اليهود، طبعا صودر كلسون السباحة كدليل على الجريمة.
اعتقلت الشرطة في نفس الليلة “ابو سكر” وحققت معه. اعترف ان لديه كمية اعلام، لم يجد رواية للتغطية على وجود الكثير من اعلام الدولة في بيته ولماذا ابنه يرتدي كلسون سباحة ونجمة الدولة امام عضوه التناسلي مهينا بذلك مشاعر المواطنين اليهود وشعار الدولة؟!
بعد ضغط الشرطة وتهديدها، اضطر ابو سكر للاعتراف انه “خبأ” بعض الأعلام ليعاقب الشيوعيين الذين فضحوه، وانه هو ابن الحكومة لم يقصد سرقة الأعلام بل يعتبره علم دولته الحبيبة، أقسم أغلظ الايمان ان قصده كان ان تعاقب الشرطة أعداء الدولة الشيوعيين. اعترف ايضا ان وضعه الاقتصادي الصعب اضطر ام الأولاد، بأمر منه وليس بقصد منها، ان تفصل لهم ملابس داخلية من الأعلام، ان تعد بعض أغطية المخدات وشراشف للأسرة، لأنه يرى بذلك شرفا له وليس اهانة لعلم دولته!!
وتساءل: ما قيمة العلم ان يظل مطوياً في الخزائن بلا استعمال؟
سرقة الأعلام أصبحت من الماضي الذي لا مجال لمحاسبته عليه اليوم بسبب قدم الحادث، لكن إهانة علم الدولة بتفصيل كلسون سباحة ونجمة الدولة امام العضو التناسلي لولد عربي، هذا غير محمول حتى لو كان “ابو سكر” ابن هرتسل نفسه!!
قدم للمحاكمة بسبب إهانته رموز الدولة بتحويلها الى غيارات داخلية وكلاسين سباحة وأغطية مخدات وشراشف وغير ذلك من الاستعمالات المنزلية.
كان في الناصرة قاضيا تأسره الحكايات النادرة والقضايا الغريبة التي تصل للمحكمة. كان تبريراً مضحكاً لقضية غير سياسية، قادر ان يخرج المتهم بريئاً، الحكايات العديدة عن ذلك القاضي صارت جزءا من تراث المدينة.
ظهر المتهم “ابو سكر” بعد أن أخبر المحققين بكل ما ارتكبه من تجاوزات لم يعد مجالا لمحاكمته عليها بفعل التقادم. لكن النيابة اوردت الحكاية من ألفها الى يائها، لتصل الى تلخيص التلخيص حول النجمة التي توسطت عضو الولد التناسلي، الأمر الذي سبب غضبا يهوديا ولولا سرعة تصرف الشرطة لوقع ما لا تحمد عقباه. التهمة اثارت ضحك القاضي بل قهقهته لدرجة دمعت عيناه. المتهم أصرَّ ان الزوجة بريئة لأنها نفذت أوامره. القاضي لم يكتف بما روته النيابة، اراد ان يستمع للقصة من الفها الى يائها من “ابو سكر”. نادرة من هذا الشكل لا تقع كل يوم بين يديه. روى “ابو سكر” بتردد في البداية، ثم بحماس عندما لحظ ان القاضي يتمتع بالحكاية، كيف سرق الأعلام لينتقم من الشيوعيين. ضحك الحضور فأخرسهم القاضي الذي لم يكف عن الابتسام وامساك ضحكته من الانفلات. ثم تحدث عن ضيق ذات اليد وطلبه من ام الأولاد ان تستغل الأعلام لما فيه خير الأولاد والبيت. انتقامه من الشيوعيون انجز على اكمل وجه وانتهى الأمر بالتقادم.
كانت المحكمة مسرحية كوميدية من الدرجة الأولى.
سأله القاضي: الا تعرف ان وضع نجمة داوود، رمز الدولة، امام عضو ابنك التناسلي (نطقه بالعامية) يعتبر اهانة للعلم والدولة التي تظن انك تخدمها؟
رد “ابو سكر”: يا سيدي القاضي، الولد أخطأ ولبس المايوه معكوسا، كان يجب ان تكون النجمة على قفاه، ليس لإهانة رمز دولتنا، الله يقويها، انما لحماية قفا ابني من المنحرفين، عندما يرون النجمة على قفاه.. سيرتدعوا خوفا من الدولة.. ولكنه أخطأ ولبسه معكوسا، والله ستر الولد!!
انفجر القاضي بالضحك.. وضجت قاعة المحكمة بضحك الحضور الصاخب، حتى ممثل النيابة اليهودي ضحك ودمعت عيناه بعد ان ترجمت له أقوال المتهم.
قرر القاضي إدانة “ابو سكر” بالسجن لشهرين مع وقف التنفيذ لسنة كاملة!!
اي خرج مثل الشعرة من العجينة، لأنه لا مجال لتكرار سرقة الأعلام من جديد.
nabiloudeh@gmail.com
عرفته منذ كنت شبلا في منظمة الأشبال الشيوعية في الناصرة، كان يميل الى الضخامة وشديد السمرة.
خصص له مسؤولو الحركة زاوية خاصة في النادي، أقام فيها مقصفا بسيطا للمشروبات الخفيفة الباردة والساخنة، الى جانب بعض
الساندويشات السريعة التحضير، وكنا نسمي زاويته “المطبخ” !
لنتفق ان اسمه كان “ابو سكر” انا غير معني بكشف اسمه الحقيقي لأسباب عديدة أهمها انه كشخص هو غير مهم اليوم ولم يكن مهما اثناء حياته، حكايته اضحت من سجلات تُذكر بسخرية ضمن حلقات صغيرة عاشت تلك الأيام العاصفة.
فجأة اختفى “ابو سكر” من “المطبخ”. حل مكانة عضو شاب من الحركة. للوهلة الأولى لم يعن لي الأمر شيئا. ردا على ما سمعناه من الأعضاء الكبار حول ذم “ابو سكر” وغضب أعضاء النادي منه، استفسرنا من مرشدتنا عما حدث. أخبرتنا عابسة: انه عميل للمخابرات. لم نكن بجيل قادر على فهم معنى “عميل للمخابرات”. زادتنا المرشدة شرحا بقولها: "يعني جاسوس"!!
هذه الإضافة صعبت علينا الفهم أكثر. شعرنا اننا امام طلاسم لن نفهمها ونحن بالكاد تجاوزنا العقد الأول من عمرنا.
عميل مخابرات؟ جاسوس؟ كلمات جديدة تخترق عالمنا لا تعني لنا شيئا. تواصلت تساؤلاتنا برغبة تصر على الفهم. اضافت المرشدة تفسيرات أخرى، قالت: كان “ابو سكر” ينقل للسلطة وشرطتها اسماء اعضاء الحركة وما يقولون في اجتماعاتهم، وبسببه اعتقلت الشرطة عددا من رفاقنا وسجنوا. المسألة بدت أكثر وضوحا. فهمنا انه فساد للشرطة. اضافت المرشدة: انه عدو للشعب الذي نحن من ابنائه وحركتنا تتولى الدفاع عن مطالبه وحقوقه وهو خان حركتنا.
ربما لم نستوعب وقتها المعاني الكاملة، ولكن الحدث كان نافذتنا التي اطللنا منها على واقعنا الاجتماعي والسياسي. بدأنا نفهم اننا ننتمي الى تنظيم لا تحبه الشرطة وتلاحق اعضائه. نحن ايضا اعضاء في هذا التنظيم ولا نشعر بأن الشرطة تلاحقنا؟ قالت المرشدة اننا أصغر من الجيل الذي يجعل الشرطة تلاحقنا وتعتقلنا وتسجننا، عندما نصبح شبابا سيكون الامتحان الصعب لنا، من يصمد يواصل نضاله من أجل الشعب ومن يسقط يصبح جاسوسا للشرطة مثل “ابو سكر”.
بالطبع لا نريد ان نكون نموذجا مماثلا ل “أبو سكر”.
هكذا بدأت طريقي في السياسة، وكانت بداية تشكل وعيي ومفاهيمي الأولية السياسية والاجتماعية.
مضت الأيام، صرت قائدا في الشبيبة الشيوعية، ثم اوفدت للدراسة الى "معهد العلوم الاجتماعية" في موسكو (الاتحاد السوفييتي آنذاك) المشهور باسم “المعهد الشيوعي الدولي”. عدت للعمل السياسي والصحفي والتثقيفي. صار “ابو سكر” من الماضي المنسي، لكن حدث ما اعاد “ابو سكر” لذاكرتي، وأيقظ ذكريات بداية تفتح وعيي ومفاهيمي السياسية.
ضمن نشاطي الصحفي كعضو هيئة تحرير مجلة “الغد” للشبيبة الشيوعية، كلفت بمهمة اجراء تحقيق حول معلومات عن مضايقات وتجاوزات جنسية لطالبات قام بها مدير احدى المدارس.
دخلت المدرسة وإذا امامي يقف شخصا يسد طريقي بجسمه الضخم. وجهه كان مألوفا لي، لم استصعب معرفته فورا، “ابو سكر” نفسه الذي لم اصادفه منذ عقد ونصف العقد السنين. كان أكثر سمنة، أكثر شراسة في نظراته مما عرفته من ايام عضويتي في حركة الأشبال. هل يشعر ان له ظهرا قويا الآن؟
لم افهم ما هو دوره في المدرسة؟ لماذا يسد طريقي لغرف الادارة؟ توقعت ان يكون حارسا، ثم تبين لي انه صاحب “كيوسك” وينفذ “مهمات خاصة”.
صرخ بوجهي بدون مقدمات: ممنوع الدخول!! قلت له اول جملة خطرت في ذهني: “ابو سكر” نفسه؟ صرخ: أخرج!! سألته: باي صفة تكلمني؟ وأضفت: اذكرك من نادي الشبيبة الشيوعية، هل تريد ان أشرح للطلاب ما اعرفه عن سبب طردك من الحزب الشيوعي؟!
كان معي عدد من رفاقي، تجمع حولنا أيضا عدد من رفاقنا الطلاب. أسمعوا “ابو سكر” كلمات لا تفسر على وجهين. يبدو انه فهم ان “الغلبة” الى جانبي، انسحب وهو يهدد باستدعاء الشرطة.
المدير رفض ان يقابلني كما هو متوقع وطلب مني ان اغادر المدرسة فورا والا سيقدّم شكوى للشرطة. لم يكن أي تبرير لبقائي. غادرت المدرسة.
مساءً وصلني اتصالٌ من معلم طلب عدم كشف اسمه، التقيته في منزل قريب لي وصديق شخصي له وهو الذي اعطاه رقم تلفوني. سرد في اللقاء بيننا تفاصيل مذهلة عن تصرفات لا تليق بشخص يعمل في التربية وكان يحمل العديد من الاعترافات المسجلة، أو “الشهادات الشخصية” لطالبات حول تصرفات المدير معهن. لو حدث هذا اليوم لزج به في السجن لسنوات طويلة. فيما بعد نشرت التحقيق بدون اسماء وبأسلوب السرد القصصي حتى لا اعرض الطالبات لأي ضرر، الى جانب معلومات اخرى ليست أقل شأنا عن معلم نقد الماركسية ب 35 بندا في دوسية (ملف) مدنيات أعدها لتعليم الطلاب، اظهر فيها غبائه الشديد اذ فسر الديالكتيك بالميتافيزياء بخربشة قلم، وكل ما نقضه من الماركسية لا علاقة له بالماركسية. كانت كوميديا تليق بمسرح التهريج وليس التعليم.
المدير “عُزل” فيما بعد بترفيعه الى منصب اعلى!!
المعلم، ناقد الفكر الماركسي، صار نائبا للمدير رغم انه كان معلما مؤقتا وفاشلا، ثبت ورفع.
الطلاب قاطعوا “ابو سكر” بعد ان وصلتهم افعاله وعمالته للمخابرات، فأغلق الكيوسك بعد فترة لم تطل واختفى من الصورة مرة أخرى!!
المعلم ناقد الماركسية تلقى اجوبة قاطعة من طلابه بعد ان شاركوا بسلسلة محاضرات توضيحية عن ماركسية ماركس و”ماركسية” المعلم.
****
بعد أكثر من ثلاثة عقود من لقائي الثاني والأخير مع “ابو سكر” سمعت عنه قصة لم استطع الا ان اسجلها.
التقيت مع صديق من ايام الدراسة الابتدائية وايام نشاطنا في الشبيبة الشيوعية، تجددت علاقتنا قبل فترة وجيزة، اي بعد تباعد استمر أكثر من أربعة عقود.
ذكرنا بالصدفة في احاديثنا المتبادلة ذكرياتنا عن “أبو سكر” اياه، حدثت صديقي عن لقائي الثاني مع “ابو سكر” اثناء عملي في مجلة “الغد” الشبابية الشيوعية قبل اربعين عاما. قال صديقي بحماسة لم اتوقعها: سأحدثك حكاية عن “ابو سكر” لا يعرفها الان من الأحياء غيري.. اذ كنت اعمل في مكتب محام في الناصرة وبالصدفة حضرت محاكمة لا تنسى. أنصت له:
كانت تجري في فترة الحكم العسكري احتفالات تفرض على سكان الناصرة خاصة وعرب اسرائيل عامة، ان يظهروا فرحهم بعيد استقلال اسرائيل والويل للموظف او المعلم الذي يقاطع الاحتفال.
كان “ابو سكر” قد طرد من الحزب الشيوعي بعد فضح عمالته للمخابرات. قبل الاحتفالات بعيد الاستقلال، كانت تعلق أعلام الدولة في المدارس والمكاتب الرسمية والشوارع وكأن المواطنين العرب يتحرقون شوقا للاحتفال باستقلال يشكل ذكرى ليوم نكبتهم القومية.
ما كان يحدث ان بعض الاعلام تختفي تسرق او تلوث او تمزق، على اثر ذلك تنشط الشرطة بحملة اعتقالات تطال أساساً الشيوعيين، رغم انهم ابعد الناس عن مثل هذه التصرفات، لكنهم أعضاء الحزب الوحيد الذي يقف ضد السلطة وممارساتها، أعضائه هم الأسهل للاعتقال والاتهام بما تراه الشرطة مقبولا عليها، كان هذا جزءاً من سياسة قمع القوة السياسية التي تتجرأ على نقد السلطة والتحريض عليها والتصدي لمشاريعها.
ما هي علاقة “ابو سكر” بهذه الأحداث؟
بعد طرده وبهدلته بين الناس، صار اسمه أشبه بالشتيمة، الكثيرون قاطعوه، بات منبوذاً ومعزولا.
كانت سرقة الأعلام بكثرة غريبة. دائما يعتقل رفاق الحزب… ليومين ثلاثة ايام، حين لا تجد الشرطة إثباتاً عملياً يربطهم بسرقة الأعلام او تلويثها يطلق سراحهم.
كان اقتراب عيد الاستقلال يعني اقتراب اعتقال رفاق الحزب بسبب سرقة الأعلام الذي صار روتينا معروفا، أجزم ان الشرطة متأكدة ان من تعتقلهم لا علاقة لهم بالسرقة، لكنها اوامر الحكم العسكري التعسفية، فهو جهاز السلطة الذي فرضته دولة اسرائيل، بعد نكبة 1948، ليتحكم بحياة العرب في اسرائيل (الغي عام 1965) !!
حدثت مفاجأة كشفت من كان يسرق الأعلام ولكن بعد فترة طويلة، بعد ان صار الحكم العسكري من ذكريات الماضي، وبعد ان تكاثرت الأحزاب العربية مثل فطريات الصيف، وانتهى عصر القمع البوليسي والارهاب السلطوي بشكله المباشر القديم.
انكشفت تفاصيل قصص سرقة الأعلام في رحلة مدرسية الى طبريا، شارك فيها أحد اولاد “ابو سكر”.
على شاطئ البحيرة، قلع الأولاد ملابسهم لينزلوا البحيرة بكلاسين السباحة وكان ابن “ابو سكر” بينهم والشاطئ مليء بمصطافين يهود وكلٌّ بحاله.
نزل ابن “ابو سكر” الى البحيرة بكلسون سباحة مفصل من علم للدولة ونجمة داوود الزرقاء، التي تتوسط العلم عادة، برزت كاملة امام عضوه التناسلي.
في البداية ضحك الأولاد والمعلمون… المسكين لم يفهم ما يدعوهم للضحك. فهو ينزل البحيرة بكلسون سباحة أبيض ازرق. شيئا فشيئا انتبه بعض اليهود على الشاطئ الى الكلسون الغريب والنجمة الزرقاء التي تتوسط العضو التناسلي للولد العربي. شاع الخبر بين اليهود على الشاطئ وتجمعوا باحتجاج وغضب معتبرين الأمر إهانة لعلم الدولة. شعر المعلمون بالخوف وأمروا الولد بالخروج وقلع كلسون السباحة فورا. لكن الوضع تأزم مع حضور سيارة شرطة.
وقف الولد المسكين عاجزا عن الفهم والتفسير، اخذت الشرطة اسمه واسم ابيه وأسماء المعلمين وأمرتهم بمغادرة الشاطئ فوراً، خوفاً من رد فعل بعض المتطرفين اليهود، طبعا صودر كلسون السباحة كدليل على الجريمة.
اعتقلت الشرطة في نفس الليلة “ابو سكر” وحققت معه. اعترف ان لديه كمية اعلام، لم يجد رواية للتغطية على وجود الكثير من اعلام الدولة في بيته ولماذا ابنه يرتدي كلسون سباحة ونجمة الدولة امام عضوه التناسلي مهينا بذلك مشاعر المواطنين اليهود وشعار الدولة؟!
بعد ضغط الشرطة وتهديدها، اضطر ابو سكر للاعتراف انه “خبأ” بعض الأعلام ليعاقب الشيوعيين الذين فضحوه، وانه هو ابن الحكومة لم يقصد سرقة الأعلام بل يعتبره علم دولته الحبيبة، أقسم أغلظ الايمان ان قصده كان ان تعاقب الشرطة أعداء الدولة الشيوعيين. اعترف ايضا ان وضعه الاقتصادي الصعب اضطر ام الأولاد، بأمر منه وليس بقصد منها، ان تفصل لهم ملابس داخلية من الأعلام، ان تعد بعض أغطية المخدات وشراشف للأسرة، لأنه يرى بذلك شرفا له وليس اهانة لعلم دولته!!
وتساءل: ما قيمة العلم ان يظل مطوياً في الخزائن بلا استعمال؟
سرقة الأعلام أصبحت من الماضي الذي لا مجال لمحاسبته عليه اليوم بسبب قدم الحادث، لكن إهانة علم الدولة بتفصيل كلسون سباحة ونجمة الدولة امام العضو التناسلي لولد عربي، هذا غير محمول حتى لو كان “ابو سكر” ابن هرتسل نفسه!!
قدم للمحاكمة بسبب إهانته رموز الدولة بتحويلها الى غيارات داخلية وكلاسين سباحة وأغطية مخدات وشراشف وغير ذلك من الاستعمالات المنزلية.
كان في الناصرة قاضيا تأسره الحكايات النادرة والقضايا الغريبة التي تصل للمحكمة. كان تبريراً مضحكاً لقضية غير سياسية، قادر ان يخرج المتهم بريئاً، الحكايات العديدة عن ذلك القاضي صارت جزءا من تراث المدينة.
ظهر المتهم “ابو سكر” بعد أن أخبر المحققين بكل ما ارتكبه من تجاوزات لم يعد مجالا لمحاكمته عليها بفعل التقادم. لكن النيابة اوردت الحكاية من ألفها الى يائها، لتصل الى تلخيص التلخيص حول النجمة التي توسطت عضو الولد التناسلي، الأمر الذي سبب غضبا يهوديا ولولا سرعة تصرف الشرطة لوقع ما لا تحمد عقباه. التهمة اثارت ضحك القاضي بل قهقهته لدرجة دمعت عيناه. المتهم أصرَّ ان الزوجة بريئة لأنها نفذت أوامره. القاضي لم يكتف بما روته النيابة، اراد ان يستمع للقصة من الفها الى يائها من “ابو سكر”. نادرة من هذا الشكل لا تقع كل يوم بين يديه. روى “ابو سكر” بتردد في البداية، ثم بحماس عندما لحظ ان القاضي يتمتع بالحكاية، كيف سرق الأعلام لينتقم من الشيوعيين. ضحك الحضور فأخرسهم القاضي الذي لم يكف عن الابتسام وامساك ضحكته من الانفلات. ثم تحدث عن ضيق ذات اليد وطلبه من ام الأولاد ان تستغل الأعلام لما فيه خير الأولاد والبيت. انتقامه من الشيوعيون انجز على اكمل وجه وانتهى الأمر بالتقادم.
كانت المحكمة مسرحية كوميدية من الدرجة الأولى.
سأله القاضي: الا تعرف ان وضع نجمة داوود، رمز الدولة، امام عضو ابنك التناسلي (نطقه بالعامية) يعتبر اهانة للعلم والدولة التي تظن انك تخدمها؟
رد “ابو سكر”: يا سيدي القاضي، الولد أخطأ ولبس المايوه معكوسا، كان يجب ان تكون النجمة على قفاه، ليس لإهانة رمز دولتنا، الله يقويها، انما لحماية قفا ابني من المنحرفين، عندما يرون النجمة على قفاه.. سيرتدعوا خوفا من الدولة.. ولكنه أخطأ ولبسه معكوسا، والله ستر الولد!!
انفجر القاضي بالضحك.. وضجت قاعة المحكمة بضحك الحضور الصاخب، حتى ممثل النيابة اليهودي ضحك ودمعت عيناه بعد ان ترجمت له أقوال المتهم.
قرر القاضي إدانة “ابو سكر” بالسجن لشهرين مع وقف التنفيذ لسنة كاملة!!
اي خرج مثل الشعرة من العجينة، لأنه لا مجال لتكرار سرقة الأعلام من جديد.
nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق